أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، كان العالم أجمع على أعتاب حدث سيغير التاريخ، حين عبَرَ الرحالة الإيطالي كريستوفر كولومبوس المحيط الأطلسي، واكتشف الأمريكتين، الشمالية والجنوبية، في زمن كان فيه العرب والمسلمون خارجين لتوّهم من هزيمة الأندلس التي بدّدت الحلم التوسعي الكبير للأمة الإسلامية.
وقتها قيل -أو راج بيننا- إن المسلمين لم يكونوا يعلمون شيئاً عن الأطلسي، وأقصى ما يعرفون عنه أنّ اسمه "بحر الظلمات"، إذ "تَقِلُّ فيه الأضواء من الأشعة المنعكسة على سطح الأرض من الشمس لبُعدِه عن الأرض فيكون مظلماً"، كما أورد ابن خلدون في تاريخه!
لكن هل هذه حقيقة دامغة؟
يوم 15 آذار/مارس عام 1945، نشرت الكاتبة دولت حسن الصغير، مقالةً في مجلة "الرسالة" بعنوان "اقتحم العرب المحيط قبل أن يقتحمه كولومبوس"، وقالت فيها نصاً: "أبناء يعرب جابوا بحر الظلمات قديماً، على أنّ أخبار مقتحميه منهم وما شاهدوا منه وما رأوا لم تلقَ من الناس والمؤرخين الأقدمين اهتماماً كبيراً (...) بيد أنهم لم يجدوا من يؤرخ لهم، ولا ريب أنّ بعضهم حطّ رحاله في ربوع أمريكا الوسطى وجزائرها؛ لذلك لا نعجب أن رأينا فيها كثيراً من الأسماء العربية العائدة إلى الحيوان والطير".
يخبرنا الإدريسي في كتابه أنه في القرن الثالث عشر الميلادي, أي قبل أكثر من قرنين على الأقل من رحلة كولومبوس, خرج ثمانية فتيان من مدينة لشبونة، لركوب بحر الظلمات، ليعرفوا ما فيه وأين ينتهي
ربما تكون دولت حسن الصغير، مُحقةً في ما ذهبت إليه بأن مؤرّخي العرب لم يهتموا بمحاولات المسلمين اقتحام بحر الظلمات، والتي لو تمت العناية برصدها حقاً، فسيكون هناك اتجاه الآن يقول بأن المسلمين هم أول من اكتشف الأمريكتين، وأول من عَبَر الأطلسي!
لكن بالتنقيب في شذرات السطور المتناثرة في كتبنا العربية، سنجد ما يشير إلى ذلك حقاً، ولنبدأ بما رواه المسعودي في كتابه "مروج الذهب ومعادن الجوهر"، بأن المحيط الأطلسي "له أخبار عجيبة وقد أتينا على ذكرها في كتابنا (أخبار الزمان) في أخبار من غُرِّر وخاطر بنفسه في ركوبه، ومن نجا منهم ومن تلف، وما شاهدوا منه وما رأوا".
تقول دولت الصغير، في مقالها، إن التاريخ "لم يحفظ لنا قول المسعودي في أخبار من ركب هذا البحر"، لكن معرفتنا بهم جاءت بشكل أكثر تفصيلاً عند الإدريسي في كتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق".
المغامرون الثمانية في بحر الظلمات
يخبرنا الإدريسي في كتابه، أنه في القرن الثالث عشر الميلادي, أي قبل أكثر من قرنين على الأقل من رحلة كولومبوس, خرج ثمانية فتيان من مدينة لشبونة، لركوب بحر الظلمات، ليعرفوا ما فيه وأين ينتهي، ويعرّفنا الإدريسي بهم أكثر فيقول: "اجتمع ثمانية رجال كلهم أبناء عم، فأنشأوا مركباً حمّالاً، وأدخلوا فيه من الماء والزاد ما يكفيهم لأشهر. ثم دخلوا البحر في أول طاروس الريح الشرقية. فَجَرَوا بها نحو 12 يوماً، فوصلوا إلى بحر غليظ الموج، كدر الروائح، كثير القروش، قليل الضوء، فأيقنوا بالتلف. ثم فَرَدوا قلاعهم في اليد الأخرى، وجروا في البحر في ناحية الجنوب 12 يوماً، فخرجوا إلى جزيرة الغنم، وفيها من الغنم ما لا يأخذه عدّ ولا تحصيل، وهي سارحة لا راعي لها، ولا ناظر إليها. فقصدوا الجزيرة، فنزلوا بها".
يضيف الإدريسي أنهم لما نزلوا الجزيرة، "وجدوا عين ماء جارية وعليها شجرة تين برّي. فأخذوا من تلك الغنم فذبحوها، فوجدوا لحومها مرّةً لا يقدر أحد على أكلها. فأخذوا من جلودها وساروا مع الجنوب 12 يوماً إلى أن لاحت لهم جزيرة فنظروا فيها إلى عمارة وحرث. فقصدوا إليها ليروا ما فيها".
لم يمر الأمر مرور الكرام في تلك الجزيرة، فعلى الفور تم احتجاز الفتية من قِبَل جُندِ الجزيرة، وأحيط بهم في زوارق، ثم "حُمِلُوا في مركبهم إلى مدينة على ضفة البحر، فأُنزلوا بها في دار. فرأوا رجالاً شقراً زعراً شعور رؤوسهم سبطة، وهم طوال القدود، ولنسائهم جمال عجيب".
بعدها، تم اعتقالهم في أحد بيوت الجزيرة ثلاثة أيام، ثم دخل عليهم في اليوم الرابع رجلٌ يتكلم باللسان العربي، فسألهم عن حالهم وسبب مجيئهم، وأين بلدهم، فأخبروه بكل خبرهم. فوعدهم خيراً، وأعلمهم أنه ترجمان الملك.
في اليوم الخامس أتى بهم الجنود للوقوف بين يدي ملك الجزيرة، فسألهم عما سألهم الترجمان عنه، فأخبروه بأنهم اقتحموا البحر ليروا ما فيه من الأخبار والعجائب، ويقفوا على نهايته.
يقول الإدريسي إن الملك لما علم بذلك "ضحك، وقال للترجمان: خبّر القوم أن أبي أمر قوماً من عبيدِه بركوب هذا البحر، وأنهم جروا في عرضه شهراً إلى أن انقطع عنهم الضوء، وانصرفوا في غير حاجة ولا فائدة تُجدي".
يُنهي الإدريسي القصة بأن الملك أمر الترجمان بأن يعدهم خيراً "وأن يحسن ظنّهم بالملك، ففعل. ثم صُرفوا إلى موضع حبسهم إلى أن بدأ جريُ الريح الغربية، فعمرَ بهم زورق، وعُصبت أعينهم، وجرى بهم في البحر برهةً من الدهر".
ولما عاد الفتية الذين وُصفوا من قبل قومهم بأنهم "مغرورون" أو "مُغرّرون"، رووا بقية القصة، فقالوا: "قدرنا أن الزورق جرى بنا ثلاثة أيام بلياليها، حتى جيء بنا إلى البرّ فأُخرجنا، وكُتِّفنا إلى خلف، وتُرِكنا بالساحل إلى أن تضاحى النهار وطلعت الشمس، ونحن في ضنك وسوء حال من شد الأكتاف، حتى سمعنا ضوضاء وأصواتَ ناسٍ فصِحنا بأجمعنا، فأقبل القوم إلينا فوجدونا بتلك الحال السيئة، فحلونا من وثاقنا، وسألونا، فأخبرناهم بخبرِنا. وكانوا برابرةً. فقال لنا أحدهم: أتعلمون كم بينكم وبين بلدكم؟ فقلنا لا، فقال: إن بينكم وبين بلدكم مسيرة شهرين. فقال زعيم القوم: وا أسفي. فسُمّي المكان إلى اليوم أسفي، وهو المرسى في أقصى المغرب".
ماذا نعرف عن تلك الجزيرة؟
لم يُبيّن لنا الإدريسي اسم هذه الجزيرة، لنستشف ما إذا كانت أمريكا حقاً أم مكاناً آخر، وهو ما فتح الباب للمؤرخين لوضع الكثير من التكهنات.
يقول زكي محمد حسن في كتابه "الرحَّالة المسلمون في العصور الوسطى": "إن تكن معالم هذه القصة صادقةً، فإننا لا نستطيع أن نتتبع سير هؤلاء الفتية، لنتبين الجزر التي وطئتها أقدامهم في هذه الرحلة، ولكننا نرجح أنهم وصلوا أولاً إلى مقربة من إحدى جزائر أزور Azores التي تبعد عن غربي البرتغال نحو 1،370 كيلومتراً، والواقعة بين خط 37 وخط 40 من العرض الشمالي، وبين خط 25 وخط 32 من الطول الغربي".
ربما تكون دولت حسن الصغير، مُحقةً في ما ذهبت إليه بأن مؤرّخي العرب لم يهتموا بمحاولات المسلمين اقتحام بحر الظلمات، والتي لو تمت العناية برصدها حقاً، فسيكون هناك اتجاه الآن يقول بأن المسلمين هم أول من اكتشف الأمريكتين، وأول من عبر الأطلسي!
ويضيف زكي: "لما انحدر الفتية إلى الجنوب وساروا اثني عشر يوماً، فالمحتمل أنهم وصلوا إلى جزر ماديرا (...) فلعلها إحدى جزر الخالدات أو الكناري، التي تبعد عن الساحل الشمالي الغربي لإفريقية بنحو مائة كيلومتر والواقعة بين خطي 27 و29 من العرض الشمالي، وبين خط 13 وخط 18 من الطول الغربي. والراجح أن هذه الجزائر كانت معروفةً عند الفينيقيين ثم العرب، وذلك قبل أن يكشفها الأوروبيون ثانيةً في القرن الرابع عشر الميلادي".
أما مصطفى الشهابي، فيقول في كتابه "الجغرافيون العرب": "ولا يُستبعد أن يكون الشاطئ الذي رسوا فيه إحدى جزر أمريكا الجنوبية الواقعة شرق البرازيل، فإن مثل هذه المدة التي قطعوها تحملهم إلى هذه المنطقة، ولا يُستبعد بعد ذلك أن يكون هؤلاء العرب قد استوطنوا هذه الجزيرة، ثم توغلوا في القارة الجنوبية".
لكنّ الباحث أحمد محمد حامد حسين، في رسالته "محاولات المسلمين الجادة في الوصول إلى العالم الجديد"، كان له رأي آخر فيه الكثير من التفصيل، حين قال: "إن رؤية الفتية للرجال الشقر ذوي الشعر السبط، والقدود الطويلة وجمال النساء العجيب تلقي ضوءاً على أن الوصول كان إلى أمريكا، وليس إلى جزر الكناري، فإن هذه الصفات التي وصفوها إنما تنطبق على سكان الأمريكتين من الهنود الحمر سكان البلاد الأصليين".
ويستند الباحث في طرحه إلى أن "كولومبوس وصف نساء الهنود الحمر بجمال عجيب يقارب ما وصفه الفتية المُغرّرون في رحلتهم، ويتضح ذلك من سجن الفتية ووضع العصائب على أعينهم، إذ إن ذلك يدلّ على معرفة الملك بجهل الآخرين بمكان بلاده وصعوبة العودة لطول المسافة والتي دونها لُجج البحار (...) وإن فِعل السجن وعصائب الأعين لم يكن من المنتشر عمله في جزر الكناري التي كانت في أغلب أحيانها طريق التجار والرحالين، وإن أخبارها مشهورة ومعلومة لدى أهالي الأندلس وبلدان العرب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه