الخوف من الحسد موجود في غالبية ثقافاتنا الشعبية، ولذلك سعى البعض في موروثاتنا القديمة إلى استخدام شتى الطرائق لدرء الحسد والعين، ومن أبرز وسائل تلك الطرائق المأكولات والأطعمة التي قد تُلقى في زوايا منزل، أو تعلَّق على الجدران، أو يتم تناولها، ومن الممكن أيضاً أن تُحرَق لتخرج على شكل دخان مع الأبخرة.
في الثقافة الشعبية المصرية، ما زال بعض الأفراد يخشون العين والحسد ويحاولون تحصين أنفسهم وأولادهم منهما باستمرار، ويتناقل الناس العادات تلك في ما بينهم. وبرغم أنها قد تفتقر أحياناً إلى منطق العقل إلا أن انتشارها يجعل لها بين الناس قوةً شرعيةً.
استخدام الأطعمة لدرء الحسد
في حديثها إلى رصيف22، تقول الباحثة في التراث في المعهد العالي للفنون الشعبية الدكتورة نيرمين عبد العليم، إن هناك الكثير من الحبوب والأطعمة التي تُستخدم لدرء الحسد في دلتا مصر وصعيدها: "الإنسان المصري بدأ بذلك منذ القدم، وبمرور الثقافات وجدت هذه الموروثات أصلاً دينياً أو قناةً شرعيةً، حتى لا يوصَم أصحابها بالجهل".
تضيف نيرمين: "موضوع الحسد موجود في كل الثقافات وطرائق درئه مختلفة. الخبز أول ما يُستخدم لدرء الحسد بكل أنواعه، فالعروس يوضع لها عيش وملح تحت المخدّة لأن ذلك يمنع الحسد، والملح في المعتقد الشعبي يؤذي عين الجن، وهناك أيضاً اللبن في النوبة إذ يشرب العريس كوباً من اللبن ويأخذ منه القليل ليقذفه على وجه عروسته حتى تصبح أيامهما مثل اللبن، وهو يحميهما من الحسد، والبعض يقرأ آيات من القرآن على اللبن قبل شربه. وهناك أنواع كثيرة من الحسد فالناس في دلتا مصر وصعيدها يخافون على الخبز من الحسد فلا يحبون أن ترى العجين عين غريبة عنهم".
وتتابع: "الأسماك المالحة من أشهر ما يُستخدم لمنع الحسد، وهذه كان يأكلها المصري القديم في عيد الفيضان وعيد الربيع، وكان يعتقد أنه عندما يأكلها في أرضه تُبعد الحسد عنها، كما أن كل الأكلات ذات الروائح النفاذة تبعد العين عنه".
"الخبز أول ما يُستخدم لدرء الحسد بكل أنواعه، فالعروس يوضع لها عيش وملح تحت المخدّة لأن ذلك يمنع الحسد، والملح في المعتقد الشعبي يؤذي عين الجن، وهناك أيضاً اللبن في النوبة إذ يشرب العريس كوباً من اللبن ويأخذ منه القليل ليقذفه على وجه عروسته حتى تصبح أيامهما مثل اللبن"
في إحدى قرى محافظة كفر الشيخ، تعيش الحاجة ظهيرة (72 سنةً)، التي تؤمن كثيراً بالحسد وبضرورة تحصين الناس خاصةً الأزواج الجدد، وتقول لرصيف22: "يجب أن نحصّن العريس والعروس. في العادة يقوم أهل العريس برش الملح والماء في كل ركن من أركان البيت الجديد حتى لا يصيبهما الحسد، وهناك من يضع رغيف خبز تحت السرير وعليه ملح، وهناك من يعلّق باذنجانةً على باب الشقة وذلك لحماية الأم والمولود الصغير".
أسطورة الثوم والبصل
يكشف الدكتور عبد الرحيم ريحان، خبير الآثار وعضو المجلس الأعلى للثقافة، عن بعض الطقوس المرتبطة بالأكل التي استُخدمت قديماً للتحصين من الحسد: "البصل من أكثر الأشياء التي يعتقد المصريون أنها تبعد العين، وذلك بسبب قصة قديمة، إذ ورد في إحدى أساطير منف القديمة، أن أحد ملوك مصر كان له طفل أصيب بمرض غامض وعجز الأطباء والسحرة عن علاجه، وقال الكاهن وقتها إن هناك أرواحاً شريرةً تتسبب في مرضه".
"اعتقد الناس أن الثوم يطرد الأرواح الشريرة، وانتشر أن النباتات ذات الرائحة الكريهة تقوم بدرء الحسد والعين، كما استخدم الإغريق الثوم ووضعوه على الطريق في أثناء المعارك كنوع من الحماية لهم مستبشرين به"
ويضيف ريحان لرصيف22: "وقتها أمر الكاهن بأن يتم وضع ثمرة ناضجة من ثمار البصل تحت رأس الطفل في فراشه عند غروب الشمس بعد أن قرأ عليها بعض التعاويذ ثم شقّها عند شروق الشمس ووضعها فوق أنفه ليستنشق عصيرها، وطلب الكاهن منهم تعليق حزم من أعواد البصل الطازج فوق السرير وعلى أبواب الغرفة وبوابات القصر لطرد الأرواح الشريرة، وشُفي الطفل وأقام الملك الأفراح في القصر لأطفال المدينة، ومن وقتها يُستخدم البصل لذلك".
ويوضح عبد الرحيم أن العرب استخدموا أيضاً الثوم: "الأمر يعود لقرون قديمة، فمنذ الحضارة الأوروبية القديمة، اعتقد الناس أن الثوم يطرد الأرواح الشريرة، وانتشر بين العامة والكهنة أن النباتات ذات الرائحة الكريهة تقوم بدرء الحسد والعين، كما استخدم الإغريق الثوم ووضعوه على الطريق في أثناء المعارك كنوع من الحماية لهم مستبشرين به".
بدوره، يقول الباحث في التراث المصري خطاب معوض، لرصيف22: "كان الكثير من الناس يتباركون بالثوم، ويعلّقون على رقابهم صرّةً من الثوم لطرد الحسد والأرواح الشريرة عنهم، وكذلك تبخير البيت بالملح والكمون الأسود وقشر البصل لطرد العين والحسد، وما زال الناس حتى يومنا هذا يعلّقون الثوم والبصل على شرفات منازلهم لطرد الجن والأرواح الشريرة".
تكشف سعاد فتح الله (48 سنةً)، من محافظة الجيزة، لرصيف22، أنها ورثت عن والدتها وحماتها أيضاً، عادة تعليق الثوم والبصل على "البلكونة": "أمي قالت لي اكسري العين بالبصل والتوم، وبرغم أن زوجي يقول إن هذا كلام فارغ لا أتخلى عن هذه العادة، وفي 'سبوع' أي طفل من العائلة نرشّ الملح وحبات البركة السبع وهذا تعلّمته من حماتي إذ كانت تفعل ذلك مع أولادي".
استخدمت هدى ثابت (33 سنةً)، من محافظة القاهرة حبوب البِسلّة لتحصين ابنها من الحسد بعد ولادته، في ليلة "السبوع"، وفق ما تكشف لرصيف22: "نصحتني بذلك صديقة لي من الصعيد، وقالت لي إن البسِلّة لها قوة ولها مفعول كبير في حجب العين عن الأطفال الصغار، وبرغم أن حماتي كانت تدور في الشقة لترشّ الملح في كل ركن إلا أني وضعت في يد صغيري بعض حبات البسِلّة كما وضعت الكثير منها حوله في شكل دائرة على السرير بينما كان هو في المنتصف".
وتضيف هند: "في السبوع أيضاً نقوم بإعداد أرز بلبن، ونطبخ السمك وندعو الأحبّة ليأكلوا وهذا أيضاً لمنع الحسد ومنع العين".
تحصين المولود له شأن آخر إذ يهتمّ به عادة الأهل والجدّات في المقام الأول، فرشّ الملح 7 مرات في أرجاء المنزل عادة يتمسك المصريون بها إلى الآن، أما العادة الأشهر فهي استخدام السبع حبات (قمح، فول، حمص، عدس، شعير، أرز، حلبة)، وقد اعتاد المصري القديم أن يستخدمها في ليلة السبوع، كما ذكر خبير الآثار الدكتور عبد الرحيم ريحان.
وذكرت الباحثة في التراث نيرمين عبد العليم، أنه من المعتاد أيضاً أن يتم طحن هذه الحبوب ورشها على المولود وأمه وفي أرجاء البيت، أو يتم وضعها في عقد وتعلَّق في رقبة المولود الجديد لمنع الحسد.
الأرز في العراق والكسكس في المغرب
في حديثه إلى رصيف22، يقول الباحث في التراث العراقي عادل العرداوي، إن الأرز والملح من أهم الأشياء التي تُستخدم لدرء الحسد في العراق.
ويشرح: "في الموروث الشعبي العراقي، هناك عادة تجري عند زفاف العرسان إذ يرشون على أرجلهما الأرز والملح، تيمّناً وتبركاً بهذا الزواج وكذلك طرداً للشر والحسد عنهما، وكي تتحقق لهما حياة سعيدة هانئة من دون منغصات".
أما بالنسبة إلى البصل، فيوضح العرداوي أن الموروث الشعبي يؤكد على المسافر الذي يحلّ في مدينة غير مدينته، أن يتناول كميةً صغيرةً من بصلها للتخلص من الأمراض والعوارض الصحية المفاجئة، ولئلا يتعرض للحسد ويصاب بالعين.
من جهته، يقول عبد الإلاه خطابي، الأستاذ المبرز في الترجمة في المغرب، لرصيف22: "لقد عمّ استخدام الملح والثوم، وكذلك ورق الغار لإبعاد العين ودرء الحسد، عند مختلف شرائح المجتمع المغربي، على الرغم من اختلاف ثقافاتها ومرجعياتها، ولكن يظل الكسكس هو الأشهر في درء الحسد".
"كان الكثير من الناس يتباركون بالثوم، ويعلّقون على رقابهم صرّةً من الثوم لطرد الحسد والأرواح الشريرة عنهم، وكذلك تبخير البيت بالملح والكمون الأسود وقشر البصل لطرد العين والحسد"
ويضيف: "تعمد بعض الأسر المغربية إلى إعداد وجبات من الكسكس لتقديمها للمتسولين وأبناء السبيل في أثناء صلاة الجمعة، وذلك لدرء الحسد وإبعاد كيد الكائدين، وباعتبار الكسكس أكلةً شعبيةً تقليديةً بامتياز، فإن كل الأسر المغربية تعدّه كل جمعة، وهكذا فقد ارتبط الكسكس بالطقوس الدينية ليوم الجمعة".
ويختم بالقول: "كان الأمازيغ يطبخون سميد القمح أو الشعير، وكانوا يستعملون لذلك إناءً خاصاً ينبعث منه بخار يتم طهو السميد بفضله، وكانوا يسقون السميد بالحليب أو اللبن بعد دهنه بالزبدة أو السمن، وتطورت هذه الوجبة فصار المغاربة يضعون في المرق الذي يصعد منه البخار، لحم ضأن أو بقر أو بعير، وهناك أيضاً 'التفاية' أو الكسكس الحلو".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...