يوماً ما، ربما غداً، سنجلس أنا وصديقي إبليس على صخرة الأبدية، بينما نهر الأحاديث يجري دون أن يرمي فيه أحدنا دمعة أو قبلة؛ ليوقفه قليلاً، سأروي له قصتي، وانتظره أن يهجرني أو يعبر إلى الضفة الأخرى، وأناديه، كحبيب قديم سرقه القدر مني، ولوث جلبابه في عيني بالنبذ والنفور.
أجالسه، ويلتهم نظراتي الفضول قبل الحب، وأحدثه ككل امرأة باعدت بين شفتيها لتطلق اسم حبيبها في النسيم، لتداعب سيرته العواصف والأعاصير فينجو لأنه أجمل من أن تخدش جماله ذبابة، باعدت بين شفتيها أكثر فابتلعت كل الآثام والألفاظ النابية وكبد كل عشيقاته.
ألم استثنائي أن تكون امرأة
امرأة، تفترض أن الأشرار ليسوا سيئين بالفطرة لكنهم مخيفون بالضرورة، هناك شيء فيهم يغريها لتصلح عطباً ما في نرجسيتهم المفرطة، أو ترمّم جرحاً في قلوبهم المريضة، أو على أبعد الفروض، تصير مزاراً يبكي عنده المغفلون قبل أن يتركوه حين تقوى غلظتهم من جديد، ليكونوا أشراراً بفائض المحبة، ونذلاء ركلوا فرصتهم في النجاة مع حبيبة.
امرأة، تراقب العالم من كوة في جدران البيت، وضعوا فيها وردة لترى العالم زهرياً، ومؤنثاً أكثر من اللازم، وهشّاً بطبيعة الحال، بالإضافة إلى تلك الكوة وأشواك هذه الوردة؛ وجدتُ أن الحياة بعيداً عن البيت تنتظرني حافية على الأسفلت؛ لأعدو خلف الصبيان في لعبة الكراسي الموسيقية، ولا ولد واحداً أعطاني مكانه، إلا إبليس، الوحيد الذي أجلسني على حجره حين ضاع دوري وفقدت حظوظي في بعض الراحة والشعور بالطمأنينة.
يوماً ما، نجلس أنا وصديقي إبليس على صخرة الأبدية، بينما نهر الأحاديث يجري دون أن يرمي فيه أحدنا دمعة أو قبلة؛ ليوقفه قليلاً، سأروي له قصتي، وانتظره أن يهجرني أو يعبر إلى الضفة الأخرى... مجاز
غواية كلمة "لا"...
قد أدخن معه سيجارة ويحرّضني على التمرّد، وهو يتطلع إليّ بألفة شريك لعبة، يبدو العالم فيها مثالياً لنجرب الرقص معاً حول كلمة "لا"، الكلمة التي تشبه مشنقة صغيرة، موضوعة هكذا بخفة في اللغة وتنتظر ضحاياها حين نستسلم للنواهي، بخفة أرنب يهرب مذعوراً من سرديته مع الخوف إلى حفرة، كل مشكلتها أنها ضيقة إلى حد أن صورته مطبوعة على كل جدرانها وتطارده حين ينام.
كلمة "لا" الموضوعة أيضاً بقسوة حين ترد على لسانك المغسول بالطاعة والدموع، قسوة تفاضل بها بين كلمة سحرية وألم يحتل حنجرتك حتى تختفي تماماً، قد تكون محظوظاً في هذا؛ في بعض الأحيان يذهب زملاؤك خلف الشمس يحرثون الثقوب السوداء ويزرعون الأمل والنجوم.
بروميثيوس في مواجهة جوبيتر
قد يخبرني بعدها حكايته الحقيقية وميراثه من النبذ، وطريقته البسيطة في الحياة؛ كيف كان المتطوع الشجاع الذي بادر بالمواجهة والبشرية ما زالت فكرة تتجول في رأس الرب، وحين شاركها مع ثلاثة آخرين في منشور لم تعجب واحداً منهم، وهذا كل ما أزعجه، وفي مرحلة أخرى حين أشفق على البشر من برد الشتاء، سرق النار وأعطاهم قبساً منها، فغار منه الرب وعاقبه مرة أخرى، بصرف النظر عن جهلنا بما تريده النساء، قديماً أيضاً كان من الصعب إرضاء الآلهة.
ملاك مؤدب ومحايد إلى حد ما
إبليس رفيقي، لا يحتاج إلى مخالب ولا أظافر طويلة تنبش في الصلصال؛ ليدفن فيه بذرة حياة أو أمل، فينمو رجل غاضب يتأمل ذكورته كلما تبوّل على جدار، ويبكيها في سرير زوجته، أو امرأة ليست لها متعة في قميص نومها إلا للونه الباهت في الحداد، ولا ميراث في السن الذهبية المغروزة في فم زوجها، إلا لأبناء صغار يحاولون بيعها للتجار والانتفاع بثمنها قبل دفنه.
إبليس، لا يتحدث في السياسة حين يجالس مريديه؛ هذه التفاهات تركها للذئاب التي تخبئ ظلها في وجه القمر على هيئة وعود وملصقات دعاية انتخابية.
لا ينتفع بعلاقاته كي يغري مراهقة لتشرع له نهديها؛ رغم أن الحب يتنهد بين أنفاسها مثل حبة عنب، تمتص رائحتها الحلوة قبل أن تضمّها بشدة وتسيل عصارتها على شفتيها.
شيطان طيب متواضع، يراقب قلوبنا تتسكع في قلب الغابة ويدعها ببساطة للتوازن البيئي؛ يجب أن يأكل الجوعى شيئاً ما، وهذا الرزق الوفير ليس له صاحب.
لا يلجأ إلى دكتاتور يخبره عن وصفة الخلود بل يدع سيرته بين العامة تشيعها إلى الأبد بالسباب والشتائم.
لا يلاطف امرأة تطرق بابه إلا بطاجن كوارع وحمام؛ هذا سيد صاحب مزاج خاص، والطعام محبة تكلفنا الكثير هذه الأيام، وهو يقدر العمل المتقن بما يكفي.
إبليس لا يهتم كثيراً بالكراهية وهذا الحقد الدفين تجاه رغباته من آخرين لم يستطيعوا المواجهة ببساطة ولا يقدرون على دفع فاتورتها، لذا هو لا يلعن المتعبّدين في الصوامع، بل يتركهم ينضجون بكامل هذيانهم، ولا يؤاخذهم حين يسبونه أو يصفونه بالرجيم.
إبليس رفيقي، لا يحتاج إلى مخالب ولا أظافر طويلة تنبش في الصلصال؛ ليدفن فيه بذرة حياة أو أمل، فينمو رجل غاضب يتأمل ذكورته كلما تبوّل على جدار، ويبكيها في سرير زوجته... مجاز
المزايا التي من أجلها لا نندم على الحب
هذا الناعم، البريء، المدنس، الصريح، البائس، الكريه، يبكي كصحراء تنعي هجيرها في زاوية الخريطة حين تسقط شجرة، ليس لأن بها تفاحة وله ذكريات خاصة معها، الأمر تعدى هذه الميثولوجيا إلى ونس أكثر حفاوة لمن يبحث عن ظلال يرتاح إليها ويودع فيها تعبه وأسراره.
ويضحك كأنه يَسَرّ إلى الريح مزحة وليس وساوس كما يظن الحمقى والمغيبون، يختلط لهاثه بدخان الحرائق وأنين أفران الغاز، تفزعه صرخات الضحايا وطلقات المدافع أيضاً.
يعرف أن الموت هنا بات استعراضاً للكراهية وتعصباً أعمى، لكنه لا يحتاج منه إلى الكثير من الجهد وكل هذا الازعاج لتبعث معركة من رماد أخرى؛ يكفي أن يبدي رغبته، مثل الصغار، باللعب بمسدس ماء ويغرق مسناً بدون قصد، فيهرع الأخير إلى شن حرباً وقد تفني بلدة كاملة هكذا ببساطة.
لوسيفر الغلابة... عظات مجانية وهدايا
معلم مخلص، يجمع رماد الوحوش من الكوابيس ويلصقها في جبين تلاميذه، يمسك عصا رفيعة ويقول: "هذه حروف العطف يا أولاد، تلك أسماء الإشارة، وهذه أدوات الاستفهام. كونوا حريصين أين تستخدموها، اللغة ابنة خالتي العانس ويجب أن تغرقوها بالهدايا". لذا كان الشعراء أول زبائن هذه السيدة، وكان على الشعر أن يكون غزيراً حتى نهرب من العجز إلى سريرها.
معلم متفان، يرثى روحه المصلوبة على ضفاف الكتب، ويبارك مخاوفه: "هذه حياتي لكم يا أبنائي". يخبئ في صدره شظايا الحروب وأغنيات الغجر تجري على قلبه مثل نهر يبدل ضفافه بلا ذاكرة، والأوديسة كانت وحدها مرجعيته المثالية حين يتودّد إلى زوجة متروكة.
المحبة قبل كل شيء
أراقبه كفرشاة، تلحس رحيق ملامحه بالقبلات، وتطارد سكناته الغارقة في خشب كرسيه؛ عرش فوق جزيرة من الأشواك، عرشه في قلبي. لم ينتحب لخطيئة قمت بها، بل يربت على صدري ويواسيني حين أبكي، لم يهتم بسيرته القلقة في تابوت التاريخ، بل يكتفي بذكراه في عيني التي جعلته صديقي المقرب وجعلتني أنثاه المفضلة، ولم يضحك بضغينة حين تتغلب على حيلته امرأة، وهذا أكثر ما أعجبني فيه.
فاوست ألمانيا الضئيل
فيما تلهج شمس البشر بوهن في مخاضها الأخير، ويتدلى صياح الديكة فوق غصنها المحروق؛ كانت شهرزاد تحذر ملكها من مغبة أن يذبحها، لأن نوعاً ما من الفضول سيقتله، هذا النوع الذي جعل إبليس يذبح بدم بارد زهرة في كراسة رسم هتلر؛ فيجعل حديقته مهجورة من الضوء والحسناوات، ليمتهن الموت ويقطف حبات الندى من تيجان الملوك، فتسقط إمبراطوريات وأمم، وينهب لمعان نجمة على شباك التذاكر، ويتركها للتجاعيد وغمزات الجمهور الجاحد، ويهرب وحيداً إلى شجرة حور ليشارك غراباً أعمى ترانيم العزاء في جنازة هابيل.
أربت على صدره الآن وأمسح عنه عرق تاريخ بطوله؛ المسكين يخشي أن يغرق العالم في أحزانه ويطرد من عمله؛ كعازف ماهر يلتزم تماماً بالنوتة الكونية، يراقب تلويح الرب بالعصا الحانية مرة والكف المبسوطة بالقسوة مرات... مجاز
المخاوف التي أوقعتني في حبه
كنت أخشى خيوط العناكب الملتفة حول أصابعه، رأسه المائل إلى كفة الليل، وعيونه القاحلة التي تغربل نظراتي وتسقط منها حبات الأمل والضوء، أرتجف حين يزحف صوته فوق جلدي، ويتمسح فيّ بحميمية قط يعرف بالضبط ما أمتلكه من ألم في ذاكرتي التي طويتها في حجر أبي وأمي، لست أخشاه بقدر ما أتمنى أن أستيقظ وأجده لا يبكي أحدهن في حضني.
هو... رجل في النهاية
أربت على صدره الآن وأمسح عنه عرق تاريخ بطوله؛ المسكين يخشي أن يغرق العالم في أحزانه ويطرد من عمله؛ كعازف ماهر يلتزم تماماً بالنوتة الكونية، يراقب تلويح الرب بالعصا الحانية مرة والكف المبسوطة بالقسوة مرات.
يوماً ما، سيخبرني متى وضع خاتمي في معدة ضفدع وأجبرني على تقبيله، وسأخبره عن حذائي الكريستال الذي أقرضته لحبيبته، ولم يعد أيّنا بعد من الحكايات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةعن أي نظام تتكلم عن السيدة الكاتبة ، النظام الجديد موجود منذ سنوات ،وهذه الحروب هدفها تمكين هذا...
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...