شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
من جدران الأهرامات إلى السوشال ميديا… كيف أصبحت المدائح الدينية

من جدران الأهرامات إلى السوشال ميديا… كيف أصبحت المدائح الدينية "ترنداً"؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع

الثلاثاء 30 أبريل 202402:11 م

فن المدائح في الأساس فن ديني، اختلفت تسميته في الديانات بين "أناشيد"، "مزامير"، "ترانيم"، و"مدائح"، لكنه في النهاية فن مصدره الأساسي العقائد الدينية.

من الأناشيد الدينية المنقوشة على جدران الأهرامات وتوابيت الموتى، وأشهرها التي أنشدها المصريون في حب أخناتون: "أنت تطلع ببهاء في أفق السماء، يا آتون الحي، يا بداية الحياة، عندما تبزغ في الأفق الشرقي تملأ كل البلاد بجمالك"، إلى الترانيم القبطية التي انتشرت مع انتشار الديانة المسيحية في مصر، إلى المدائح النبوية التي ظهرت مع ظهور الإسلام "طلع البدر علينا"، تطوّر هذا اللون عبر العصور إلى فنّ منظّم له قواعد وأساليب خاصة. من العصر الأموي حيث كان عمداء هذا الفن حينذاك إبراهيم وإسحاق الموصلي، وتلميذهم زرياب، وحتى العصر الفاطمي الذي شهد الانتشار الأوسع لهذا الفن في مصر تحديداً، ومن وقتها صارت مصر دولة المدّاحين.

في عصرنا الحالي، اشتهرت مصر بكونها دولة المدّاحين والمنشدين، والكثير من قرّاء القرآن المصريين كانوا منشدين ومبتهلين، لكن جلسات الاستماع إليهم كانت تتسم بما يجوز أن نطلق عليه "جلسة رسمية"، فالكثير من هذه الجلسات كانت تقام في المساجد في شهر رمضان والمناسبات الدينية وصلوات الفجر من دون موسيقى ولا يُسمح فيها بتمايل "السمّيعة". ومن أشهر هؤلاء المبتهلين كان نصر طوبار، النقشبندي، محمد الهلباوي، وطه الفشني. لكن ما نتحدث عنه الآن هو الإنشاد أو غناء المدائح الشعبي في الموالد خاصةً.

فن المدائح في الأساس فن ديني، اختلفت تسميته في الديانات بين "أناشيد"، "مزامير"، "ترانيم"، و"مدائح"، لكنه في النهاية فن مصدره الأساسي العقائد الدينية

لفترة طويلة من الزمن، اقتصر هذا الفن على فئة خاصة من الناس. أولئك من رواد الموالد من الفقراء والبسطاء؛ فطقس أساسي من إقامة مولد لأحد "الأولياء" في مصر هو "يوم المدّاح"، الذي كان ينتظره رواد المولد؛ المغنّي الذي غالباً ما كان يستضيفه أحد أثرياء المنطقة التي يقام فيها المولد، يقيم له "صواناً"، يحتشد حوله السمّيعة، ويصطفون في صفوف متوازية ينتشون بكلمات القصيدة التي تصاحبها دائماً موسيقى إيقاعية مألوفة، بالدّف والربابة تحديداً، ويتمايلون على أنغامها يميناً ويساراً هائمين في ملكوتهم الخاص.

ذكرنا آنفاً أن المديح، خاصةً في الموالد، وأكبرها المولد النبوي، كان غالباً ما يقتصر على بعض الناس، وبرغم أن القصائد التي يتغنى بها المدّاح تكون أشعاراً بالعربية الفصحى، كأشعار ابن الفارض وجلال الدين الرومي، وبرغم أن هؤلاء غالباً ما يكونون أرقاء الحال، فقراء، أصحاب خلفية تعليمية متواضعة، وأغلبهم من الفلاحين من أهل القرى وكثيرون منهم يجولون وراء المدّاحين من مولد إلى مولد، إلا أننا نجدهم يحفظون القصائد ويتغنون بها ويتلذذون وهم يعيدون مقاطع منها ويشرحونها لبعضهم بعضاً، ويرتدون ثياباً متواضعةً، وبالكاد يتحصّلون على لقمة العيش ليكافئوا أرواحهم في النهاية بفن هم مولعون به. لكن في السنوات العشرين الماضية، انتشر هذا الفن بين شريحة من الشعب أبعد ما تكون عن "السمّيعة" القدامى؛ فغالبيتهم شباب يرتدون الجينز الممزق، بشعر منسدل أو طلّاب في الجامعة أو خرّيجون يعملون في مهن حديثة كمجالات التكنولوجيا الرقمية.

جيل المهرجانات يستمع إلى عميد دولة المدّاحين

من دلائل تغيّر شريحة المستمعين إلى فن المدائح في مصر، هو جمهور جيل اليافعين والشباب الصغار، ممن وُلدوا في ظل الظاهرة الغنائية الجديدة ظاهرة "أغاني المهرجانات". ففي الكثير من الموالد، خاصةً المولد النبوي، نرى هؤلاء يحضرون حفلات الشيخ ياسين التهامي، عميد دولة المدّاحين في مصر،، ولا يقتصر حضورهم على جلسات الموالد أو سماع الأغنيات على اليوتيوب، لكن اللافت أن هؤلاء هم الأكثر حضوراً لحفلات الشيخ التي تقام في الأوبرا المصرية أو حفلات ساقية الصاوي وغيرها.

قبل الشيخ ياسين، استطاع الشيخ أحمد التوني الملقّب بسلطان المدّاحين، والذي أخذ الغناء الصوفي إلى العالمية، الوصول إلى "سمّيعة" في أوروبا، وعدد كبير منهم كانوا من الشباب الصغار أيضاً. وكذلك الشيخ زين محمود الذي أسس فرقة ومدرسة "زمان فابريك" في فرنسا لإنشاد المدائح وتعليمها، الفرقة التي غالبية طلّابها من الشباب. حتى أن بعض المطربين الشباب الجدد في مصر الآن، ممن يغنّون طرباً عادياً نجد في مسيرتهم غناء المدائح، كما المطرب علي الهلباوي.


من خلال النقاش مع الكثير من جمهور المدّاحين من الشباب الجدد، وجدت أن أهم الأسباب التي غيّرت نوعية جمهور المدائح، مواقع التواصل الاجتماعي بشكل خاص وانتشار استخدام الإنترنت بشكل عام، الأمر الذي جعل الشباب الصغار متطلعين إلى التعرف على كل أنماط الحياة والفن، رافضين القوالب القديمة. فكما مزجوا الراب بالتراث الشعبي وبالغناء الطربي، وأطلقوا عليه "المهرجانات"، وتعرفوا على أنواع مختلفة من الموسيقى شرقاً وغرباً، وجميعها في متناول أيديهم بأسهل الطرق، فالأحرى أن يتعرفوا على نوع محلي من الغناء، يكون جديداً بالنسبة إليهم.

وعندما يستعصي عليهم فهم بعض كلمات القصائد المغنّاة، والتي هي بالنسبة إليهم غريبة برغم تحدّثهم اللغةَ العربية، فإنهم يلجؤون إلى محركات البحث للتنقيب عن معاني الكلمات والاطلاع على نصوص القصائد المغنّاة ومعرفة حكايتها لينغمسوا في معانيها أكثر. فهذا الجيل والأجيال الأصغر سنّاً منه خُلقوا للتجريب وليس التقليد، وتمردوا على ما وجدوا عليه آباءهم.

من الفلاحين إلى المثقفين

إذاً، لم يقتصر الاستماع على أصحاب الحبّ الفطري غير المحتاج إلى تعليم ولا على جيل المهرجانات المنفتح على كل شيء. لكن في مصر هناك علماء في اللغة والطب وأدباء وشعراء وأساتذة جامعيين ممن يدأبون على حضور تلك الجلسات ويؤلفون كتباً في المديح وأهله، ككتاب الأكاديمي والإعلامي، محمد الباز، بعنوان "ياسين التهامي، أسرار عميد دولة المدّاحين"، وهو الكتاب الذي سجّل فيه 50 عاماً من مسيرة الشيخ في عالم المديح، ووصف تميّزه النادر عن بقية المدّاحين، التميز الذي جعل مريديه بالملايين في مصر والعالم.

اشتهرت مصر بكونها دولة المدّاحين والمنشدين، والكثير من قرّاء القرآن المصريين كانوا منشدين ومبتهلين، لكن جلسات الاستماع إليهم كانت تتسم بما يجوز أن نطلق عليه "جلسة رسمية".

وفي تصريح لرصيف22 يقول الدكتور محمد فكري الجزار، أستاذ الأدب والنقد الحديث وصاحب التوجه الصوفي، في ما يتعلق بانتشار فن المديح خاصةً جلسات الموالد في الفترة الأخيرة في وسط المثقفين وعدم اقتصارها على فئة معيّنة: "يريد ربّك أن يشيع مديح نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم في طبقات كان يمكن أن تقضي وقتها في ما لا نفع فيه إن لم يكن محقق الضرر، فتتحرك قلوبهم لمحبة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلّم، فيتعدل سلوكهم بمحبته هذه. حتى لو كان من وراء تكوين فرق المديح سبب اقتصادي، فإننا لا يمكن أن نغفل عن الفائدة المترتبة على هذا الأمر. وخير ما أخذ عليه أجر شيء يرضي الله جل جلاله". وأضاف أنه وهو ابن الطريقة البندارية العسيوية، يحضر جلسات المديح خاصةً في المولد النبوي.

لكن الشاعر والمترجم المصري أسامة جاد، وهو الدؤوب في حضور تلك الجلسات خالف الرأي السائد في مسألة تغيّر شريحة مستمعي فن المدائح، وأوضح لرصيف22 قائلاً: "لا أستطيع أن أوافق على الفرضية المطروحة هنا بصورة تامة، ففي خبرتي وفي تصوّري كانت أمسيات الإنشاد والمديح الصوفي دائماً ممثلةً بجميع الأطياف البشرية، من الفقراء البسطاء علمياً واقتصادياً، ومن العلماء والأثرياء على حد سواء. دعيني أذكر مثلاً أن عدداً ممن وصلتنا أخبارهم في وصف أمسيات الإنشاد والوجد هم علماء في عصور مختلفة، فها هو السهرودي، أبرز علماء عصره وقد تفوّق عليهم في مناظرات عدة أثارت أحقادهم عليه، يصف صورة الوجد الصوفي بقوله:

لا ذنبَ للعشّاقِ إن غلب الهوى/كِتمانهم، فنما الغرامُ، فباحوا

لا يطربون لغيرِ ذكرِ حبيبِهِم/أبداً، فكلّ زمانِهم أفراحُ

حضروا وقد غابت شواهدُ ذاتِهم/ فتهتّكوا لما رأوه وصاحوا

أيضاً أرجع البعضُ الظنَّ بتغيّر جمهور تلك المجالس إلى اختلاف طبائع تلك المجالس قديماً وحديثاً. وعن هذا يوضح جاد مستطرداً: "السمة التي غلبت على جلسات المديح والإنشاد الصوفية في السابق كانت الخفية والتستر، ربما خشية المراءاة وما يتبعها من أمراض النفس، بل كان بعضهم يتلثم كي لا يُعرف في قلب الحشود، وفي قصص الزهّاد الكثير من ذلك، والتستّر أوجب. إلا أنه مع الانفجار الإعلامي الجديد الذي حدث في العقود الثلاثة الماضية، ومع طفرة الاتصالات ووجود كاميرا في كلّ يد، سُمح بانتهاك هائل لهذا النوع من التخفي أو التستر، ما جعل ظهور كل من يرتاد تلك الجلسات و'المواجيد' وتسجيل صورة هنا أو هناك أمراً لا مفر منه".

ويضيف: "الأمر أن حضرات المديح وجلساته لم تخلُ قط من تنوع في الطبقات الاجتماعية والثقافية وتمثيل شامل لها، ولم يختلف ذلك في قديمه عن حديثه سوى في انتشار آثاره وتداوله الإعلامي عبر مختلف الوسائل. هذا في ما يتعلق بأهل التصوف والزهد بصورة مركزية. أما مَن سواهم، فالثقافة في ذاتها تقتضي التعرف على الممارسات الدينية والاجتماعية المتنوعة، إن لم يكن بدافع الانتماء إلى الجماعة الصوفية، فبدافع معرفي ينجم عن مفهوم الثقافة بمعناها العضوي الذي يتجاوز مجرد قراءة الكتب أو الوجود على منصات الدرس إلى التمظهرات المتنوعة لثقافة المجتمع على عمومها. في ما يتعلق بعلماء الأدب واللغة، لا يخفى على المهتمين ما في جلسات الإنشاد والمديح من تكشفات ودقائق مهمة في استكشاف اللغة وتداوليتها. وعليه، فبين زاهد يطرب وعالم يبحث ومثقف يتفاعل لا أجد وجهاً للدهشة في تمثيل هؤلاء اليوم، مثلما في الماضي، في تلك الجلسات وفي ما يجري على مثالها".

لفترة طويلة من الزمن، اقتصر فن المدائح على فئة خاصة من الناس، أي رواد الموالد من الفقراء والبسطاء، لكنه اليوم صار له متابعوه من الشباب والجيل الحديث 

هناك أيضاً ظاهرة في فن المديح جديرة بالملاحظة، وهي أن أغلب المدّاحين يأتون من صعيد مصر، وفي هذا الشأن صرّح أحمد أبو حنيجر، مؤلف كتاب "الإنشاد الديني في جنوب مصر"، لرصيف22 أن "لهذه الظاهرة ثلاثة أسباب، برغم أن هناك العديد من المدّاحين من شمال مصر احترفوا المدائح وذاع صيتهم أيضاً، ولكن بالنسبة لمدّاحي الصعيد، فالسبب الأول طبيعة البيئة والتقاء الثقافات المصرية والعربية بديانتها القبطية والإسلامية، إلى درجة أن بعض جماعات المدّاحين ينشدون مدائح نبويةً تشبه الترانيم، وذلك وفقاً لما توارثوه من هذا الفن. بالإضافة إلى أن أهل الصعيد هم أقل الأقاليم احتكاكاً وتأثراً بالمستعمر أياً كان، وهذا العامل حافَظَ على نقاء هذا الفن من المؤثرات الأجنبية.

السبب الثاني، انتشار الشعر الشعبي والقدرة على الارتجال، فالبنية الشفهية تنمّي ملكة الحفظ الجماعي. قديماً كثرت فئة غير المتعلمين، مما اضطرّهم إلى الاعتماد على تنمية ملكة الحفظ والارتجال عند النسيان في قصّ القصص مثلاً. والسبب الثالث هو العدد الكبير من الناس القادرين على نظم الشعر وتحويله إلى غناء. بالإضافة إلى عامل البيئة القاسية في الجنوب نوعاً ما، مما أصقل الأصوات وعمل على رخامتها".

المولوية والمديح... الفائض الاحتفالي للحضرة الصوفية

يشبه فنِّ المولوية الصوفي، الذي يمتزج فيه الرقص بالذكر والابتهالات، والذي أسسه جلال الدين الرومي، وانتشر في دول عربية عدة، إلى حد ما، فنَّ المديح. لكن ما الفارق بين هذين الفنّين الآتيَين من مصدر واحد؟ في تصريح خاص برصيف22، يقول الدكتور عامر التوني، مؤسس المولوية في مصر، عن الفرق بين المولوية وفن المديح: "المولوية اكتملت فيها جميع الفنون الأدبية، من شعر إلى قصة وموسيقى وتحريك للجسد، إلى آخره. بينما المديح حالة سمعية. وجميعها، أي المولوية والمديح فائض احتفالي أو ناتج احتفالي لشكل الحضرة الصوفية".

في النهاية المغزى منهما واحد، وهو السمو بأرواح المريدين عبر رحلة تربط بين الأرض والسماء، انتشاءً برقص المولوية وهياماً بالدوران يميناً ويساراً على وقع قصيدة المداح، وكلاهما جمعا أطيافاً بشريةً ربما يستعصي جمعها على التصور في خارج هذا السياق.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image