لم يدرك المؤرخ المصري الدكتور خالد عزب أن له جذوراً أندلسيةً إلا من جدّته التي كانت تترنم بأشعارٍ أندلسية. ومع تفتّح وعي الرجل ودراسته التاريخ، أدرك تماماً أن تاريخه العائلي كان جزءاً من تاريخ المنطقة بأسرها، فأجداده الذين جاءوا إلى مصر، كانوا أبطال قصّة انسدال ستار الحكم الإسلامي في الأندلس.
وعرفت مصر على مدار تاريخها الممتد شعوباً وثقافات عديدةً، منها من أتى يدقّ طبول الحرب، والبعض جاءها طريداً من بلاده. وكان الأندلسيون ممن وصلوا إلى بلاد النيل، هرباً من البطش الذي أعملته أيدي القشتاليين في شبه جزيرة أيبيريا.
جاءت الموجة الأولى من هجرات الأندلسيين إلى مصر، مع بداية القرن التاسع الميلادي، ثم تكثفت مع طرد الموريسكيين من شبه جزيرة أيبيريا في القرن السابع عشر الميلادي، حيث تركّز وجودهم في شمال البلاد، لا سيّما في قرى ونجوع دلتا النيل، ومدينتَي القاهرة والإسكندرية.
وبرغم انقضاء نحو ألف عام على بداية هجرات الأندلسيين إلى مصر، لا تزال بصماتهم باقيةً في بقاع شتى من البلدات المصرية، إذ لم يكتفِ المهاجرون بالاستقرار في المدن والقرى القائمة وحسب، بل إن بعضهم أسّس مدناً جديدةً، وأدخلوا معهم حِرفاً وزراعات جديدةً، فتركوا خلفهم إرثاً ثرياً، يتقصّى عنه رصيف22، في هذا التقرير.
طرد الموريسكيين
سبق هجرات الأندلسيين إلى مصر وغيرها من البلدان، سياق تاريخي كان بمثابة الزلزال الذي أدّى إلى تغيرات ديمغرافية وثقافية مهولة في منطقة حوض المتوسط بأسرها.
جاءت الموجة الأولى من هجرات الأندلسيين إلى مصر، مع بداية القرن التاسع الميلادي، حيث تركّز وجودهم في شمال البلاد، لا سيّما في قرى ونجوع دلتا النيل، ومدينتَي القاهرة والإسكندرية
يتحدث إلى رصيف22 عن هذه الحقبة محمد الرزاز، وهو أحد المفتونين بتاريخ الأندلس، ومؤلف كتاب "الأندلس: تاريخ الشتات". وفي سبيل تقصّي تاريخ الشتات الأندلسي، خاض الرجل غمار جولات طاف فيها على قرى ونجوع الأندلس، كما جاب أصقاع شمال إفريقيا.
يقول الرزاز الذي يعمل أستاذاً لتراث حوض البحر المتوسط في جامعة كاتالونيا في برشلونة، ومسؤول التكامل الإقليمي في منظمة الاتحاد من أجل المتوسط، إنّ الوجود الإسلامي في إسبانيا والبرتغال الذي بدأ عام 711 م، انهار تدريجياً، إذ إن "سقوط الأندلس" -كما يسميه العرب- لم يحدث في مشهد واحد، لكنه مشهد مستمرّ بدايةً من القرن الحادي عشر الميلادي، حتى انتهاء "حركة الاسترداد المسيحية"، كما سمّاها الإسبان.
ويضيف: "انفرط عقد الأندلس من لحظة انهيار الخلافة الأموية، وتشرذُم الدولة إلى دويلات الطوائف التي تناحرت في ما بينها، حتى سقطت طليطلة في يد الإسبان كأول مدينة كبرى، ثم تتابع مسلسل السقوط، إلى أن وقعت غرناطة -آخر معقل للمسلمين- في يد الملك فرناندو الثاني والملكة إيزابيلا عام 1492".
لم ينهِ سقوط غرناطة الوجودَ الإسلامي في إسبانيا، بل عاش المسلمون في بادئ الأمر في ظل الحكم المسيحي تحت اسم "المدجّنين"، وتمتّعوا بحريتهم، واحتفظوا بممتلكاتهم، وبممارسة شعائرهم، لقاء دفع ضريبة.
لكن، مع تمكُّن محاكم التفتيش من المشهد السياسي، فُرض على المدجنين التحول قسراً إلى المسيحية أو الرحيل، ومنذ تلك اللحظة عُرف المسلمون المدجنون الذين تحولوا إلى المسيحية باسم الموريسكيين.
يقول الرزاز إنّ أصل تسمّية الموريسكيين جاءت من كلمة "مورو"، وهو الاسم الذي أطلقه الرومان قديماً على سكان منطقة المغرب وموريتانيا، ثم عُرف المسلمون بأكملهم بكلمة "مورس".
وبرغم أنّ الموريسكيين أبطنوا الإسلام وأظهروا المسيحية، اتقاءً لشرّ محاكم التفتيش، إلا أن هذا التظاهر لم يشفع لهم، وطعنت فيهم الكنيسة، مدعيةً أن إيمانهم غير صحيح، وأنهم شوكة في ظهر التاج الإسباني، متهمةً إياهم بالتعاون مع الإمبراطورية العثمانية.
استمرّ توجيه الاتهامات إلى الموريسكيين، ومن بينها أيضاً الفشل في تعلُّم اللغة، وعدم القدرة على الاندماج في المجتمع الإسباني، وممارسة السِّحر والهرطقة، حتى صدر في الأخير مرسوم الملك فيليب الثالث، بين عامي 1609 و1614، الذي يقضي بطرد الموريسكيين من شبه جزيرة أيبيريا، بعد نحو 120 عاماً من سقوط غرناطة.
الطريق إلى مصر
فتح مرسوم طرد الموريسكيين طريقاً طويلاً للشتات، وكانت مدن شمال إفريقيا وجهتهم، لكن الموريسكيين لم يلقوا ترحيباً كافياً في بعض المدن، مثل وهران وفاس والرباط، حيث نُعتوا بفساد العقيدة، واتُّهموا بشرب الخمر، وتبرّج نسائهم.
وقد فتحت مصر أيديها لتتلقف هجرات الموريسكيين في نهاية القرن السادس عشر، وأيضاً أحسنت تونس استقبالهم مستفيدةً من مواهبهم ونبوغهم، لكن الرزاز يقول إنّ هذه الهجرات لم تكن الأولى لأهل الأندلس إلى مصر، إذ جاءت أول هجرة في القرن التاسع الميلادي، بعد تمرّدٍ قام به أهل حي الربض في قرطبة.
وعلى إثر هذا التمرّد تمّ نفي الربضيين إلى خارج الأندلس، فنزل فريق منهم في مدينة فاس، في منطقة ما زالت تُعرف بـ"عدوة الأندلسيين"، والفريق الآخر جاء إلى الإسكندرية. ولم يطل المقام بالربضيين في مصر، إذ سرعان ما فرضوا نفوذهم في المدينة، وبين ليلة وضحاها باتوا حكاماً انفصاليين، فحاصرهم والي مصر عبد الله بن طاهر عام 827 م، وطردهم من الإسكندرية إلى جزيرة كريت.
بعض الدراسات تشير إلى أن لهجة سكان الإسكندرية أصلها أندلسي، إذ إنّ الأندلسيين، خاصةً في قرطبة، اعتادوا استخدام صيغة الجمع للحديث عن الفرد، مثل أن يقول أحدهم بالعامية المصرية: "حنروحوا، حنعموا إلخ"، وهي اللهجة التي يُعرف بها الإسكندرانيون الآن. ويُرجع الرزاز هذا التأثير إلى هجرات الربضيين الأولى إلى المدينة.
بعد هجرة الربضيين إلى مصر، توالت هجرات الأندلسيين الطوعية إلى البلاد في العصر المملوكي المبكر، منها ما كانت بهدف العلم، وبعضها بغرض الجهاد في الثغور بعد تفكك الأندلس، وتسارع نشاط حركة الاسترداد المسيحية، وتوالي سقوط المدينة تلو الأخرى حتى سقوط غرناطة.
وبعد إسدال الستار على الحكم الإسلامي في الأندلس، اشتدّت هجمات الإسبان على شواطئ شمال إفريقيا، ودفعت بالكثير من المغاربة أنفسهم إلى جانب الأندلسيين، نحو هجر بلاد المغرب بأكملها، والمجيء إلى مصر، لا سيّما بعد احتلال الإسبان مدينة وهران.
ومع إصدار مرسوم طرد الموريسكيين، تكثفت هذه الهجرات، وقُدّر عدد الموريسكيين الذين طُردوا من الأندلس بأكثر من ثلاثمئة ألف موريسكي.
ماذا تبقّى؟
في مصر لا تزال عائلات تحمل إرثاً أندلسياً، هاجر أجدادها الأوائل إلى مصر، من بين أبناء هذه العائلات الكاتب والمؤرخ الدكتور خالد عزب، وهو أحد المنشغلين بالتاريخ الأندلسي.
بعض الدراسات تشير إلى أن لهجة سكان الإسكندرية أصلها أندلسي، إذ إنّ الأندلسيين، خاصةً في قرطبة، اعتادوا استخدام صيغة الجمع للحديث عن الفرد، مثل أن يقول أحدهم بالعامية المصرية: "حنروحوا، حنعملوا، إلخ".
ترجع أصول عزب الأندلسية إلى جدّته لوالدته التي تنحدر جذورها من عائلة هاجرت من الأندلس، وسكنت مدينة مطوبس في محافظة كفر الشيخ، شمال دلتا النيل، ويقول عزب إنّ جدّته كانت تدرك جيداً أصولها الأندلسية، وكانت تحفظ موشحات وقصائد أندلسيةً.
على سبيل المثال، كانت تردد دائماً أشعار أبي البقاء الرندي في رثائه الأندلس وضياعها وضياع غرناطة، التي يقول فيها:
"لكل شيءٍ إذا ما تم نُقصانُ/فلا يُغرّ بِطيبِ العيش إنسانُ
هي الأمورُ كَما شاهدتُها دولٌ/من سَرّه زمنٌ ساءته أزمانُ".
ويشير الدكتور خالد عزب لرصيف22 إلى أنّ جميع الأسر الأندلسية كانت تحفظ هذه الأبيات عن ظهر قلب، ومن أشهر العائلات الأندلسية الباقية في مطوبس ومدينة إدفينا المجاورة، حتى الآن، عائلات الأنصاري، والخراشي، ونافع، وسلام، والحمراوي، والمسماري.
وتعدّ منطقة الدلتا من أكثر المناطق المصرية ثراءً بالإرث الأندلسي، حيث لا تزال بعض قرى ومدن محافظتَي كفر الشيخ والغربية تحمل أسماء تعود إلى أصول أندلسيّة، مثل: الحمراوي، وقطور، وإسحاقة، وأريمون، وغيرها.
ويقدّر المؤرخ المصري عدد الأندلسيين الذين جاءوا إلى مطوبس في القرن السادس عشر، بنحو خمسة آلاف شخص، بحسب ما جاء في أرشيف المحاكم الشرعية، وهو أكبر عدد من المهاجرين الأندلسيين استقبلته منطقة مصرية في ذاك الوقت.
عدد المهاجرين الأندلسيين الكبير ساعدهم في إنشاء مدينة موازية لمدينة مطوبس القديمة، فشيّدوا الجامع الكبير الذي عُرف أيضاً بمسجد سيدي عامر، وشيّدوا حوله الأسواق وحوانيت الحرفيين، وجعلوها وقفاً عليه، وأقاموا حماماً كبيراً بجوار المسجد الكبير.
كما أحدثوا في المدينة طاحونةً كبرى لطحنِ الغلال، ومدقّاً للأرز، وأنوالاً لصناعة الحصير، وساعدت براعة الأندلسيين في الزراعة وتوافر أراضٍ واسعة غير مزروعة، على نقلِ عددٍ من الزّراعات إلى مصر، مثل زراعة الموالح، لا سيّما البرتقال، إلى جانب نقل بعض الحرف التقليدية، مثل: صناعات الأقمشة والنحاس والفخار والخزف.
ويشير عزب إلى المأكولات الأندلسية، مثل الكسكسي الذي يؤكل على الطريقة الأندلسيّة، حيث تطهى بجواره الطيور كالبطّ والإوزّ، ومن بين التأثيرات الأندلسيّة أيضاً صناعة البُلغ (حذاء يُلبس في القدم) على الطراز الأندلسي، لكنها اندثرت الآن.
كما أنّ هناك كلمات أمازيغيةً كانت تتردد على ألسنة أهل مطوبس حتى وقت، مثل كلمة زليزلي، وهي كلمة تطلَق على بلاطات القيشاني، وكلمة مغازة، والتي تعني الدكان الذي يبيع الحبوب.
ثمّة مظاهر عمرانيّة أيضاً نُقلت إلى مطوبس، مثل تصميم العقود في نهاية الأبواب والنوافذ، والتي تشبه شكل القوس، لكن هذا النمط المعماري لم يعد موجوداً الآن.
برغم انقضاء نحو ألف عام على بداية هجرات الأندلسيين إلى مصر، لا تزال بصماتهم باقيةً في بقاع شتى من البلدات المصرية، إذ لم يكتفِ المهاجرون بالاستقرار في المدن والقرى القائمة وحسب، بل إن بعضهم أسّس مدناً جديدةً
ويوضح المؤرخ المصري أنّ زوايا المتصوفة انتشرت حول الجوامع على النمط الأندلسيّ، حيث كانت تُخصَّص كلّ زاوية لطريقة صوفية بعينها، وكانت تُعقد فيها الحضرات الصوفية كلّ اثنين وخميس، لكن هذه الزوايا التي رآها عزب رؤيا العين في طفولته وشبابه، صارت أثراً بعد عين.
ويفسر هذا الاندثار قائلاً: "الكثير من هذه المظاهر اندثر منذ نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات، تحت وطأة الحداثة، وانقطاع صلة الأجيال الجديدة بالتراث الشفهي المرتبط بقضية الهجرات الأندلسية إلى مصر".
مساجد ومتصوّفة
في مصر أيضاً، كان التأثير الروحي للهجرات الأندلسيّة لافتاً للغاية، فالعديد من المساجد تحمل تأثيرات أندلسيةً، تبعاً لما يقول محمد الرزاز، ويشير إلى أنّ المئذنة الصغيرة في مسجد الناصر محمد بن قلاوون ذات طراز أندلسيّ، كما أن القوس الموجود في قاعدة مئذنة مسجد أحمد بن طولون على شكل حدوة الحصان، دليل على التأثّر بالعمارة الأندلسية.
أيضاً العديد من العلماء والمتصوفة الأندلسيين طافوا أنحاء المحروسة بغرض طلب العلم، وتركوا خلفهم أضرحتهم، وتعلقاً لم ينقطع من جانب المصريين، فمدينة الإسكندرية على سبيل المثال تحفل بالعديد منها، مثل ضريح أبي العباس المرسي، وهو متصوف أندلسي من مدينة مرسية، وكذلك ضريح الشيخ الشاطبي الذي جاء من مدينة شاطبة.
ومن أهم أعلام علماء الأندلس الذين دُفنوا في الإسكندرية، أبو بكر الطرطوشي، مؤلف كتاب "سراج الملوك"، الذي سبق ميكافيلي بنحو ثلاثة قرون في وضع منهج للحكم، هو منهج ميكافيلي في كتابه الشهير "الأمير".
ويختتم الرزاز: "من أشهر المتصوفة والزهّاد الأندلسيين أيضاً الذين استقروا في مصر أبو الحسن الششتري، الذي زار الأديرة وحاور الرهبان مستلهماً رسائل المحبة، وفي إسبانيا وأوروبا تأثر به الفلاسفة والمنظرون، وشبّهوه بالقديس فرنسيس. مات هذا المتصوف الأندلسي ودُفن بالقرب من مدينة دمياط المصرية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...