قرأت نصّاً للعزيز محمد دريوس من أشهر، عنونه بـ "أشياء يحسد الرجل عليها المرأة". كان كلامه طيباً عنا نحن "النسوة". أثار المقال فضولي حول ما يمكن أن أحسد عليه، أنا التي ينتهي اسمي بتاء مربوطة، اختاره لي والداي تيمناً باسم كاتبة نسوية عربية مرموقة (لا مجال للفزلكة، الإشارة واضحة. غادة السمان طبعاً)، معشر الرجال، الذين تخصّصت تقريباً في صعوبة ربط علاقات سوية بهم.
هكذا فكّرت، جردت كل قوائمي: الأصدقاء، الإكسات، الزملاء، أولئك الذين أقابلهم في الشوارع، الجالسون على المقاهي، سائقو التكاسي، المعلمون، الباحثون، الكتاب، الأطباء، الممرضون، الشباب، المراهقون والشيوخ، وأظنني نجحت في وضع قائمة نهائية (مؤقتة).
دائماً على حق
ما الذي يمكن أن أحسد عليه، أنا التي ينتهي اسمي بتاء مربوطة، اختاره لي والداي تيمناً باسم كاتبة نسوية عربية مرموقة، معشر الرجال، الذين تخصّصت تقريباً في صعوبة ربط علاقات سوية بهم؟
مرّة، كنت أتدرّب على قيادة سيارتي التي اشتريتها بحرّ مالي بعد سنوات من الادخار، حدث أن ترددت للحظة في رفع سرعتي أو توقيف سيارتي حتى تمرّ أخرى (كتلة من الخردوات الحديدية يستعملها بائع خضر وفواكه) على طريق فرعي معاكس، فما كان منه إلا أن تقدم (نحو الخلف) بكل حمله وشوّه منظر مركبتي العزيزة، وحين حاول أن يتحدث إليه قريبي، الذي رافقني يومها ويصغرني بقرابة عشرة أعوام، ما كان ردّه سوى: "أعلم أنها تقود من دون رخصة، هي لا تتجاوز الثامنة عشرة، أغربوا عن وجهي".
كنت قد تجاوزت الثلاثين حينها، ولم أفرح أبداً لتشبيهه لي بالمراهقة، عدا عن كونه في حالة تعدٍّ صارخ على قانون المرور الذي كنت أقدّسه.
تذكرت الحادثة من أسابيع، حين أخبرني أحد الأصدقاء بأني كثيرة الكلام، وأنه يشكّ في أني عشت طفولة قاسية حُرمت فيها التعبير عن نفسي. أجبته بأن طفولتي كانت رائعة، وسرعان ما غيّر الموضوع، إذ لم يرقه ردي. حتى طلبتي (تسعون بالمئة منهم إناث) لا يأخذون معلوماتي -ولا تهديداتي بالمناسبة- على محمل الجدّ، إلا إذا تدخّل أحد الزملاء من الذكور لدعمي.
اليقين
"علمه البيان"، تدور هذه الآية وتتكرّر في رأسي كـ "مونترا"، حتى الله خصّ العلم بالمذكر. لم يرتبط الأمر بأي من نسوة الكتب السماوية الثلاثة (على قلة حضورهن). أحد الأصدقاء النسويين اليساريين المناضلين لم يرقه، انزعج، أزبد، جحظت عيناه، حين أخبرته أني أفضّل الفراغ من كتاب لمثقف معروف يعدّه هو من منظري الكولونيالية الجديدة لأخرج برأي، رغم أنه يعلم جيداً أن كثيراً ما تكون الكتب مادة لتحليلاتي، وكثير من القراء يثقون في رأيي. طرقت الفكرة ذهني وأنا أقع على بيت لدرويش يقول فيه: "والبلاغة كمذكر يملي على الأنثى مشاعرها".
إن كانت خيبتي في هذا الصديق كبيرة، فإنها لم تكن الوحيدة. أذكر أني مرة ذهبت لطبيب نسائي بعد أن تأثرت دورتي الشهرية بصدمة رحيل جدتي. طلب مني أن أجري فحوصات إضافية قائلاً: "لأنكن بهذا السن (23 آنذاك)، تصبح الأمومة فانتازما لديكن".
لم يكن الأمر كذلك، ولم يصبح حتى، لكن أن يتفوّه طبيب بجملة بهذه السطحية وبهذا التوكيد أصابني يومها بالقرف، كدت أرتجع. عدا أمي، لا أملك غير الشكوك لغة مع غيري من النسوة، عكس "علماء اليقين".
دراما كوين مايكر
لطالما اعتبرت نفسي دراما كوين، قد أستغرق ربع ساعة في وصف ألم عابر، أو أكرّر لأيام جملة مسيئة (أو حتى طيبة) قيلت لي. أصف بدقة الروائي سعيد خطيبي، وأقتطع بمشرط جراح (بصراحة لا أعرف أسماء جرّاحين مميزين) جملة مميزة وردت في قول أو نص.
لكن أعترف أن أهم نقاط التحول في حياتي كتبها رجال، من الذي قرّر أن يخلع ناباً ليمنحني مساحة داخل فمي (شكراً، علي أن أفقد السمع لساعات كل صباح)، مروراً بالذي اختلق سؤالاً عن قريب له ليحاول اغتصابي وأنا بسن الثمانية، للحبيب الأول الذي قرّر فجأة أن يختفي تماماً، قبل أن يعاود الظهور ثم الاختفاء مجدداً (مخلفاً صدمة عميقة)، مروراً بطالب قرّرت أن أحيله على مجلس التأديب، وجاء لينتقم بوصفي بأقذر الصفات (كانوا كثراً، وغدوا قائمة على مر السنين).
نظافة شخصية متعثرة
لا أدفع الفواتير. تدفع أمي فواتير بيتنا، لذلك كل ما سنحت لي الفرصة، أقضي أوقاتاً طويلة تحت الدش، انتقاماً من برودة الطقس، أو حرارته. يحدث أن أبدي امتعاضي في الشارع حين يخلف أحدهم روائح "فواحة"، إن كان حضور النسوة أكبر في زمن الصيف، فإن حضور المذكر طاغ على مر شهور السنة. لم أفهم يوماً لمَ علاقتهم مع الماء متوترة، وفوقها سيقتربون منك، يكتسحون مساحة الأمان لديك، من باب انفتاح أتت به آخر زخة مطر، أو صداقة (لم أفهم يوماً علاقتها بالقرب الجغرافي). مضطرة غالباً لحبس أنفاسي.
مرة ذهبت لطبيب نسائي بعد أن تأثرت دورتي الشهرية بصدمة رحيل جدتي. طلب مني أن أجري فحوصات إضافية قائلاً: "لأنكن بهذا السن (23 آنذاك)، تصبح الأمومة فانتازما لديكن"
التكشف دون خوف
في كل مرة أدخل البيت (أي مكان قد أعتبره بيتاً وإن كان غرفة فندق)، علي أن أتأكد من إحكام إغلاق الباب. أذكر ملاحظة وجهها لي صاحب "أر بي أن بي" في إحدى المدن الأوروبية التي زرتها منذ سنوات، وهو يلحظ تكرّر عودتي للتأكد من إغلاق باب شقتي: "آنسة، هل كل شيء على ما يرام؟". لم أجد ما أقوله لحظتها، ولكن حميميتي أقدسها.
أذكر أني جعلت صديقاً يركض في شوارع العاصمة بحثاً عن مرحاض (و يا لمشقة الأمر). كلما توجب علي أن أغير ملابسي، أجدني أتأكد من إغلاق الستائر والأبواب، وإن كنت في مكان خال من المتلصصين والجيران، لكني دهشتي وحسدي يكبران كلما رأيت بائع الخضار منكباً، يأخذ من هذا النوع أو ذاك، وسرواله ينزل شيئاً فشيئاً، كذلك يفعل المراهقون، الكهول والعجائز، في حيّنا (كما في كل مكان زرته في العالم) لا يستحون من "فكّ زنقهم" في أي زاوية شارع. حتى أستاذ الترجمة بالسوربون لم يجد حرجاً في فتح بنطاله بمقهى باريسي، متحجّجاً بمرض في القلب. لن تجرؤ أي امرأة على هذا الفعل، لن تمرّ الفكرة ببالنا حتى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 20 ساعةtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...