تتعدد جبهات النضال المدني اليوم في أوروبا أكثر من أي يوم مضى، في ظل تضخم اقتصادي لم يسبق له مثيل، واستقطاب سياسي حاد في المشهد العام، وتحويل الدولة لكل أشكال النقاش العام، إما إلى صدام مع الشعب أو إلى جدل عقيم تنفذ في نهايته الحكومة ما قررته بالإجبار، وفي ظل أزمات بيئية تهدد وجود الكوكب بأكمله، عدا الأزمات السياسية في العالم أجمع.
يجد المواطنون الفرنسيون اليوم أنفسهم على أبواب الانتخابات الأوروبية التي تلعب دوراً هاماً في تحديد السياسات الأوروبية القادمة لا سيما في ظل استمرار صعود التيارات اليمينية عموماً في كل أوروبا. فيما تصب الدولة الفرنسية كل جهودها وتركيزها ووسائل إعلامها على خطط السلامة والأمن في الألعاب الأولمبية المرتقبة في باريس في تموز/يوليو المقبل.
تقوم الدولة الماكرونية في الوقت نفسه بطرح مشاريع لتعديل قوانين المساعدات الاجتماعية والبطالة، فيما تشغل المجتمع بنقاش عقيم حول مقترحات ثانوية كإعادة الملابس الموحدة للمدارس الفرنسية رغم أن كل استطلاعات الرأي توضح معارضة الأهل والطلاب لهذا الإجراء.
تنتشر مظاهرات مناصرة لغزة على طول فرنسا وعرضها، ينظمها ناشطون وناشطات ملتزمون بقيم الجمهورية الفرنسية بالحرية والمساواة، يدعون للتظاهر، يحصلون على التراخيص ويوزعون على المشاركين الأعلام الفلسطينيةينشغل المناضلون من أجل البيئة بصراعات لا تنتهي حول شق طرق جديدة في المناطق المحمية، وكان ناشطون بيئيون مطلع هذا العام قد قاموا بإضراب مفتوح عن الطعام ضد مشروع الطريق السريع أ69 الذي يهدد التنوع البيئي ويكلف مبالغ طائلة ولا مكسب منه سوى اختصار عشر دقائق من الزمن الذي يستغرقه الطريق العادي المتوفر حالياً.
تنتشر مظاهرات مناصرة لغزة على طول فرنسا وعرضها، ينظمها ناشطون وناشطات ملتزمون بقيم الجمهورية الفرنسية بالحرية والمساواة، يدعون للتظاهر، يحصلون على التراخيص، ينشرون الدعوات، يطبعون الصور واللافتات، ويوزعون على المشاركين الأعلام الفلسطينية. كما نظمت في العاصمة باريس وبعض المدن الكبرى مظاهرات لمناصرة الكونغو حيث يحاصر مسلحو حركة 23 آذار/مارس مدينة ساكي قرب مدينة غوما التي تضم مليوناً من السكان المدنيين ومليوناً من المهجرين، وحيث تصل أخبار عن فظاعات ترتكب بحق المدنيين والمدنيات.
في غمرة هذه الفوضى، لا تبدو الغالبية العظمى من الفرنسيين معنية بكل هذه الصراعات بقدر ما هي معنية بتأمين لقمة الخبز، في ظل ارتفاع غير مسبوق للأسعار، وضيق عام في العيش يشكو منه أغلبية السكان مما يدفع المواطنين إلى النزول إلى الشارع أو الإضراب للمطالبة بأن تسمعهم الحكومة، وكان آخر الاحتجاجات هو نزول المزارعين إلى الشوارع وما رافقه من أشكال مختلفة من الإضراب المدني كقلب لافتات القرى والمناطق المتأثرة بالسياسات الزراعية، أما آخر الإضرابات فكان إضراب المعلمين الذين يطالبون برفع الأجور وتحسين ظروف العمل.
لا تبدو الغالبية العظمى من الفرنسيين معنية بكل هذه الصراعات بقدر ما هي معنية بتأمين لقمة الخبز، في ظل ارتفاع غير مسبوق للأسعار، وضيق عام في العيش يشكو منه أغلبية السكان.تعاني الفئات المقيمة واللاجئة من القلق وعدم الاستقرار بسبب أنها تتأثر بالوضع الاقتصادي العام في البلاد، ولكن الأهم أنها تخشى تغير السياسات وتشديدها بمجرد وصول اليمين المتطرف إلى سدة الحكم، ولا سيما في غياب قدرة هذه الفئات على الإدلاء بصوتها في الانتخابات الأوروبية القادمة أو في الانتخابات الرئاسية اللاحقة التي لا يلوح في الأفق مرشح يمكن أن يغلب فيها مرشحة التجمع الوطني اليميني المتطرف مارين لوبن.
أنتقل بين الصفحات الإخبارية، أحاول متابعة كل جبهات النضال، أحس بالعجز أحياناً، وباليأس أحياناً أخرى وبالأمل مرات قليلة. يخطر لي مرات أنني وصلت أوروبا وهي في أسوأ مراحلها، أقرأ عن المراحل الذهبية لفرنسا الحريات والأدب والفكر والثقافة التي لم تتوقف محاولات اختصار ميزانينتها من الإنفاق العام، يتراكم لدي غضب فوق الغضب الذي أحمله من آثار التجربة السورية الأليمة. أتابع الأخبار السورية، فتطالعني أحوال الناس في مناطق سيطرة النظام السوري داخل سوريا، من قهر وظلم وذل وعجز اقتصادي. في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، تتنوع الأخبار بين ممارسات سلطات الأمر الواقع القمعية، وتشدد ديني يفرض على الشعب، ومعاناة أهل المخيمات. في دول الجوار، يتصاعد الخطاب العنصري ضد السوريين في تركيا ويمنع على المقيمين فيها الحديث عن الحوادث التي يتعرضون لها، وتستمر عمليات الترحيل الاعتباطية، فيما تندلع حمى مسعورة لطرد السوريين من بيوتهم وأشغالهم في لبنان بعد جريمة مقتل باسكال سليمان القيادي في حزب القوات اللبنانية. أتامل كل ما أتابعه وأتساءل: هل ما يصفه الأوروبيون اليوم بالجحيم أرحم من حال السوريين هناك؟ نعم بالتأكيد، ولكن القبح والعنف يتمددان، كأذرع خفية تطبق خناقها على العالم بأكمله. يبدو لي أحياناً وكأن تلك القبضة البشعة رافقتنا منذ غادرنا سوريا، أم أنها امتدت إلينا من هنا؟ لم أعد أعرف.
يخطر لي مرات أنني وصلت أوروبا وهي في أسوأ مراحلهاتستمر حرب أوكرانيا، يصرح ماكرون مصعداً تجاه روسيا، أخشى الحرب. أفكر: هل هربت من الحرب كي تلحقني؟ أم أن الحرب تحكم العالم؟ أهرب إلى عوالم الأدب والفن، لكنني باللاشعور، أقرأ عما يهمني، فأتنقّل من شهادات عن الحروب والضحايا وجرائم الحرب والإبادة إلى كتب عن النجاة والمقاومة والمواجهة. أتابع مسلسل "النظام" لكيت وينسلت حيث تجمع في شخصيتها المتخيلة كل فشل العالم من القادة المجانين، يسرني في المسلسل اللحظة التي ينتصر فيها الثوار ويقلبون نظامها المجرم، لكن حتى في المتخيل، لم تنتصر الثورة. أشاهد الفيلم الأخاذ "منطقة اهتمام" الذي حصد أوسكار أفضل فيلم أجنبي، يدفعني الفيلم وخطاب مخرجه في الأوسكار للتفكير بكمية العنف الذي نعيشه وهو غير مرئي، العنف الذي لا نراه، الذي يسمح لنا بتهميش آلام الآخرين والاهتمام بآلامنا الشخصية التي تمسنا وتمس يومياتنا. أتمنى أن أستطيع أن أكون بحق مواطنة عالمية، أي أن أهتم بكل المهمشين والمقموعين في العالم، أن أكون صوتهم جميعاً، أن أولي كل قضاياهم القدر نفسه من الاهتمام، ولكن هل يتسع القلب لمثل هذا الاهتمام في ظل تيار الظلم والعنف الجارف؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه