قنوات تلفزيونية تحذف مشاهد حوارية وعاطفية من تراثنا السينمائي والمسرحي، ومطربون يغيرون أغانيَ تراثية شهيرة وكلمات لكبار الشعراء للتوافق مع معاييرهم الأخلاقية. فهل توجد هيئة سرية للرقابة الأخلاقية والدينية على الأعمال الفنية من الأغاني والمشاهد السينمائية والتلفزيونية؟
هناك رقابة على رقابة؛ فالأفلام التي تمت إجازتها من عدة عقود هناك من يعيد حذف مشاهد منها عند إعادة العرض، رواية نجيب محفوظ تغيّر عنوانها لنفس الأسباب، ومطربو الأوبرا يتقربون إلى الله بالحذف والتشويه والاعتداء على كلمات أغانٍ تراثية.
ليست كل أنواع الرقابة من الحكومة أو الجهات الرقابية، فالرقابة المجتمعية والرقابة المفروضة بمبادرات فردية تزيد القيود وتضع حدوداً لم تكن موجودة من قبل، والمثال على ذلك نرصده في قناة "الحياة الزرقاء" المتخصصة في عرض تراثنا من الأفلام المصرية القديمة والحديثة، والغريب أن القناة تعيد عرض أفلامٍ مرّ على بعضها أكثر من 70 أو 50 عام وتحذف منها مشاهد بعينها.
قنوات تلفزيونية تحذف مشاهد حوارية وعاطفية من تراثنا السينمائي والمسرحي، ومطربون يغيرون أغاني تراثية شهيرة وكلمات لكبار الشعراء للتوافق مع معاييرهم الأخلاقية. فهل توجد هيئة سرية للرقابة الأخلاقية والدينية على الأعمال الفنية؟
ولا يقتصر الحذف على المشاهد العاطفية والقبلات والعري، بل يمتد الحذف للجمل الحوارية؛ فمثلاً في نهاية الفيلم المصري "اعترافات زوج" يقف يوسف وهبي على المسرح ويردد جملة "عيشوا بقى، دي الدنيا فانية!"، وهي جملة نهاية الفيلم، ولكن الرقيب الجديد يقوم بحذفها.
في رائعة نجيب محفوظ "السمان والخريف"، يقدم المخرج حسام الدين مصطفي كادراً سينمائياً شديد الإبداع، ففي أول لقاء تعارف بين ريري (نادية لطفي) وعيسي الدباغ (حمود مرسي) أمام تمثال سعد زغلول بميدان المنشية، نرى وجهه من بين ساقي ريري، وهي لقطة تلخص طبيعة العلاقة التي ستجمعهما طوال أحداث الفيلم، ولكن الرقيب رأى أن ذلك غير مستحسن، فقصّ المشهدَ كاملاً.
والغريب أن الرقابة تمتد لجمل حوارية بعينها في هذه الرواية تفضح النخبة الفاسدة، سواء التابعة للملك وتلك الانتهازية التي استفادت من ثورة يوليو. ويبدو الرقيب هنا مدافعاً عن مصالح الملك وضباط يوليو معاً.
أما في فيلم "حكاية العمر كله"، بطولة فاتن حمامة وفريد الأطرش، حين تقوم فاتن بإنزال لوحة عارية داخل إطار، وهي من تلك اللوحات التي تمتلئ بها صالونات وحجرات نوم الطبقة المتوسطة المصرية عبر عدة عقود متعاقبة، فيتدخل الرقيب مرة أخرى ولا يرينا اللوحة العارية المرسومة والمعلقة في إطار خشبي حفاظاً علينا من الفتنة.
في مسرحية "المتزوجون" تواصل قناة الحياة الزرقاء حذف جمل حوارية من العمل الكوميدي، ومنها جملة لجورج سيدهم تفيد بأنه لم يدفع مليماً في زيجته، فيعلق قائلاً: "أنا كده ها أدخل بمجهودي فقط"، حيث رآها الرقيب الجديد ناظر مدرسة الأخلاق الحميدة أنها جملة معيبة! ووصلت الرقابة لدرجة حذف مشية الممثلة.
ففي فيلم "كرامة زوجتي" يفيد المشهد بأن شريفة ماهر تسير بدلال لإغراء المحامي صلاح ذو الفقار، ولكن مقص الرقيب وجد في السير بدلالٍ فعلاً فاضحاً.
يبدو أن رقيب هذا الزمان أكثر أخلاقاً وتشدداً من رقباء العصور الماضية.
أما مشاهد حذف القبلات والمشاهد العاطفية فمن كثرتها لا يمكن حصرها، والغريب أن هذه الأفلام تمت رقابتها طوال العقود الزمنية الممتدة من الأربعينيات وحتى الألفية الجديدة، ولكن يبدو أن رقيب هذا الزمان أكثر أخلاقاً وتشدداً من رقباء العصور الماضية. قناة الحياة الزرقاء تطبق قوانين ورقابة أشد قسوة من رقابة طالبان والقاعدة وداعش معاً.
أما إذا انتقلنا إلى دار الأوبرا المصرية فسنصدم برقابة من نوع آخر؛ في حفلات ومهرجانات الموسيقى والأغاني سنجد رقابة ذاتية ومزايدة من بعض المطربين فيما يمكن تسميته بمزاد ونفاق للجمهور ومحاولة لركوب موجة وهابية تسللت لوجدان الجمهور المصري للأسف، وتتمثل في تغيير كلمات أغانٍ تراثية لإرضاء التدين "الشكلاني"؛ فمثلاً يقول سيد درويش في مقطع لأغنيته الخالدة "أنا هويت": "وبُعده عني يا ناس حرام"، إلا أنها تتحول إلى "وبعده عني يا ناس مهوش حرام"!، بإضافة كلمة "مهوش". والسؤال: ما هو سبب عذاب العاشق في الأغنية إذا كان بعده عنه لا يمثل مشكلة؟!
في أغنية أخري سمعت مطرباً يعيد غناء أغنية "لست قلبي" (كلمات كامل الشناوي وغناء عبد الحليم حافظ) ويستبدل عبارة "قدر أحمق الخُطى" بـ"قدر طيب الخطي"، ومن هذا القبيل أيضاً أن يتم العبث بكلمات الشاعر إبراهيم ناجي، فتتحول أغنية "الأطلال" لكوكب الشرق التي تقول فيها: "وتلاقينا لقاء الغرباء، لا تقلْ شئنا، فإن الحظ شاء" لتصبح: "فإن الحق شاء" أو "فإن الله شاء".
والغريب أن التدخل في كثير من المواضع يقلب المعني المستقيم الذي أراده الشاعر تماماً.
يعلق الكاتب كامل رحومة على هذا الرأي لرصيف22 قائلاً: "'قدر أحمق الخطى' تتوافق مع حديث الخليفة عمر عن حوار الرسول مع جبريل الذي يبدأ بـ'بينما نحن جلوس عند رسول الله'، وحديث 'لا تسبوا الدهرَ فإن الله هو الدّهر". هذا الكلام معناه مختلف عند أهل السنة والجماعة. فبالراحة علينا شوية يا جماعة! والله 'قدر أحمق' هي أجمل".
تتحول أغنية "الأطلال" لكوكب الشرق التي تقول فيها: "وتلاقينا لقاء الغرباء، لا تقلْ شئنا، فإن الحظ شاء" لتصبح: "فإن الحق شاء" أو "فإن الله شاء"
ما يحدث يشبه ما فعلته دار الشروق عندما اعتدت على نجيب محفوظ لتغير عنوان أول رواياته "عبث الأقدار" لتصبح "عجائب الأقدار". هكذا ننصر الدين! ليس باختيارنا لفنّ رائع كلماتٍ ولحناً وصوتاً كما فعل محمد يونس القاضي وكامل الشناوي، وكما غنى ولحن سيد درويش وأم كلثوم وعبد الحليم، وليس بأن تطبع الشروق مثلاً روائع الفكر العالمي، لا، بدلاً من كل ذلك قررنا أن ننصر الدين بهذا العبث وبهذا التشويه المتعمد لتراثنا الثقافي والفني! هي جريمة بلا رقابة، فهل "لبسنا قشرة الحضارة والروح داعشية"؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ 3 اسابيعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...