اعتدت على زيارة شلالات تل شهاب منذ طفولتي ضمن الرحلات المدرسية، ومن ثم كنت أزورها للقاء الأصدقاء وبنفس الوقت للتمتع بجمال طبيعتها الأخاذ، لكن ما دفعني بشكل مباشر للقيام بهذه الزيارة، هو أن ابنتيّ سيرين ولين لم يشاهدا هذه المنطقة في حياتهما قط بالعين المجردة، بحراً أو نهراً أو بحيرة أو شلالاً أو نبع ماء أو حتى جدول ماء، بسبب سنوات الحرب التي مرت على المنطقة، وهذا ليس حالهما فقط بل حال الكثير من الأطفال. وهذا أمر مؤسف جداً وحديث ذو شجون. ولأن السفر نحو البحر مكلف جداً، اصطحبتهما بعد تسلمهما الجلاء المدرسي وتفوقهما بالدراسة، كمكافأة لهما تستحقانها.
من الطبيعي القول إنّ تل شهاب لم تأخذ حقها من ناحية الدراسة التاريخية والتنقيب في آثارها، فإلى اليوم لم يتمكن أحد من معرفة اسمها القديم ولأي عصر تاريخي تعود، فقد تكون من أوائل البقاع المأهولة سكانياً، حسبما استنتجت من المعلومات التي جمعتها عنها في الزيارتين اللتين قمت بهما، ومن كلام مثقفيها والمهتمين بتاريخها من أبناء حوران.
تل شهاب شهيرة بشلالاتها وعيون مياهها العذبة، وفي أسفل شلالاتها التي تعد من أهم وأكبر الشلالات في سوريا، تنتصب طواحين الماء الضّاربة في القدم
تل شهاب شهيرة بشلالاتها وعيون مياهها العذبة، وفي أسفل شلالاتها التي تعد من أهم وأكبر الشلالات في سوريا بارتفاع 75 متر، تنتصب بكل ثقة طواحين الماء الضّاربة في القدم والأصالة. تقع المنطقة على بعد 17 كلم عن مركز مدينة درعا في الجنوب السّوري، على ضفاف وادي اليرموك، في منطقة حوران، وهي تابعة إدارياً لمحافظة درعا.
قبل انطلاقي لبلدة تل شهاب سألت عبد الله صبح، وهو كاتب صحافي من أبناء حوران و من المهتمين بتاريخها وتراثها، عن تاريخ بلدة تل شهاب فقال: "لا أبالغ حين أقول إن تل شهاب قديمة قدم التاريخ، فحسب المصادر التاريخية هي منطقة مأهولة سكانياً منذ القدم، لأنه تم العثور داخل كهوفها ومغاراتها على أدوات قديمة للإنسان، كمعاول وفؤوس وأدوات زراعية حجرية، وهي تشتهر بكهوفها ومغاراتها، فكلمة حوران باللغة الآرامية تعني الكهوف".
عن كونها مدينة كنعانية، قال عبد الله: "بالتأكيد سكنها الكنعانيون، ولهذا يقدر عمرها بأكثر من 5 ألاف عام، وذلك لأنها كانت مدينة مسوّرة بسور كنعاني طوله عشرين قدم من جهاتها الأربع، تبقى جزء منه ولا يزال قائماً حتى هذه اللحظة، في الجهة القبلية من البلدة. ستراه في زيارتك هذه للبلدة ، اسأل عن باب السور، فسكان تل شهاب يعرفونه بباب السّور".
ثمّ تابع حديثه عن السّور وفاجأني عبدالله بكلام مهم، عرفته لأول مرة في حياتي: "مدخل تل شهاب يشبه مدخل مدينة أوغاريت الأثرية من حيث السّور المائل نحو الداخل، حيث أنّ هذا السّور بارتفاعه الحالي ونزوله شرقاً باتجاه ميل الأرض مع الوادي، قد يكون أكبر من سور أوغاريت. وسقف المدخل نصف دائري، لكن مرور الطريق الإسفلتي منه جنوبا قد أزال معالمه بشكل بيّن. وبجانب المدخل وهو المدخل الوحيد للبلدة قديماً، يوجد درجان بمجموعة متقابلة من الدرجات. وما يزال هناك بقايا لجدارٍ داخلي ثان بين المنازل الحديثة، وهو مبني على الطريقة الرومانية".
انتهى حديث عبدالله عن تاريخ البلدة وسورها مما زاد تلهفي للإسراع في زيارة البلدة بعين المهتم الذي ينوي الحصول على المعلومات وتوثيقها لا بعين الزائر كما اعتدت الذهاب من قبل. حقيقة لليوم تتضارب الآراء الصادرة من مثقفي البلدة والمهتمين بها، منذ أي عصر كانت بلدة تل شهاب مأهولة.
فبالعودة لجغرافيا المنطقة نجد أن منطقة حوران كانت أرضاً كلسية ولهذا كانت تنتشر بها الكهوف والمغاور، وبعد انفجار بركان جبل العرب الشهير، تغطت المنطقة بالحمم البركانية البازلتية، وتشكلت هذه التربة الحمراء الغنية بعناصر الحديد.
أما بخصوص العصر الكنعاني فهو أمر أجمع عليه جميع المهتمين بتاريخ البلدة والسّور الكنعاني القائم ليومنا هذا، هو أقوى برهان على صحة هذا الكلام.
وبعد جهد جهيد وتفحيص وتمحيص، وجدت ضالتي لدى السيد عيسى يعقوب وهو رئيس بلدية تل شهاب السّابق، حيث قدم لي العدد 24 من صحيفة "العمران" التي كانت تصدرها وزارة البلديات في سوريا، والصحيفة تعود لشهر نيسان/أبريل عام 1970، وتحتوي على مقالة بعنوان "المدن القديمة في محافظة درعا" بقلم علي عساف الحاصل على ماجستير في الآثار واللغات السّاميّة.
لا أبالغ حين أقول إنها كانت المادة اليتيمة التي وجدتها عن بلدة تل شهاب التاريخية، يقول فيها إن تل شهاب مدينة كنعانية مجهول اسمها القديم، وهي من أحصن وأمنع بلدات المنطقة، محاطة بسور كنعاني، وتقع بين واديَين يحيطانها من الشمال والغرب والجنوب. ويبدو أنها كانت من الأهمية بمكان جعل القائد المصري سيتوس الأوّل (1305-1290 قبل الميلاد)، أمر بإقامة نصب تذكاري له (مسلة مصرية) عندما غزا حوران، تخليداً لانتصاراته في تل شهاب.
من المؤسف أن هذا التمثال الذي عُثر عليه صدفة في تل شهاب في العام 1901 نُقل إلى باريس ولم يكتب عنه أحد، ولم تفسَّر النصوص المنقوشة عليه، وبالتالي ما زال الاسم القديم للبلدة الكنعانية مجهولاً. وقد قام بعض العلماء باستطلاع الوديان المحيطة بالتل، فتبين لهم أن الإنسان سكن وادي اليرموك في العصور الحجرية، وإن كانت المدينة من الدور البرونزي، فمن المرجح أن البلدة أقيمت على أنقاض قرية من الدور الحجري الحديث، لوجود دلائل تشير إلى ذلك، مثل الأدوات الحجرية التي هي من ميزات الدور الحجري الحديث.
أما عن سبب تسمية تل شهاب بهذا الاسم فقد أخبرتني بعض المصادر الموثوقة أن سكان تل شهاب الحاليين يعود أصلهم إلى شهاب، وهو الجد الأكبر لعشيرة الحشيش المعروفة التي استقرّت منذ زمن بعيد في هذه البلدة الوديعة.
وفي سياق متصل، يُجمع كلّ من عيسى يعقوب وكمال البديوي، وهو مدرس فلسفة متقاعد، بأنه "كانت هناك مملكة قديمة تقطن في تل شهاب بسبب العثور على آثار ومقابر كنعانية ورومانية وأخرى لم يتم تحديد زمانها بشكل دقيق في البلدة". ويتابعان بحرقة واضحة: "ولكن لليوم لم يتم التنقيب في آثار هذه البلدة، ولم يتبين عمرها الحقيقي، وفي أي زمن كانت مأهولة سكانياً، وما كان اسمها القديم، وما هي المملكة التي كانت مشادة على أراضيها الخصبة، بسبب نقل المسلة المصرية إلى باريس".
طواحين الماء (Water mills)
عرض عليّ عيسى يعقوب صوراً لشلالات تل شهاب تعود إلى العام 1972، أي قبل أكثر من نصف قرن، وحدثني مطولاً عن طواحينها المائية: "كانت الشلالات قبل عدة عقود أقوى وأغزر، وكانت الطواحين ما زالت صالحة للطحن، يشغّلها أصحابها حين الحاجة. أما بالنسبة لعمر الطواحين وتاريخها، فهي تعود للعصر العثماني، حيث كان العثمانيون يشيدون هذه الطواحين بالاعتماد على قوة الماء السّاقطة لطحن الحبوب، ولها مثيلاتها ذائعات الصّيت في الجنوب اللبناني. لوفرة الشّلالات المائية التي تتميز بها بلدة تل شهاب، أقيمت هذه الطواحين فيها ما بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، وتم تجهيزها لطحن الحبوب التي تعمل بواسطة دفع المياه المتساقطة من الشّلالات والينابيع، حيث كانت تستخدم هذه الطّريقة في طحن الحبوب قبيل استخدام وانتشار الطاقة الكهربائية أو محركات الديزل. وكانت طواحين تل شهاب تعمل على طحن حبوب مناطق حوران وجبل العرب والكسوة وشمال الأردن والجولان".
وبعد عدة ثوانٍ التقط فيها أنفاسه واستجمع ذاكرته، تابع قائلاً: "يعتبر وادي تل شهاب من أغنى المناطق بالمطاحن الحجرية التي تعمل بواسطة ضغط الماء، حيث يعرف الوادي بغزارة المياه سابقاً، ويتمتع بامتياز تدفق المياه الغزير الكافي لتدوير أحجار المطاحن بسهولة، حيث كانت هذه الطواحين المنتشرة في الوادي، حتى القرن الماضي، المكان الرئيسي لطحن الحبوب بشتى أنواعها للمناطق المجاورة لمنطقة حوران، وقد ساعد تفرّد وادي تل شهاب بهذه الميزة لكونه انهدامياً يبدأ من حفرة انهدامية تقع في شرق قرية تل شهاب مباشرة، وهو جزء من الانهدام السوري الإفريقي. وتعود ملكية الطواحين لبعض الأشخاص والعائلات المعروفة بتلك المنطقة، منها مطحنة الشعلة والمعلّقة والرفاعية والتلية والعيشاوية وأم الغزلان والبديوية والبقيرات. فكانت تسمى كل مطحنة باسم العائلة التي تمتلكها. ومن الممكن مشاهدة المسار المحدد الجوانب والمصطبة المائلة والأقنية الداخلية في جسم الطاحونة، إضافة إلى الدولاب الخشبي، الشاهد الأبرز والمثال الفريد لمحرك الطاحونة الحجرية".
ولبلوغ هذه المطاحن يجب عبور طريق منحدر من أعلى البلدة، وهو طويل وصعب لأنه منحدر بشدة، هذا الطريق الذي تم تعبيده في حقبة قريبة. يتذكر عيسى: "في طفولتي كان هذا الطريق يعجّ بالفلاحين طوال الليل والنّهار خلال وقت طحن الحبوب، حيث كان الناّس يضعون أحمال الحبوب على ظهور الدّواب، وكان يطلقون اسم 'النّتاش' على من يشرف على صيانة حجر الطاحونة وتشغيلها، ولم يكن القائمون على هذه الطاحونة يتاقضون أجراً مالياً لقاء عملية الطحن الشّاقة، بل كان المقابل هو نسبة محددة من الحبوب المطحونة يأخذونها من الفلاح وكانوا يطلقون عليها اسم 'الرِّد'. والجدير بالذكر، أنّه كان يوجد في وادي تل شهاب أكثر من 37 طاحونة مائية، تمتد على طول مجرى الماء من بحيرة المزيريب حتى شلالات تل شهاب، وقد زال الكثير منها بسبب تقادم الزمن وعبث البشر، ولم يبق سوى ثماني فقط حتى الآن. توقفت هذه المطاحن عن العمل عام 1968، وبذلك انتهى عهد طحن الحبوب في المطاحن".
عكّور... نبع الماء والخرافة
من أجمل اللحظات التي تخللتها زيارتي إلى بلدة تل شهاب والتي دفعتني للقيام بزيارة ثانية بعد أقل من أسبوع، هو نبع ماء عكور الذي يتفجّر من الصخر. بالفعل كان منظراً طبيعياً أكثر من رائع، ليس فقط هيبة الشّلالات وهي تتساقط من علو، ولكن الأروع كان رؤية الماء النمير ينساب من صخرة بشكل طبيعي. شاهدت أطفالاً يتحلقون حول عين الماء، أحدهم استلقى على بطنه وراح يعبُّ حتى انفجر بطنه على حد زعمه من لذة الماء، وكان هناك تحدٍّ بينه وبين صديقه أن من يشرب أكثر سيحصل على درجات أعلى في الامتحانات وسيصبح أقوى جسدياً، لأن الشرب من نبع عكور يعطي الشّارب منه ذكاءً حاداً وذاكرة قوية وطاقة جسدية لا محدودة.
عند عكّور، التقيت بصديقي عصام عليان ووالده وهما فلسطينيان لاجئان. قال لي والده التسعيني: "لجأت إلى تل شهاب بعد النكبة وكان عمري حوالى عشر سنوات، وحينها تتبعنا السّكة الحديدية الحجازية التي أشيدت في عهد العثمانيين، من مدينة حيفا في فلسطين، حتى وصلنا تل شهاب".
حدثني أبو عصام أيضاً عن نبع ماء عكّور، الذي يقع على مقربة من مطاحن الماء الحجرية: "عكّور نبع ماء ذو مذاق حلو. قام بعض الخبراء من أبناء البلدة بتحليل مياهه فتبين أنّه كلسي، ويشبهه سكان بلدة تل شهاب بنبع ماء زمزم في مكة المكرمة، لتشابههما في الطعم والمذاق. أطلق عليه هذا الاسم لأن من اكتشفه هو ضابط فرنسي اسم 'أغور'، وبتحوير الاسم للهجة الحورانية المحكية أصبح 'عكّور' بتشديد الكاف، كما هو معروف باللهجة الحورانية. هناك الكثير من الينابيع المائية، إلا أنّ حفر الآبار الجائر والغير منظم أدى إلى خورها".
ثم تابع مبتسماً: "تقول السّيرة الشّعبية إن الفتاة التي تشرب من عين عكور تتزوج، والعاقر تحبل، والعقيم سيشفى، والتاجر الخاسر سيحالفه الحظ ويثري، والطالب الكسول سينجح، إلخ من الخرافات الشعبية المنتشرة في المجتمعات الرّيفية".
"تقول السّيرة الشّعبية إن الفتاة التي تشرب من عين عكور تتزوج، والعاقر تحبل، والعقيم سيشفى، والتاجر الخاسر سيحالفه الحظ ويثري، والطالب الكسول سينجح، إلخ من الخرافات الشعبية المنتشرة في المجتمعات الرّيفية"
يقطن بلدة تل شهاب العديد من العائلات السّورية وقسم من اللاجئين الفلسطينيين، ويبلغ تعداد سكانها حوالى 17 ألف نسمة. ويتميز أهلها بطيب معشرهم و حسن أخلاقهم وإكرامهم للضيف.
إضافة إلى الحبوب، يزرع أهالي بلدة تل شهاب الأشجارَ المثمرة، من أبرزها الزّيتون والخوخ والدّراق والتين والرّمان والصّبار، كما تعتبر بلدة تل شهاب وجهة سياحية داخلية مفضّلة للرحلات المدرسية والعائلية، لجمال طبيعتها الآسر ولكونها معلماً سياحياً وتاريخياً وأثرياً بارزاً.
ولحين كتابة هذه المادة عن بلدة تل شهاب، سيظل اسم تل شهاب القديم وعمرها التاريخي سؤالاً يحير المثقفين والمهتمين من أبناء البلدة وأبناء حوران وسوريا وربما وطننا العربي.
أتمنى أن تحظى بلدة تل شهاب ومعالمها الأثرية باهتمام أكبر من قبل علماء الآثار والباحثين، كما أتمنى أن يحظى كل الأطفال بزيارة شلالات تل شهاب والشرب من نبع ماء عكور، فمن المؤلم أن ينهي بعض الأطفال المرحلة الابتدائية، دون أن يضعوا على الأقل أقدامهم في المياه الجارية أو أن تدغدغ أصابعهم الأسماك الصغيرة والسّراعيف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.