شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"في الصوفية وجدت نفسي الضائعة"... عودة الإسلام إلى غرناطة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

تغنى العرب بغرناطة الشامخة على جبال سيرا نيفادا الأندلسية، وبتاريخها المتألق، والتي بسقوطها انتهت الخلافة الإسلامية في إسبانيا بعد حكم دام لثمانية قرون، ليبكي المسلمون بعدها على إرثهم المفقود في الأندلس ليومنا هذا.

مدينة أورخيفا، الأندلس، إسبانيا

المدينة الإسبانية الجبلية الهادئة، بدأت تلفت الانتباه لها ليس بسبب ماضيها الأندلسي ولا لقصر الحمراء الشاهد على حقبة ذهبية في تاريخ العرب المزدهر آنذاك، لكن لإنها أصبحت مركزاً يجذب كل من يود اعتناق الإسلام من كل بقاع الأرض. فما سر هذه المدينة؟ ولماذا تجذب هواة الإسلام الجدد؟ وما علاقة الصوفية بذلك؟

هناك ظاهرة مثيرة للفضول، تتمثل بالإقبال على اعتناق الإسلام في الأندلس، فيترك بعض الأوروبيين والأمريكيين ثقافتهم الغربية ليلتحقوا بجموع المسلمين في العالم.

وينتقل أغلبهم للعيش في منطقة غرناطة، ويلتزمون بالصوفية طريقاً روحياً لحياة جديدة أهم ركن من أركانها هو السلام. ففي غرناطة ومحيطها يعيش 36000 مسلم منهم حوالي 3000 اعتنقوا الإسلام فيها.

هناك ظاهرة مثيرة للفضول، تتمثل بالإقبال على اعتناق الإسلام في الأندلس، فيترك بعض الأوروبيين والأمريكيين ثقافتهم، وينتقل أغلبهم للعيش في منطقة غرناطة، ويلتزمون بالصوفية طريقاً روحياً لحياة جديدة

صورة من داخل مقهى البركة في مدينة أورخيفا حيث يجتمع معتنقو الإسلام 

صورة من داخل مقهى البركة في مدينة أورخيفا حيث يجتمع معتنقو الإسلام 

لبدء طريقنا لاستكشاف سر غرناطة وجبالها وبالأخص بلدتها الصغيرة الوادعة أورخيفا، والتي لا يتجاوز عدد سكانها 6000 نسمة وتضم أكبر تجمع صوفي في إسبانيا، معظمهم من معتنقي الإسلام الجدد من أوروبا وأمريكا وغيرها، إضافة لكونها حاضنة لمجتمعات روحانية مختلفة، تواصلنا مع قاسم باريو "بيدرو قبل الإسلام"، 49 سنة، شاب إسباني باسكي أسلم قبل أكثر من عشرين عاماً، ليكون دليلنا في هذه الرحلة المشوقة.

بدأ قاسم حديثه معنا عن جمال أورخيفا وسحرها المتجلي في التنوع الثقافي والإيماني فيها، فهي الملتقى لأكثر من 70 جنسية مختلفة، جاؤوا جميعهم بحثاً عن الاطمئنان والسكينة، وتعد أورخيفا واحدة من أقدم مجتمعات "الهِبي" في إسبانيا منذ سبعينيات القرن الماضي، وفيها أقدم مقبرة بوذية في شبه الجزيرة الإيبيرية، وباتت اليوم حاضنة لأحد أهم التجمعات الصوفية في العالم، من الطريقة النقشبندية التي يعيش أغلب مريديها في غرناطة ومحيطها.

صورة  لمقهى البركة في مدينة أورخيفا حيث يجتمع معتنقو الإسلام 

وفي مقهى البركة، الذي يديره قاسم في أورخيفا تتجسد مفاهيم الاختلاف والتسامح، فيلتقي الفنان الهائم مع المتقاعد الهادئ مع الهِبي العبثي والصوفي الروحاني، يلتقون جميعهم في هذا المقهى وعلى اختلافاتهم هناك مساحة دائمة للحوار والتعايش.

تجدهم جالسين في تآخٍ جميل كلوحة موزاييك تتآلف فيها الإنسانية بمعناها النقي والبسيط. وقد ذاع سيط هذا المقهى الصوفي ليصبح وجهة للسياح رغم أنه لا يقدم الكحول ولا لحم الخنزير لكنه الآن يعد مقصداً لكل من أراد فسحة من الهدوء والسلام.

يقول قاسم بأنه لم يتحول للإسلام فجأة، بل بدأ رحلته في البحث عن معنى الحياة سنوات قبل إسلامه، درس الكثير من الأديان، وارتحل بين الدول المختلفة، باحثاً عن شيء ما، لم يدرك ما هو حتى وصل إليه، عن طريق الصوفية والطريقة النقشبندية

قاسم، مؤسس مقهى البركة، في مدينة أورخيفا الإسبانية، مع رجل دين بوذي أمام مقهى البركة

قاسم، مؤسس مقهى البركة، في مدينة أورخيفا الإسبانية، مع المغني الشهير يوسف إسلام " كات ستيفنز" أمام مقهى البركة

يخبرنا قاسم بأنه لم يتحول للإسلام فجأة، بل بدأ رحلته في البحث عن معنى الحياة سنوات قبل إسلامه، درس الكثير من الأديان بعمق، وارتحل وسافر بين المدن والدول المختلفة، باحثاً عن شيء ما، لم يدرك ما هو حتى وصل إليه، حيث دخل قاسم الإسلام عن طريق الصوفية والطريقة النقشبندية، فوجد فيها ما يحتاجه من سلام داخلي، فقد كان دائم الخوف من الحياة العصرية بروتينها اليومي الخالي من القيم على حد تعبيره، حيث يقول: "أصبحنا نعيش حياة مادية واستهلاكية بشكل مخيف، وأنا أريد حياة هادئة بسيطة أكون فيها متصالحاً مع نفسي ومحيطي."

مقهى البركة، في مدينة أورخيفا الإسبانية

ولم تكن قصة إسلام قاسم سهلة، ففي البداية عارض والده ولم يتشجع لفكرة تغيير قاسم لدينه وأخته كذلك لم تتفهم قراره، أما الأم فكانت أكثر تسامحاً ورحبت بخيار قاسم الجديد، وأصدقاء قاسم اعتقدوا أنه تعرض لعملية "غسيل دماغ" وسيعود لرشده قريباً.

لم يتوقع قاسم في البداية أنه سيرحل عن بلباو المدينة التي ولد وعاش فيها طوال حياته، لكنه وبعد أن تحول للإسلام كان من الصعب عليه الاستمرار فيها، فترك مدينته وأصدقاءه وعائلته ورحل إلى أورخيفا في الجنوب حيث يوجد صوفيون مثله وبدأ بمشروعة مقهى ومطعم "البركة".

وعندما سألنا قاسم عما أعجبه في الصوفية قال: "أكثر ما شدني في الصوفية هي الروحانية والوجدانية، أعتقد أن الصوفية يمكن أن تكون مفتاحاً لدعوة الغربيين للإسلام بطريقة أكثر جاذبية، على الأقل هذا ما حدث في حالتي وفي كثير من الحالات التي رأيتها أيضاً. ففي الصوفية وجدت نفسي الضائعة ووجدتُ السلام، أشعر براحة كبيرة وبصحة أفضل وفي تناغم مع كل ما حولي في الطبيعة."

وتتميز بلدة أورخيفا بأنها محطة يتوافد إليها المتعطشون لبعض السلام من كل مكان، الجميع يعرفون بعضهم هنا كعائلة واحدة كبيرة، ويشتهرون بلطفهم وترحيبهم في الجميع، ويمكن للزائر أن يبدأ يومه بحلقة ذكر صوفية في الصباح الباكر، ثم يستمتع بجلسة تأمل في الطبيعة على طريقة الهبي، لا توجد شروط للانضمام لأي من الأنشطة ويمكن للباحثين او كما يسمونهم في أورخيفا "الحجاج" الإقامة والرحيل وقتما يشاؤون، لا قيود ولا أحكام، في أورخيفا لا يوجد حدود بين الأديان والثقافات، فيبدو هذا المكان في هدوئه وكأنه خارج عالمنا الشرير، الناس هنا يسيرون ولا يركضون خلف حافلة أو قطار، لا ينظرون إلى هواتفهم وساعاتهم بقلق مستمر، يرتدون ملابس بسيطة فضفاضة ومريحة، لا مكان للمظاهر المادية هنا، الجميع يبدون سعداء وراضين.

ربمّا يكمن سر جاذبية غرناطة وأورخيفا للمسلمين الجدد، بالصوفية التي تمنح مريديها السكينة والهدوء في عالم مليء بالضجيج والكره والحروب والمنافسة والسعي وراء الماديات الفانية.

مجموعة من المتصوفين، يصلون في الطبيعة في مدينة أورخيفا الإسبانية

يحرص المتصوفون في أورخيفا على البساطة والتواضع والتخلص من الطمع الدنيوي، هكذا بدأت أمينة: "إيفا اسمها قبل الإسلام"، 39 عاماً، الألمانية الأصل، كان أول اتصال لها بالإسلام عام 2009 من خلال مجموعة من المتصوفين، تقول: "إن الحالة التي أصابتها كانت مثل الغرام والوقوع في الحب لأول مرة، سمعتُ أسماء الله الحسنى بصوتهم، كأن شيئًا في داخلي تحرر وانطلق، ومن هناك بدأت أتساءل وأبحث في الصوفية، إلى أن أعلنت إسلامي وانتقلت بعدها لأورخيفا الهانئة لأتبع الطريقة النقشبندية وأعيش في هدوء في هذا المجتمع المسالم، وكما قال مولانا جلال الدين الرومي: "وفي بحر العشق ذبت كالملح لم يبق كفر ولا إيمان، شك ولا يقين، يشع في قلبي كوكب تختبئ فيه السبع سماوات." هذا ما شعرت به فعلاً. وعند سؤالنا عن مدى صعوبة تحويلها للإسلام من امرأة غربية ولديها هامش كبير من الحريات لتصبح امرأة مسلمة ومحجبة، فأجابتنا "أرى أن المرأة في الإسلام لها مكانة مرموقة للغاية، هي محور المجتمع ولها احترامها، منذ أن أصبحتُ مسلمة أشعر أكثر بأنوثتي، لا يقع علي ما يقع على قريناتي في ألمانيا او إسبانيا من أعباء المسؤوليات الصعبة". أكملنا حوارنا مع أمينة بأن كثيرين يرون أن الصوفية بدعة، وعلى مدار التاريخ كان هناك مشككون فيها، وكثيرون حاربوها وعذبوا مريديها بالقتل والصلب والحرق، فعلقت أمينة على ذلك: "الصوفية هي خدمة لله وخدمة للإنسانية. الصوفية لم تنحرف عن تعاليم الإسلام، بل تسعى للبقاء متصلة بأصل الدين على بساطته وتواضعه، أنا أرى أن الإسلام لا روحانية فيه دون الصوفية".

الصوفيون يمجدون الله بالأشعار والموسيقى ورقصة الدراويش، هؤلاء "المسلمون الهِبي" رأوا الله بعيونهم، وعبدوه بقلوبهم. وربمّا يكمن سر جاذبية غرناطة وأورخيفا للمسلمين الجدد بالصوفية التي تمنح مريديها السكينة والهدوء في عالم مليء بالضجيج والكره والحروب والمنافسة والسعي وراء الماديات الفانية. الصوفية تجربة عميقة وغنية، للتجرد من شوائب الحياة لتملأ القلب بالسرور والإيمان، إنها دعوة لاكتشاف أعماق الذات بمناجاة الإله في عالم يضىء جمالًا وسلامًا في رحلة سحرية، فهي ليست مجرد تعاليم دينية، بل فلسفة حياة تمزج بين الحب والعشق والتسامح والسكينة، ورحلة متجددة للوصول إلى الله.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard