كتب أحد الكهنة من الكنيسة القبطية الأرثوذوكسية بمصر، منشوراً على صفحته الشخصية، يستعرض فيه الآراء المختلفة حول موضوع عنونه بـ "سنة بدء الخليقة" مستنداً لمحاولات توفيقية بين النصّ العلمي والديني بخصوص الجدل المستمر حول ما إذا كان آدم أب للبشر وأول إنسان وجد على سطح الأرض، والفجوات الزمنية الكتابية في سفر التكوين والعلمية في نظريات التطور، وكان منشوره يشير، بشكل غير مباشر، لفكرة "رمزية قصة الخلق في الإنجيل".
كما حكمت الكنيسة الكاثوليكية على جاليليو بالإقامة الجبرية ومنعه من مناقشة أفكاره بخصوص مركزية الشمس، هكذا فعلوا به. لم تهدأ اللجان الإلكترونية التي تظهر بدعوى الدفاع عن الإيمان، لحظة واحدة. عملية تشهير واسعة واتهامات واضحة بالهرطقة أدت إلى بيان رسمي يفيد بغلق حساب الكاهن بسبب تعاليمه الخاطئة، ثم بيان تالي يعتذر فيه الكاهن عما كتبه!
كما حكمت الكنيسة الكاثوليكية على جاليليو بالإقامة الجبرية ومنعه من مناقشة أفكاره بخصوص مركزية الشمس، هكذا فعلوا بأحد الكهنة من الكنيسة القبطية الأرثوذوكسية بمصر الذي قال بـ "رمزية قصة الخلق في الإنجيل"
جدل لا ينتهي
هذا الجدل الدائر في الأوساط الكنسية المسيحية ليس جديداً، فقد شغلت قضية/قصة آدم الآباء الأولين والمفكرين، فيما ساد الاتجاه العام تأكيداً على تاريخيته كأول إنسان على وجه البسيطة. حاجج آخرون في غير ذلك، فذهب العلامة أوريجانوس الذي أسّس نظاماً ونظرية كاملة في التفسير الرمزي في مدرسة الإسكندرية، إلى أن آدم ليس اسم علم، لكنه إشارة للبشر عامة، وأن إغواء الحية يمثله الشيطان وأن قصة الأكل من الشجرة رمزية لعدم طاعة الله، وبالتبعية، سقوط آدم وطرده من الجنة هو فقدان النعمة الإلهية التي منحها الرب للإنسان. أي أن حكاية الخلق في سفر التكوين لا يجب قراءتها وتفسيرها إلا في إطار الرمز الروحي ليس أكثر.
في الآونة الأخيرة، شهدت الكنيسة القبطية الأرثوذوكسية الأزمة نفسها مرات عديدة، منها واحدة عام 2018، كانت لأسقف شبرا الشمالية الأنبا أنجيلوس، حين انتشر مقطع فيديو له يتحدث فيه عن أسطورية بعض قصص العهد القديم ورمزية قصة الخلق، وقامت الدنيا ولم تهدأ حتى خرج الأسقف مدافعاً عن نفسه وعن حديثه الذي وضع في غير سياقه، وبرغم المعاناة التي لاقاها من هذا الموقف، ومحاولات حماية نفسه من عاصفة بيانات الإدانة التي طالته من داخل وخارج مصر، كان بيان إدانة كاهن الأزمة الحالية مصحوباً بتوقيعه.
بين التأويل ومحاولات التوفيق
إن الخصومة التي وقعت بين العلم ورجال اللاهوت جاءت من جرّاء تبني اللاهوتيين فكرة عدم قابلية النصوص المقدسة لأي تأويل، الأمر الذي خلق تاريخ الصراع الدموي من أجل البقاء بين الدين والعلم، في العصور الوسطى للمسيحية الغربية، تبع هذا التطاحن المستمر بعض العمليات التوفيقية التي حاولت قراءة النصوص بشكل مختلف.
من نماذج التوفيق كتاب "Creation or Evolution: Do We Have to Choose"، حيث يجادل دينيس ألكسندر في ثنائية مفادها: هل كان آدم شخصاً تاريخياً أم مجرد رمز، وهل نحن بحاجة إلى هذا الاختيار من البداية؟
يبدأ ألكسندر من النقطة اللاهوتية التي تمثل محور الكتاب المقدس وأساس العقيدة المسيحية ثم يذكر في فصوله الأولى التطور البيولوجي، ويصل في النهاية إلى أن آدم وحواء هما اختيار الله كنموذج لعلاقته الممتدة بين البشر، وأنه قبل آدم كان هناك بشر مخلوقين جميعاً على صورة الله ومثاله، لكن آدم كأن أول انسان يتمتع بالتواصل مع الله ولم تخلق حواء من ضلعه، مفسراً ما جاء في سفر التكوين عن لقاء آدم وحواء أنه لقاء آدم بحوائه المؤمنة، التي هي مختلفة عن كل النساء المخلوقات وقتها. أي أنه يصل إلى تاريخية آدم لكنه ينفي كونه الإنسان الأول، في محاولة للبرهنة على التطور كنظرية من ناحية، وما سرده سفر التكوين، كنص مقدس، من ناحية تأويلية أخرى.
عملية الإصلاح الكنسي، التي تحتاجها الكنيسة القبطية على وجه التحديد، لن تتم بهذه السلبية أو الميوعة في محاولات تهدئة الأصوليين وتلبية رغباتهم، ولن تتم إلا إذا ناقشت الكنيسة نصوصها في إطارها الحقيقي
المحاولة نفسها قدمها الدكتور أوسم وصفي في دراسته "أسئلة في العهد القديم"، حيث فضّل الإشارة إلى إصحاحات سفر التكوين الأولى، بأنها نصوص مكتوبة بشكل أدبي، وبالتالي تستخدم اللغة الأسطورية في حكي قصة الخلق، لكنها في المقابل، وبرغم عدم دقتها العلمية، تقدم حقيقة روحية هامة وهي أن الله خلق الكون من العدم، وأنها لا تناقض النظريات العلمية، فيستند إلى آية "وكان روح الله يرف على وجه المياه" بإنها إشارة لمنطلق نظرية التطور، ويذهب إلى أن ظهور الكائنات في "التكوين" كان بنفس الترتيب الدارويني.
لماذا يرفض المسيحيون رمزية آدم؟
يذكر التقليد أن آدم دفن في موضع الصلب، وحين سُفك دم المسيح، تشقّقت الصخرة من الأسفل، ووصل الدم حتى رأس آدم ليفتديه ويمحو عار خطيئته الأولى التي لصقت بالجنس البشري كله، ويقوم طقس المعمودية، وهو السر الأول من أسرار الكنيسة، على فكرة تنقية الطفل الرضيع من خطيئة آدم المولود بها، وإعلانه مسيحياً. فقد خلقت خطيئة آدم وطرده من الفردوس صراعاً لايزال حتى الآن يؤرق أروقة الكنيسة وهو "وراثة الخطيئة"، فيذكر سفر أيوب "أنه ليس إنساناً بلا خطية، ولو كانت حياته يوماً واحداً على الأرض"، ويقول بولس الرسول في رسالته لأهل رومية "بخطية واحدة صار الحكم إلى جميع الناس للدينونة"، إذن فالترتيب الحرفي للمسيحية يبدأ بخلق آدم وسقوطه الذي استوجب الفداء، ليأتي المسيح ويبذل نفسه عن العالم حتى يفتدي الجنس البشري من خطيئته الأولى، ثم تأتي المعمودية لتطهّر كل مولود ولد بسقوط جده الأول.
هذا الترتيب الحرفي يخرج المسيحية من رسالتها المحورية، ويجعلها وكأنها مجموعة من المكعبات المثبته فوق بعضها لو سحبنا مكعباً واحداً ستنهار، لذلك يتوحّش الأصوليون في هجومهم تجاه أي فكرة تخص رمزية آدم والتشكيك في وجوده تاريخياً، لأن وجوده الحتمي يبرّر غاية وجود المسيح نفسه، كما يذكر الكتاب "لأنه كما في آدم يموت الجميع، هكذا في المسيح سيحيا الجميع".
لذا كان من البديهي لمجموعات أصولية كبرت على الأقل في العقود الخمس الأخيرة على التمسّك بالحرف كما هو، وأن ترفض نظرية التطور بكافة الإشارات إليها، وترفض فكرة الميثولوجيا وحقائق التراث والأساطير المختلفة التي تبنت قصة الخلق بأسماء وبقاع جغرافية مختلفة، بل وترفض عمليات التوفيق حتى وأن كانت محاولات ساذجة لتفادي إشكالية رفض القصة الدينية بكاملها والوقوف على أرض مشتركة واحدة.
مايثير الاشمئزاز في التعامل مع الأزمة الأخيرة هو الانبطاح للأصوات الأصولية التي تبنّت حملات التشهير وروّجت لها، بل وتبنّت سيناريو الحكم ولم ترض عن التوضيح أو الاعتذار
لماذا نحتاج هذا الجدل دائماً؟
أعاد منشور الأب موسى الجدل إلى الساحة، ليس فقط حول قصة الخلق، ولكن حول ثنائية التفسير الحرفي والتفسير الرمزي لقصص العهد القديم بالتحديد، والحقيقة أن التمسّك بالتفسير الحرفي لهذه القصص لايفيد الإيمان بل يضرّه، لأن معظمها غير منطقي أو مثبت تاريخياً، هنا تأتي أهمية الرمز وقولبة هذه القصص في إطار المنفعة الروحية، وبالتالي يجد المؤمنون تفسيراً وسطياً لا يرفض العلم وينعته بالشيطاني، وفي الوقت نفسه لا يتخلى عن إيمانه، أي أننا نصل بهذا إلى تطويع النصوص وتوفيقها حتى ولو كان هذا التوفيق نظريات ملفقة، لكنها في النهاية تضيئ نوراً في أخر النفق.
ما يثير الاشمئزاز في التعامل مع الأزمة الأخيرة هو الانبطاح للأصوات الأصولية التي تبنّت حملات التشهير وروّجت لها، بل وتبنّت سيناريو الحكم ولم ترض عن التوضيح أو الاعتذار. رفضها لكل ذلك يأتي باعتبارها فئة ترى في نفسها الاستحقاقية واحتكار التفسير، الأمر الآخر هو أن عملية الإصلاح الكنسي، التي تحتاجها الكنيسة القبطية على وجه التحديد، لن تتم بهذه السلبية أو الميوعة في محاولات تهدئة الأصوليين وتلبية رغباتهم، ولن تتم إلا إذا ناقشت الكنيسة نصوصها في إطارها الحقيقي كما دعا الأنبا إبيفانيوس قبل مقتله: "بعض النصوص فيها أزمة ومش هنقدر نعمل إصلاح حقيقي إلا لو أعترفنا بأن عندنا أزمة حقيقية"، لكن على كافة الأحوال، تظل أهمية الجدل أيضاً أنه يدعو إلى التفكير بشكل مختلف عن المعتاد عليه، ويقلّل، مع مرور الوقت، نعرات التكفير والهرطقة التي تطال الأصوات المغايرة دون رحمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومينأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 3 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...