على الرغم من أنّ السينما تُعدّ أكثر ديمقراطيّةً من الأدب "النخبويّ"، لطبيعة علاقتها بمتلقّيها، إذ إنّها وسيلة اتصال جماهيري شعبويّ، فهي أسرع منه في التأثّر بالحروب. إنها فنّ، لكنّها أيضاً صناعة للترفيه والتثقيف تتطلّب رأسمالاً وتحتاج إلى جمهور واسع لتؤمّن استمراريتها.
وليس غريباً تقصّي الأزمات والأحداث العنيفة الخطاب السينمائي الذي يحمل شعار إزالة التعمية في مواجهة الخطابات الرسميّة الدائبة على تجميل الغشاوة على العيون. تسكتها آلة الحرب إلى حين، لتعود هذه الأداة الفنيّة وتأخذ دورها في فضح القبح ونزع القناع عن الواقع.
ليس الواقع فحسب، ما تعيد إنتاجه الأفلام، بل إنها بتصويرها الحياة واتخاذها موقفاً من السلطات إلى جانب المهمّشين والمقموعين، تشكّل وثيقةً وشاهداً على التاريخ، وحلقة تواصل واتصال مع المستقبل.
لعلّنا، نحن الشعوب العربية على وجه الخصوص، نستدرك بالسينما، جنباً إلى جنب مع الأدب والفنون الأخرى، القطع المعرفي التاريخي الذي يزعزع ثقتنا بهويّتنا. غير أنّ ما يحدث من تدمير للأرشيف السينمائي، زيادةً على تخريب دور العرض أو إغلاقها، في غير مدينة من المدن العربية، يُعدّان نكسةً في تاريخها، وبتراً للذاكرة الجماعيّة، ليرتدّ القهر على السينما ذاتها، تتأمله بحرقة، بعد أن كان دأبها كشفه عبر الكاميرا.
حنين إلى البدايات
تحت عنوان "الحنين إلى البكر"، عرض مهرجان الإسماعيليّة الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة (في دورته الخامسة والعشرين، 28 شباط/ فبراير-5 آذار/مارس 2024)، ثلاثة أفلام توثيقيّة عربيّة تتحرّى ماضي السينما في ضوء الراهن. الفيلم الأول "سينما مسرّة" (15 دقيقةً، 2023) للمخرجة المصريّة ستيفاني أمين، وفيه تتقصّى عن بقايا سينما مسرّة في القاهرة، بعد أن تعود من باريس. والفيلم الثاني للمخرج السوري عمرو علي، بعنوان "سينما دنيا" (16 دقيقةً، 2023)، ويحكي معاناة السينما -والأمكنة كالبشر تنازع وتتألّم- في ظل الواقع الاقتصادي المتعثّر في دمشق. أما الفيلم الثالث، وسيحتلّ مساحة المقال، فهو "السينما، ولا شيء سواها" (Cinema, and Nothing More) (39 دقيقةً، 2023)، للمخرج الليبي سعد العشّة.
السينما لا تعيد إنتاج الواقع فحسب، بل إنها بتصويرها الحياةَ واتخاذِها موقفاً من السلطات إلى جانب المهمّشين والمقموعين، تشكّل وثيقةً وشاهداً على التاريخ، وحلقة تواصل واتصال مع المستقبل
إذا كانت "سينما دنيا" الدمشقيّة تعاني من هجر روّادها لها، والشحّ في الأفلام الجديدة، فما هذا الواقع سوى انعكاس لوضع اقتصاديّ-سياسيّ عام، وصورة مصغّرة للأزمات المتراكمة. إنما على الجانب الآخر من البحر المتوسّط، في ليبيا، تبدو الأزمة أعمق وأكثر تجذّراً، فهي لم تُصِب دار عرض أو مكاناً بعينِه، وإن كان نموذجاً للتدليل على أزمة التلقّي وطلب الترفيه من هذا الباب، كما هي الحال في الفيلم السوري، بل هي أزمة صناعة ودُور عرض وثقافة. باختصار، إنّ فيلم سعد العشّة التوثيقي يصوّر مشكلة السينما الليبيّة إنتاجاً وعروضاً وأرشيفاً توثيقيّاً يحفظ ذاكرة شعب.
"نشاهد سينما كلّ العالم ما عدا الأفلام الليبيّة"
شهادة صرخة من أحمد بلال، أحد مؤسسي إستوديو "الميكساج" في طرابلس، وأول مهندس صوت في ليبيا. لا يخفي دموعه وهو يفصح عن غياب التخطيط والكوادر، على الرغم من وجود الآلات والتجهيزات؛ فالبرامج كانت إخباريّةً وليست سينمائيّةً، والأفلام ما هي إلا بروباغندا لمعمّر القذّافي.
أما المخرج صلاح قويدر، فيشير إلى الأجواء الصعبة والتجارب السينمائية القاسية والمريرة التي مرّوا بها. وبالغصّة نفسها يستنكر المخرج عبد الله الزرّوق، أن تكون في مسيرة السينما الليبيّة أفلام تُعدّ على أصابع اليد، مثل: "عندما يقسو القدر" (1972)، و"معركة تاقرفت" (1981)، و"الشظية" (1986)، و"معزوفة المطر" (1994)، و"الطريق" (1972)، مع الإشارة إلى أن فيلمين منهما ضائعان، وهما للمخرج عبد الله الزرّوق.
حكاية دور العرض في المدن الليبية، بنغازي وطرابلس والبيضاء على وجه الخصوص، جاءت في سياق متداخل مع سيرة مثقفين وحكايات بداياتهم مع الأفلام وتعرّفهم على السينما، أمثال الشاعر والأكاديمي خالد المطاوع، والباحث السينمائي نور الدين سعيد، والروائي والمسرحي منصور بوشناق.
كانت في ليبيا ستون دار عرض، ومكافأة الأطفال في الأعياد كانت أن يشاهدوا فيلماً، إلى أن جاء قرار تأميم الدور في مرحلة حكم القذافي، حيث أُنتج فيلمان هما "الرسالة" (1976)، و"أسد الصحراء" (1980) فحسب، وهما من إخراج مصطفى العقّاد. وتوالت النكبات الأمنية في البلاد، والتضييق الديني، فحُكم على السينما بالموت، وضاع أرشيفها، وأُقفلت دور العرض.
أرشيف ضائع... ومهرجان "اللمحة الأولى"
البحث عن دور السينما لا يقلّ صعوبةً عن إيجاد أرشيف الأفلام في خزائن الوزارات والمسؤولين. كاميرا كلّ من سعد العشة وعبد المجيد الجربي، رصدت خرائب الدور أو أبواباً موصدةً لما كانت سابقاً دور سينما. صور تتلاحق لأرشيف مبعثر أو مدمّر، ولأسماء على غرار سينما النصر، وأوديون، ولوكس، والشروق أو الشرق، وسينما الحمراء، ورِكس، والخمس-الخمس، وبرنيتشي، والسفلى والعليا في طرابلس وبنغازي والبيضاء. رحلة الكاميرا في رصد الواقع تتجاوب مع رحلة الذاكرة لمن عاش مجد السينما وصناعة الفيلم الليبي.
جاءت فكرة مهرجان "اللمحة الأولى لفن الفيديو"، في عامي 2012-2013 على التوالي، بمثابة استفاقة ما، لتعريف الشباب بالسينما، وتعزيز فكرة السينما في الخارج. المهرجان الأول أقيم في المدينة القديمة، بما تتميز به من جدران بيضاء ضخمة، وهكذا يتمّ الربط بين القديم والحديث.
أما المهرجان الثاني فأقيم في السرايا الحمراء. وبعد النزاعات والاضطرابات الأمنية، يطرح المتحدّثون تساؤلاتهم حول مصير السينما في ليبيا. وإن كان قرار قيامها يعود للدولة، فالليبيون أنفسهم ينبغي أن يعترفوا بأهميتها وبتقديمها مشروعاً تنويرياً. "لا يعترف الليبيون بالسينما، لذا لا يعترف بها الآخرون"، هكذا اختصر الأزمة أحد المتحدّثين. أما الدولة فلا ترغب في الإنتاج، لأنه قطاع غير مربح في ليبيا.
"السينما ولا شيء سواها" ردّ صريح بغير مراوغة على ذهنيّة ترى في هذه الصناعة الفنيّة هامشاً ثقافيّاً، فتتعامل معها بخفّة، بماضيها وراهنها، وبإهمال خطط نهوضها. من جماليات هذا الفيلم أنه جعل من السينما شخصيّةً تتأمّل ذاتها في مراحل نشأتها ونهوضها ومجدها وشيخوختها وموتها بغير طقوس، والتحاور مع من عرفها ويرثي لحالها.
ما يحدث من تدمير للأرشيف السينمائي، زيادةً على تخريب دور العرض أو إغلاقها، في غير مدينة من المدن العربية، يُعدّان نكسةً في تاريخها، وبتراً للذاكرة الجماعيّة، ليرتدّ القهر على السينما ذاتها، تتأمله بحرقة، بعد أن كان دأبها كشفه عبر الكاميرا
وما يقلّص من امتداد مساحة الحكي في المقابلات، وقد يصرف المشاهد عن "متعته الفرديّة"، اعتماد تقنيّات تضفي شيئاً من التشويق الدرامي، كأن تكون السينما محور السرد المصوّر في تعاقب تاريخي يتشكّل في صفحات كتاب وفصول وتواريخ، ومن حركة بصريّة-صوتيّة يتناوب فيها الصوت والصمت، الصورة والكلمة، الأبيض والأسود، المتن والهامش، السرد والتعليق المكتوب، والشريط والصورة السالبة (خاصةً حين أراد المخرج التعبير عن فيلم ضائع). فالسلب جاء خير ترميز للفقد والخسران.
"في البدء كان الصوت"؛ عنوان مكتوب في البداية تعقيباً على صور تتحرّك، وهو مفارق لما تتّصف به السينما في بداياتها (السينما الصامتة) من كونها فن تحريك الصورة، وذلك قبل إضافة الصوت إلى شريط الصور. فأي صوت هو المقصود، ومن صاحب هذا الصوت؟ عبارة أخرى تندرج في حقل الفكاهة المرّة نفسه تعقب الأولى بدقائق: "لحظات صمت على أرواح النساء اللواتي غبن عن هذه المقابلات".
لعلّه صمت يفضح المسكوت عنه، وصوت من غُيّبت أصواتهنّ! وبين فيلمَي "السينما، ولا شيء سواها" للّيبي سعد العشة و"الحياة، ولا شيء سواها" (1992) للمخرج الإيراني عباس كيارستمي، تتصادى عناوين ومعانٍ؛ ولا إبدال بين لفظتي السينما والحياة، لأنّ السينما هي نفسها باب الحياة الأرحب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 5 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي