شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
اعترافات من غرفة الأخبار... حين اعتقدت بأنّني نجوت من الخرس

اعترافات من غرفة الأخبار... حين اعتقدت بأنّني نجوت من الخرس

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن وحرية التعبير

الأحد 12 مايو 202401:38 م

كيف يمكن للصحافي أن يعمل اليوم دون الشعور بالخجل، أو على الأقل بأدنى درجات الحياء، وهو يجلس في غرف أخبار مكيّفة ودافئة وقهوته الساخنة بالقرب منه على المكتب؟ أنظر من زاويتي الصغيرة في غرفة الأخبار هذه، إلى عيون الصحافيين العاملين في غزة؛ التعب يأكل بياض عيونهم، وجوههم تبدو كأصيص زرع لم تزره المياه منذ حين، حبالهم الصوتية تخنقها أشهر الحرب وأخبار موت أحبابهم التي ينقلونها بحناجرهم على الهواء مباشرةً.حتى عندما يصمتون لثوانٍ قليلة لالتقاط أنفاسهم المقطوعة، يُسمع صوت الحرب!

غرفة الأخبار... حلم قديم 

لطالما سحرتني غرف الأخبار وضجيجها الذي يشبه طنين النحل المتكوم في خلية على حافة جبل سحيق. سرقتني الشاشات التي تنقل الأخبار، والراديو الصغير الذي كان يحمله أبي ويقربه إلى أذنه كل صباح للاستماع إلى إذاعة مونتي كارلو. كنت صغيراً حينها، وأهم خبر بالنسبة لي ربما كان خبر انخفاض سعر "بيضة الكيندر" التي كانت حينها حلم جيل بأكمله. لكنني كنت أحاول استراق السمع وربط الكلمات التي كنت أسمعها لتكوين خبر منطقي يتناسب مع فهمي البسيط كطفل حينها. مرّت عليّ السنوات، ولم يرتوِ ذاك الظمأ الذي بداخلي لسرد القصص الإخبارية وتقريب المجهر إلى أوجاع الناس وحكاياتهم الملغّمة بالجوع والفقر والمرض، والمستشفيات الحكومية المصابة بالعجز،والمقابر التي لم تعد تمنحهم المثوى الأخير بسهولة بعد غلاء بورصة أسعار القبور! 

لطالما سحرتني في طفولتي غرف الأخبار وضجيجها الذي يشبه طنين النحل، سرقتني الشاشات التي تنقل الأخبار، والراديو الصغير الذي كان يحمله أبي ويقربه إلى أذنه كل صباح للاستماع إلى إذاعة مونتي كارلو

عشت عمري وأنا متيقن بأنني أخرس، وبأنّ صوتي في أحسن أحواله لا يتجاوز بقوته صوت نملة غاضبة تصرخ بأعلى صوتها. شاهدت كغيري بلدي يهشَّم كقالب كيك صلاحيته منتهية. شاهدت مدناً كنت أعرفها، تضيع ملامحها وتختفي خلف الركام. شاهدت أهل بلدي يهيمون على وجوههم، ويموتون في البحار والمحيطات وعند الأسلاك الشائكة للحدود بين الدول وفي الغابات وشاحنات حفظ اللحوم وعند الأفران. شاهدت طوفانهم البشري العظيم الذي غمر القارة الأوروبية العجوز وأعاد لها سنوات كانت قد مضت من شبابها، لكنني كنت حينها أخرس!

لا أخفي عنكم: كتبت الكثير من النصوص التي تحولت مع مرور الويلات إلى شيء يشبه أوراق النعي كما أصفها دوماً. تحولت إلى مشارح أو برادات للجثث. تحولت إلى شيء يشبه الأحياء العشوائية المدمرة. فاحت منها رائحة البارود واللحوم المشوية. صدحت من بين حروفها أصوات عويل الأمهات والزوجات والأطفال والعالقين عند الأسلاك الشائكة للحدود بين الدول وفي السجون وبين فكّي المهرّبين وتجار الموت و"البلم" المطاطي عند شاطئ مهجور قبالة ساحل ما، لكنّ شعوري بالخرس كان يلازمني كاسمي الثلاثي! 

بلاد ممزقة 

درست الصحافة، ودخلت غرف الأخبار، وضعت بين جنباتها وفي دهاليزها. شدّني جنون الأخبار المتسارعة التي تنهمر علينا كالمطر في يومٍ شتوي حاقد. اقترحت القصص الإخبارية وكتبت وأنتجت الكثير منها. تحدثت إلى الخبراء والمسؤولين في شتى المجالات، لكنني لم أشعر بالنشوة الحقيقية في العمل الصحافي إلاّ عندما اقتربت من أصحاب الوجع، ممن يحيلون الخبر الصحافي إلى لحم ودم، ممن يجعلون للخبر الصحافي ظلاً وانعكاساً حقيقياً. حينها فقط سمعت صوتي بعد سنين عجاف من الخرس. 

عشت عمري وأنا متيقن بأنني أخرس، وبأنّ صوتي في أحسن أحواله لا يتجاوز بقوته صوت نملة غاضبة تصرخ بأعلى صوتها. 

قابلت طبيبةً سوريةً كريمةً تركت خلفها وطناً مذبوحاً وحياةً لم تكتمل، وسعت خلف رزقها في الصومال. لكنّ لسعة حشرة صغيرة حالت دون خروجها من دوامة النحس التي أحاطتبسوريا والسوريين، فتراكمت خسارة أجزاء من جسدها جرّاء البتر إلى جانب خسارة البلاد والديار، وربما ما تبقى من الأمل... السعي إلىالانغماس أكثر فأكثر في تلك النشوة التي أصابتي كلما اقتربت أكثر من الوجع المتّقد في صدور الناس، قادني إلى مخيمات اللجوء في تركيا، فكتبت قصةً عن سوريٍّ ينتظر منذ سنوات إعادة توطينه. 

كيف ينقلون موت أهلهم؟ 

بالمناسبة عبارة "إعادة التوطين" موجعة جداً ومخزية جداً. المهم أنني لم أشبع، فسردت قصةً من اليمن وعنه وعن جرحه الغائر في قلبنا ونزيفه الصامت. أكملت رحلتي إلى جنوب إفريقيا، وكتبت عن التحرش والعيون المتّقدة والأظافر الجاهزة للانغراس في لحوم الفتيات والنساء هناك. أنتجت القصص الإخبارية عن زلزال سوريا وعن متلازمة "الهرس" التي لم تهشّم عظام من نجوا فحسب، بل هشّمت عظام صدورنا نحن الموزعين على جبين هذا الكوكب كخلايا الوجع! 

أراقب الصحافيين في غزة؛ كيف درّبوا ألسنتهم على نقل أخبار موت أهلهم وفلذات أكبادهم بطلاقة مخيفة؟ كيف يقفون أمام كاميراتهم راسخين لنقل القصص الإخبارية إلينا؟ كيف يعرفون بأنهم سيكونون الهدف التالي لآلة الموت التي لا تشبع، ومع ذلك كله يكملون رحلتهم المضنية لنقل الخبر؟

قربي إلى الناس وتلك النافذة التي منحتني إياها غرفة الأخبار لأطلّ على قهرهم ووجعهم وفقرهم وجوعهم وشعور الخذلان الذي يأكل لحم قلوبهم، جعلاني أتحرر من الخرس. بدأت أشعر بصوتي قوياً هادراً كعاصفة بعد أن كان صوت نملة مبحوحاً بالكاد يُسمع. ربما محاولتي وسعيي إلى أن أكون صوتاً لأصحاب الوجع منحاني حنجرةً يمكن لصوتها أن يُسمع!

اليوم، وأنا أجلس في غرفة الأخبار من زاويتي الصغيرة هنا، أشعر بالدفء وأستلذّ بقهوتي الصباحية الساخنة. أحاول العمل على قصة إخبارية جديدة. أضيّع صوتي من جديد. نعم أنا أعترف لكم بأنني برغم محاولاتي الكثيرة التي اعتقدت بأنها نجّتني من الخرس، إلا أني على ما يبدو لم أنجُ بعد! أراقب الصحافيين العاملين في غزة؛ كيف درّبوا ألسنتهم على نقل أخبار موت أهلهم وفلذات أكبادهم بطلاقة مخيفة؟ كيف يقفون أمام كاميراتهم راسخين كالجبال المبللة بالدمع و"يا جبل ما يهزك ريح"؟ كيف يتنقلون بين ركام بيوتهم لنقل القصص الإخبارية إلينا؟ كيف يعرفون بأنهم سيكونون الهدف التالي لآلة الموت التي لا تشبع، ومع ذلك كله يكملون رحلتهم المضنية لنقل الخبر؟ أشعر بلغتي تهرب مني،وبالحياء يغرقني حتى شحمة أذني،وبلساني يتجمّد في فمي وكأنه في ثلاجة درجة برودتها 50 درجةً مئويةً تحت الصفر!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image