شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
عرض

عرض "السوق العمومي"... رؤية مختلفة لغرف البغاء البيروتية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والنساء

الاثنين 29 أبريل 202401:00 م


انتقلت إلى العواصم العربية نماذج المدن الغربية بأبعادها الاجتماعية، ووصلت البنى الترفيهية إلى المدن العربية كنموذج للتقليد والانسجام مع بيئة اجتماعية مختلفة. تم خلق هذه البنى خلال الانتداب الفرنسي، الذي اعتاد تقسيم العمل وجعل الرغبات الإنسانية متاحةً.فمثلاً، الخمّارات التي فرضها الضباط والجنود جلبت معها تفاصيل مرتبطةً بسوق الجنس.

في عقل ضباط الانتداب لم يكن لسوق الجنس أي معيار أخلاقي، بل كان يُنظر إليه كحاجة وفعل، رغبة وموضوع، برغم أنه يشغل حيّزاً من التطور الاجتماعي والاقتصادي الذي يُلقي الضوء على أبعاد تقسيمية للمعنى والمكان الجنسيين اجتماعياً.

وعلى الرغم من أن المكان الخاص بالجنس كان موجوداً ومتعارفاً، إلا أنه كان يحمل بعض المعايير الأخلاقية المحددة، وكانت المجتمعات تخلق أماكن لما يُسمّى "التفريغ"، لتحديد أنماط الانفعالات وأماكنها.

السوق العمومي

"السوق العمومي"، عرض مسرحي غنائيّ جديد يُعرَض على خشبة مسرح "مترو المدينة" في بيروت، يعالج عبر البناء الدرامي الأبعاد النفسية والتاريخية الاجتماعية لما يُسمى "السوق العمومي"، السوق الذي خُلق داخل المجتمع اللبناني، وهو عبارة عن شارع للبغاء مخصص للخدمات الجنسية.

نشأ هذا السوق الذي يمتد من جوار المرفأ وصولاً إلى مبنى الشرطة في ساحة الشهداء، بعد الحرب العالمية الأولى، حيث انصاعت دوائر القرار في الإدارات اللبنانية للضغوط، ورضخت لمطلب تشريع البغاء، لإشباع رغبات جنود الانتداب الفرنسي وتفادياً لقيامهم بالتحرّش بالفتيات اللبنانيات أو اغتصابهنّ، لذا أصدرت حينها الحكومة اللبنانية قراراً لتنظيم هذه المهنة وإعطاء التراخيص في العام 1931.

ولأن هذا الأمر لم يكن مقبولاً أخلاقياً واجتماعياً ودينياً عند البيروتيين، حصرت الدوائر الحكومية هذا العمل في شارع واحد لحماية الفتيات "بنات البيوت" من نزوات العساكر الفرنسيين، وأقنعوا البيروتيين بأن هذا يصون شرف العائلات.

يروي العرض قصص النساء العاملات في الجنس وكيف يتّجهن إلى العمل في سوق الدعارة. ويكشف عن رحلة إنسانية تسعى إلى البحث عن الهوية في بعض الأحيان، وتُخفي تجارب قاسيةً تعيشها "بائعة الهوى" خلف ستار هوية "العاهرة" الموصومة اجتماعياً.

وفي الوقت نفسه، يضيف العرض بعداً جديداً إلى زوّار السوق، الذين يبحثون عن العاطفة أكثر من بحثهم عن الجنس. يظهر السوق الجنسي خليطاً يمزج بين الهوس بالرغبة والهوس بالاحتواء.

بين الواقع التاريخي والمتخيَّل، وبمشاركة عدد من الممثلات والممثلين والموسيقيات والموسيقيين، عاد بنا هشام جابر، كاتب المسرحية ومخرجها، إلى قصص هذا الشارع وزوّاره والنساء والشابات اللواتي عملن في تجارة الجنس في بيروت قبل العام 1975.

من "الخصوصي" إلى "العمومي"

يبدأ العرض المسرحي الغنائي بشرح كيف تحوّلت نساء هذا السوق إلى عاهرات، ويضيء على تفاصيل حياتهن والأمور المفروضة عليهن كونهن بدأن بهذا العمل.

"…وهيك تحوّلت من خصوصي لعمومي، لرجال عندن نقص بعاطفة الأمومة".

في أعماق هذا السوق، تُنسج قصص مأساوية تروي كيف وصلت النساء إليه. هذه زوجها بخيل وباعها، وأخرى عانت عنفاً أبوياً قاسياً. إلى جانب الجزء التاريخي، يطرح العمل موضوعات نفسيةً عميقةً، إذ ينتقل القهر والحالة القهرية إلى منحى آخر بشكل قاسٍ ومحوري، حيث تختار النساء العمل في مجال اللذة كمحاولة للانتقام من أنفسهنّ ومن الحياة، لكن هذا الانتقام لا يخلو من تحطيم الذات، وإبدال حطام الروح بحطام الجسد. نمط الهروب من القسوة هذا تتخلله صعوبات ستجتاح واقع العاهرات الجديد.

يعكس النص الأحاديث الجانبية والجزء الخفيّ من حياة الاستعراض والدعارة، بالإضافة إلى المنطق الخفي الرابض وراء الدهشة الجنسية والانجذاب نحو الفتيات الجميلات والفاتنات والمتاحات.

أُطلق على من لديها رخصة بيت دعارة في هذا السوق "الباترونة"، فالقانون آنذاك كان يمنع الرجال من امتلاك تراخيص للبيوت العمومية. وكانت هذه التراخيص محصورةً في النساء اللواتي تجاوزن سن الخامسة والعشرين، وسُمح لكل امرأة ببيت واحد فقط للدعارة.

كانت "الباترونة" تتولى إدارة الأعمال والعناية بالنساء في هذا السوق، وتحرص على تدريبهنّ على جميع فنون المهنة والاهتمام بمظهرهنّ. كما كانت توزع عليهنّ المهام المنزلية خلال النهار، والزبائن خلال الليل.

بالنسبة إلى المومس، كانت هناك شروط محددة للعمل في هذا السوق، منها الصحة الجيدة وإجراء فحوصات أسبوعية للتأكد من عدم إصابتها بالأمراض المنقولة جنسياً. وكانت هناك قواعد صارمة بخصوص الخروج من المنزل، إذ حُدِّد الخروج في ساعات محددة، ومُنع في أيام الآحاد والأعياد الرسمية. كما كان عليها ارتداء النقاب كجزء من قواعد السلوك في السوق.

ملجأ لرجال يعانون

على الجانب الآخر، يكشف العرض المسرحي/ الغنائي النقاب عن الجوانب المظلمة في شخصيات الزوّار، إذ يُظهر أن "سفاحي زمانهم" هم أشخاص عانوا الظلم والإهمال في طفولتهم، وكيف أصبح "السوق العمومي" ملاذاً لهم للتخلص من عقدهم، وكيف يجد الزوار أنفسهم متجهين نحوه بحثاً عن الراحة والإشباع واللذّة.

يشير النص المسرحي بشكل واضح إلى نقص في العلاقات العاطفية بين روّاد المكان وأمهاتهم. ولا يقتصر التوافد إلى السوق على فئة معيّنة، بل يزور السوق رجال من مختلف الطباع والطبقات والمهن. فمنهم "الخجول الناعم، والمستحي الناقم، واللي حابب ينضرب واللي من مرته هرب، والسياسي، والموظف، والمدير، والصحافي، والدكنجي، والبنشرجي، والمثقف والعرص وآخرون أشكالاً وألواناً...".

"على أدّ ما رح تدفع يا حبيبي رح بتشوف"

يعكس العرض واقع الحياة في السوق، ويبرز شخصية "القوّاد" بطريقة تفصيلية تجسد الجوانب المعقدة لشخصيته. ويُوصَف بأنه شخصية "قوّادة" مع الحكومة، تتميز بالاحترام والانضباط حيث يظهر دائماً حاملاً ورقةً وقلماً، ومع ذلك، يُظهر الجانب العنيف والقاسي في تعامله مع النساء. يعزو العرض هذه السمات إلى طفولته الظالمة التي عاشها، مما جعله يتصرف بقسوة وعنف في تفاعلاته مع الآخرين، بمن في ذلك الصبايا اللواتي عملن تحت إشرافه في السوق العمومي.

من ناحية أخرى، يسلّط العرض الضوء على شخصية "التخت"، حيث يسمح له بالتحدث وتقديم نبذة عن تجاربه وما يشهده خلال عمله. يتلقى "التخت" جميع أنواع الزبائن، ويشارك قصصهم المتنوعة، بدءاً من الرجال وبائعات الهوى، ويشهد إشباع خيالات الذكور واستخدام النساء كأدوات لتحقيق أهدافهم الجنسية.

يتجلى في هذا العرض تصوّر واقعي للتحديات والظروف التي تواجهها الشخصيات المختلفة في هذا السياق، مما يلفت النظر إلى الجوانب المعقدة والمتضاربة للحياة في هذه البيئة.

الشرف هو الصدق

يخلص العرض إلى مواجهة صورة نمطية، وتكثيف الذاكرة الشفوية للناس عن السوق، حيث يسلّط الضوء على مختلف التسميات التي أُطلقت عليه، بدءاً من "سوق الشراميط" وصولاً إلى "سوق الأوادم". والأخير هو الأدق، لأن النساء في هذا السوق، يقدّمن خدماتهن بشفافية تامة، وعلى أساس الدفع المُتّفق عليه.

"على أدّ ما رح تدفع يا حبيبي رح بتشوف".

انتهى العرض المسرحي بالإشارة إلى أن العاملات في "سوق الأوادم"، شريفات وصادقات ويتمتعن بالشفافية في عملهن، عكس السياسي في بلدنا، الذي يمارس "عهره السياسي" ويسرق ويهرب.

فالشرف هو صدق الجسد وصدق النفس وصدق العقل والأفعال، والعهر يتجلى في قرارات الشر والكذب. وكلهم ضحايا بيئاتهم وتربيتهم وأهلهم والمجتمع الظالم والتخلف.

تحت المجهر الاجتماعي والأخلاقي

في رحلة استكشافية داخل عالم مظلم ومعقد، يحاول العرض الوصول إلى أعماق "سوق الجنس"، كاشفاً الأسرار والتحديات التي تحيط بهذا الواقع المثير، باحثاً عن الحقيقة وراء الأقنعة، ويسعى إلى إبراز جوانب داخلية للسوق الجنسي، مختبراً غموضه وتعقيداته بعيداً عن الصور الجذابة والمثيرة.

ومن خلال عين المحترف، يصوّر النص مصداقيةً مهنيةً، ملمحاً إلى كيفية استحواذ العمل الجنسي على مصداقية سلوكية ومهنية للعاملين في هذا المجال، مما يجسد تحدياتهم ومعاناتهم بشكل واقعي ومفعم بالتعقيدات.

ومع ذلك، يكشف النص عن الجانب الاستهلاكي للجسد الناتج عن قهر اجتماعي يجعل الدعارة تتجسد كنتيجة لظروف قاسية ومسبقة. كما يسلّط الضوء على التحول الذي يطرأ على مفهوم الجسد الأنثوي، حيث يركز المجتمع على الاتجار به كسلعة مقابل تجاهل مسائل أخلاقية أساسية.

هكذا، يقدّم النص رحلةً مشوّقةً داخل عالم مظلم، مشدداً على الجوانب المعقدة والمتضاربة للحياة في هذه البيئة المعقدة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فعلاً، ماذا تريد النساء في بلادٍ تموج بالنزاعات؟

"هل هذا وقت الحقوق، والأمّة العربية مشتعلة؟"

نحن في رصيف22، نُدرك أنّ حقوق المرأة، في عالمنا العربي تحديداً، لا تزال منقوصةً. وعليه، نسعى بكلّ ما أوتينا من عزمٍ وإيمان، إلى تكريس هذه الحقوق التي لا تتجزّأ، تحت أيّ ظرفٍ كان.

ونقوم بذلك يداً بيدٍ مع مختلف منظمات المجتمع المدني، لإعلاء الصوت النسوي من خلال حناجر وأقلام كاتباتنا الحريصات على إرساء العدالة التي تعلو ولا يُعلى عليها.

Website by WhiteBeard
Popup Image