شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
شهادة من

شهادة من "أطباء بلا حدود" في السودان... الموت اقترب من كل شيء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والمشرّدون

الاثنين 29 أبريل 202401:30 م

"باعتباري طبيباً فأنا هنا لأنقذ حياة الناس، لكن هناك سؤالاً لا يكف عن ملاحقتي، فكيف عساي أن أؤدي واجبي في ظل غياب ما يكفي من الموارد والطواقم؟".

لم أتخيل يوماً قبل 15 أبريل/نيسان 2023 بأنني سأجد نفسي في الخرطوم، عاصمة بلادنا، وبأنني سأعمل في منطقة قتال. أنا طبيبٌ من السودان وأعمل مع منظمة أطباء بلا حدود منذ أعوام عديدة، لكنني لم أشهد قط على معاناة كالتي يعانيها أهل بلدي يومياً. فهذا نزاعٌ كارثي، إذ نزح أكثر من 7 ملايين اليوم جراءه، سواء داخل أو خارج البلاد. وقد فرّ هؤلاء الناس من وجه العنف ووجدوا أنفسهم معدمين تقريباً في مخيماتٍ عشوائية. ولم أسلم أنا وأهلي وأحبائي من النزاع مثل آخرين كثر. 

انهيار القطاع الصحي 

تعاني دولة السودان منذ زمن طويل من هشاشة نظامها الصحي، وقد أدى هذا النزاع القائم إلى انهيار هذا النظام. وأدعم منذ أشهر فرق أطباء بلا حدود في مستشفيين في ولاية "الخرطوم" وآخر في مخيم "أم راكوبة" في شرق البلاد. وحين يفكر الناس في الاحتياجات الطبية أثناء النزاعات، فغالباً ما تتبادر إلى أذهانهم صور أناسٍ جرحى أصيبوا بالقنابل والرصاص. لكنني رأيت أيضاً أعداداً متزايدة من حالات الطوارئ الطبية التي نتجت عن مضاعفات أمراض مزمنة غير مُعالَجة. فهناك أشخاص نجحوا في تدبير السكري والربو لسنوات ولا يقدرون اليوم على تأمين الأدوية التي لا بد منها لبقائهم على قيد الحياة. 

باعتباري طبيباً فأنا هنا لأنقذ حياة الناس، لكن هناك سؤالاً لا يكف عن ملاحقتي، فكيف عساي أن أؤدي واجبي في ظل غياب ما يكفي من الموارد والطواقم؟.

ثمة أيضاً احتياجات هائلة على صعيد رعاية الأمومة، ولا سيما بين النساء الحوامل اللواتي تستدعي حالاتهن إجراء عمليات قيصرية أو في حالات ولادات الطوارئ. لذا فقد كان فريقنا في "أم ضوّاً بان"، أحد المستشفيين اللذين كنت أغطيهما، يقدم الدعم لفريق الأمومة، إذ ساعد في أكثر من 1500 ولادة منذ يوليو/تموز. لكن خدمات الأمومة في مختلف أنحاء البلاد لم تعد تعمل بانتظام، ممّا يضع النساء الحوامل في مواجهة مضاعفات تهدد حياتهن دون سبيلٍ لتأمين الرعاية التوليدية في حالات الطوارئ. وحين تتوفر خدمات الرعاية الصحية تكون جودتها موضع شك. 

لا بد من فعل المزيد

كوني مواطناً وطبيباً فإنني أشعر بقلق عميق عندما أفكر في الاحتياجات الصحية المتزايدة في وطني. فبعضها يعود إلى ما قبل النزاع، لكنها تفاقمت جميعها بفعله. وللسودان تاريخٌ مقلق من تفشي أمراض كالحصبة والتهاب السحايا. ويمكن بسهولة الوقاية من هذه الأمراض شديدة العدوى باللقاحات، لكنها دون هذه اللقاحات قد تكون فتاكة ولا سيما بين الأطفال الصغار. كما يؤدي سوء التغذي إلى تعريض حياة الأطفال بالأخص للخطر، حيث يُضعف جهازهم المناعي. 

بالحديث عن الحرب، غالباً ما تتبادر إلى الأذهان صور الجرحى، لكنني رأيت أعداداً متزايدة من حالات الطوارئ التي نتجت عن مضاعفات أمراض مزمنة غير مُعالَجة. فهناك أشخاص لا يقدرون اليوم على تأمين الأدوية التي لا بد منها لبقائهم على قيد الحياة

وفي ظل انهيار نظام الرعاية الصحية وفرار مئات آلاف الناس هرباً من العنف وإقامتهم على الأغلب في مخيمات عشوائية مكتظة، لم يعد تنفيذ برامج تطعيم شاملة ودعم التغذية مجرد أمرٍ مهم بل بات شريان حياة من شأنه أن ينقذ حياتهم. 

يزداد تصميمنا... ولكن

لا تزال معظم المناطق التي تعمل فيها "أطباء بلا حدود" في السودان ساحات معارك نشطة، مما يجعل عملنا بالغ الصعوبة والخطورة، لكنه أيضاً يزيدنا تصميماً. ولا يقتصر هذا التصميم على أطباء بلا حدود إنما يشمل المجتمعات التي تتعاون لتدعم بعضها بعضاً. ففي مخيم "أم راكوبة" في شرق البلاد على سبيل المثال، تقدم فرق "أطباء بلا حدود" الرعاية الطبية التي لا غنى عنها لآلاف الناس الذي يعيشون في المخيم والمناطق المحيطة به. 

لم يكن واضحاً عند اندلاع النزاع ما إذا كان سيتسنى لنا مواصلة الدعم الطبي هناك، بيد أن تصميم الفريق لم يسمح بحدوث أي ثغرات في الخدمات. فقد نفذنا العام الماضي 40,000 استشارة طبية وساعدنا 507 امرأة على وضع مواليدهن بأمان، حيث شملت هذه الخدمات نساء لاجئات وأخريات من المجتمعات المضيفة. لكن هذا التصميم كان مشتركاً، فقد رأيت بنفسي في أم راكوبة أهمية الدور الذي لعبه المتطوعون والمتطوعات والقابلات من أهالي المجتمع المحلي.

إلا أن التصميم أحياناً لا يكفي. وكوني طبيباً فقد أقسمت قسماً مقدساً بأن أفعل كل ما في وسعي من أجل الناس الذين يحتاجون إلى الرعاية الطبية. وبوصفي نائباً للمنسق الطبي في منظمة أطباء بلا حدود، فإن مهامي لا تقتصر على علاج المرضى فرادى، إنما يتعين علي تنسيق الرعاية على نطاق واسع والحرص على إرسال الطواقم والإمدادات إلى حيث تكون الحاجة إليها على أشدها. 

خدمات الأمومة لم تعد تعمل بانتظام في كل البلاد، ممّا يضع الحوامل في مواجهة مضاعفات تهدد حياتهن دون سبيلٍ لتأمين الرعاية التوليدية في حالات الطوارئ. 

لكن كيف يسعني أن أفي بالعهد الذي قطعته ونحن في وضع تتعرض فيه الموارد والأيدي التي تقدم المساعدة للعرقلة وتواجه الخطر؟ هذا سؤالٌ يتردد صداه في ذهني ليل نهار.

إنها لمسألة حياةٍ أو موت أن يدرك جميع أطراف هذا النزاع الغرض الوحيد الذي تسعى إليه أطباء بلا حدود، ألا وهو تأمين الرعاية الطبية للناس الأكثر ضعفاً دون مقابل. ولا بد من تأمين وصول المرض إلى الطواقم وبالعكس، ويجب حمايتهم جميعاً، اليوم قبل غد. فحياة من نسعى إلى إنقاذهم تتوقف على هذا.

عملي في وطني السودان ليس مجرد وظيفة، إنما جزءٌ من إنسانيتي. ويحتم علي واجبي الأخلاقي كما يحتم على زملائي في أطباء بلا حدود أن نفعل كل ما في وسعنا لتخفيف المعاناة في وجه النزاع. لذا لا أزال متفانياً في سبيل هذه القضية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

لعلّ تعريفنا شعوباً ناطقةً بالعربية لم يعد يستقيم من دون الانتباه إلى أننا صرنا شعوباً متفلّتةً من الجغرافيا. الحروب الدائرة في منطقتنا والنزاعات الأهلية والقمع، حوّلتنا إلى مشردين، بين لاجئين ونازحين، وأي تفكير في مستقبلنا لم يعد ممكناً من دون متابعة تفاصيل حياة الجميع، أينما كانوا، وهو ما نحرص عليه في رصيف22. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image