اعتدنا وجودها في جميع المناسبات والأفراح حتى أصبحت جزءاً لا يتجزأ من عاداتنا وتقاليدنا في الدول العربية.
تزيّن البقلاوة سفراتنا في رمضان وفي الأعراس وحفلات الخطوبة وغيرها من المناسبات، وما لا يعرفه كثيرون/ات أنّ وراءها يدور صراع كبير حول أصلها وملكيتها.
نزاع واحتجاجات
هذه القطع الصغيرة واللذيذة تبنّاها العرب، وأشعلت خلافاً بين الأتراك والقبارصة اليونانيين الذين قاموا بتوزيع ملصقات في النمسا في أحد الاحتفالات، وُضعت عليها صورة للبقلاوة تفيد بأنها الطبق الوطني للقبارصة اليونانيين، ما أغضب الأتراك الذين خرجوا في مسيرات في إسطنبول، وتحديداً في حي السلطان أحمد، شارك فيها نحو 200 من صانعي البقلاوة، احتجاجاً على نسب البقلاوة إلى اليونانيين، وهذا ما جعل مساعد علي باباجان، رئيس وفد تركيا في المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي حينها، يتعهد بأن يثير مسألة النزاع على البقلاوة في مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل، بحسب تقرير أعدّته رويترز.
تزيّن البقلاوة سفراتنا في رمضان وفي الأعراس وحفلات الخطوبة وغيرها من المناسبات، وما لا يعرفه كثيرون أنّ وراءها يدور صراع كبير حول أصلها وملكيتها
اللافت أن "معركة" البقلاوة، واحدة من معارك كثيرة على أصل بعض المأكولات التي تتشاركها دول الشرق الأوسط والبحر المتوسط.
في رحلة بحثنا عن أصل هذه الحلوى، تواصل رصيف22، مع عدد من الطهاة، ليروي كل ّمنهم مرحلةً تاريخيةً من تاريخ صنع البقلاوة ساعدتنا في فهم تسلسل الأحداث التي جعلت البقلاوة تلقى هذا الانتشار الواسع.
أسرار صناعة البقلاوة
يبدو أن البقلاوة بشكلها التقليدي القديم وُجدت مع البيزنطيين، فبعض المصادر تؤكد أن أصل البقلاوة في شكلها البدائي يعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد في بلاد الرافدَين والآشوريين الذين صنعوها من رقائق العجين الرقيق الهشّ المحشو بالفواكه المجففة أو المكسرات المغطاة بالعسل، وأخذها عنهم الأتراك، وتطوّر شكلها مع العثمانيين لتصبح كما نعرفها اليوم. أمّا مذاقها فتغيّر مع اللبنانيين/ ات والسوريين/ ات.
في حديثه إلى رصيف22، يكشف الشيف اللبناني الشهير أنطوان الحاج، أنّ "البقلاوة بالشكل الذي نعرفه اليوم، عثمانيّة الأصل، استناداً إلى حكم العثمانيين للمنطقة العربية لأكثر من 400 عام، وانتشر وجود هذه الحلوى معهم في دول الشام، كلبنان وفلسطين وسوريا".
"لا شك أن العرب أخذوا البقلاوة عن الأتراك، إلا أنهم طوّروها لتصبح ألذّ وتناسب مذاق الجميع، حتى أنّ بعض اللبنانيين/ ات يحمّصون/ ن البقلاوة في الفرن باستخدام الزيت وليس السمنة، وهو ما يعطيها طعماً أخفّ"
ويستدرك الشيف أنطوان: "إلاّ أننا تفرّدنا عن الأتراك في صناعتها بسبب السمنة التي نستخدمها في تحضيرها، وهي مختلفة بجودتها عن التي يستخدمها الأتراك في صناعة البقلاوة، كما أننا نضيف إلى عجينة البقلاوة ماء الورد وماء الزهر، كما يضيف البعض المسكة إلى القطر، ما يعطيها طعماً فريداً ورائحةً ذكيّةً. أمّا بقلاوة الأتراك فتكون مليئةً بالقطر والسمنة، وهو ما يجعل طعمها دسماً، على عكس البقلاوة اللبنانية التي تمتاز بطعمها الخفيف، وتذوب في الفمّ وهو ما يجعل الفرد يعلق في الطعم فيشتهي المزيد منها".
ويضيف: "لا شك أن العرب أخذوا البقلاوة عن الأتراك، إلا أنهم طوّروها لتصبح ألذّ وتناسب مذاق الجميع، حتى أنّ بعض اللبنانيين/ ات يحمّصون/ ن البقلاوة في الفرن باستخدام الزيت وليس السمنة، وهو ما يعطيها طعماً أخفّ".
ويشارك الشيف أنطوان بعض أسرار صناعة البقلاوة اللذيذة: "يمكن إغراق العجينة بالسمنة أو الزيت حتى رأس الصينية، قبل إدخالها إلى الفرن، وبعد إخراجها، تتمّ إزالة الزوائد من السمنة أو الزيت ليُسكب عليها القطر مع المسكة".
ويضيف في حديثه: "البقلاوة التي تصنعها ستّات البيوت تكون غنيّةً بحشوتها، خصوصاً إذا ما كانت ستّ البيت ماهرةً في الطبخ، لكن السرّ يكمن في الخبرة وحرارة الفرن القوية والسمنة الحموية".
وعن سبب الشهرة التي اكتسبتها البقلاوة في الدول العربية، يجيب الشيف أنطوان: "تتسم البقلاوة بصفات عديدة تجعلها مطلوبةً، حيث أنّ مذاقها لذيذ وفيها قرمشة وهي صالحة للسفر، بحيث يمكن أخذها قبل العيد بشهر دون وجوب وضعها في البراد ويبقى مذاقها طازجاً".
من تركيا إلى إيران فالعراق
ترى الشيف روح أبو ظهر، وهي صانعة وصفات ومستشارة في قوائم الأكل وكاتبة متخصصة في المأكولات، أنّ البقلاوة سوريّة الأصل: "بحسب الأحاديث التي تربينا عليها، انطلقت البقلاوة من حلب، وانتقلت إلى تركيا عن طريق منطقة غازي عنتاب، أمّا التسمية 'بقلاو' فقد تكون تركيةً، وتعني ملفوفة أو لفّة معقودة، كما يرد في الأحاديث أنّ هذه الحلوى سُمّيت على اسم زوجة أحد السلاطين العثمانيين. أمّا 'الفا' في نهاية التسمية 'بگلڤا'، فقد تجعلنا نعتقد بأنّ لهذه الحلوى أصولاً إيرانيةً فارسيةً".
ربما يفسّر لنا ما سبق انتشار البقلاوة في العراق، حيث أخذ العراقيّون البقلاوة عن الإيرانيّين الذين أخذوها بدورهم عن الأتراك الذين أخذوها عن البيزنطيين.
وتقول أبو ظهر لرصيف22: "عندما كنت أحاول تسمية الحلويات في الـmenu الخاص برمضان، حاولت البحث عن أسماء فريدة لحلوى أعدّها تقرب البقلاوة في شكلها وطعمها مع بعض التعديلات، وتفاجأت بحلوى اسمها 'بايلا'، في اللغة المنغولية، وتعني طبقات، والكلمة نفسها هي 'الغواش' في مصر، أو 'الفيلو' في أوروبا، وهي البقلاوة. وعليه، يصعب تحديد أصل البقلاوة، حيث أنّ كلّ شعب سيتبنّى رواية بلده. وأنا شخصياً منحازة إلى البقلاوة اللبنانيّة، فهي أكثر نوع فيه توازن في المكوّنات من ناحية السكر والحشوة وكمية السمن المستخدمة، فالبقلاوة السورية طعم السمنة فيها ظاهر، أمّا التركية فلا تُحشى بالمكسّرات بل بالقشطة والكريمة واليوم أدخلوا إليها البوظة، لذلك تبقى البقلاوة اللبنانيّة الأطيب بالنسبة لي".
تضيف أبو ظهر: "لأنّ مكوّناتها غنيّة ومكلفة من ناحية الفستق والمكسّرات المستخدمة، ارتبطت البقلاوة بالطبقة الغنية وأصبحت تدل ّعلى الفخامة، وهو ما جعلها هديّةً قيّمةً، ورمزاً للأفراح والمناسبات، وانتشارها في رمضان قد يعود إلى قيام بعض السلاطين العثمانيين بتوزيع هذه الحلوى في منتصف الشهر الفضيل على الشعب، واستمرّت هذه التقاليد حتى اليوم، إلاّ أنّ البقلاوة لا ترتبط في تركيا بالأفراح، بل هي نوع من التحلية فحسب على النقيض تماماً مما هي عليه في لبنان وسوريا".
من طرابلس إلى كلّ لبنان
يرى البعض أنّ البقلاوة دخلت إلى لبنان من سوريا عن طريق بوابة طرابلس، وهو ما يؤكّده أحمد دقسي، مدير المبيعات في محال حلويات "صفصوف"، والمسؤول عن صانعي الحلوى فيها، في حديثه إلى رصيف22: "البقلاوة بالأساس لبنانية طرابلسية وقد تعلّمها المعلّمون في لبنان، وأصبحت تنتقل من طرابلس إلى بيروت فالجنوب وصيدا والشوف".
ويرى دقسي، أنّ بقلاوة لبنان، تبقى الأطيب والألذ، وتختلف عن بقلاوة الدول المجاورة بحجمها الكبير، وأصنافها المتعددة، ونوع الفستق المستخدَم فيها: "حلويات الصفصوف تستخدم الفستق القابولي، المستورد من أفغانستان، ويُعدّ من أفضل أنواع الفستق في العالم، كما يخلط الصفصوف أنواعاً من السمنة، وهي سمنة شمتلين والبقرة الحلوب، ليعود ويسقي العجينة بالقطر المخلوط مع سمنة حموية، وهو ما يعطي البقلاوة طعماً فريداً وقرمشةً رائعةً من الصعب ايجادها في محال الحلوى في الدول المجاورة".
وتُعدّ محال حلويات الصفصوف من أقدم محال الحلويات العربية في لبنان، ويعود تاريخ تأسيسها إلى العام 1958، ومؤسسها هو البيروتي الحاج بديع وابناه الحاج سليم والحاج رباح.
ويؤكّد دقسي أنّ "الإقبال على البقلاوة والحلويات العربية بمختلف أشكالها وأنواعها يرتفع في شهر رمضان المبارك، بنسبة 30%، على الرغم من الأزمة الاقتصادية والوضع الحالي. فأسعار البقلاوة لدى حلويات الصفصوف لا تزال مقبولةً مقارنةً بغيرها من محال الحلويات، حيث يبلغ سعر الكيلو 1،300،000 ليرة أي قرابة 14 دولاراً".
وصفة البقلاوة على الطريقة البيروتية
"البقلاوة حلوى تقليديّة وهي عبارة عن طبقات من رقائق العجين المشبع بالزبدة أو السمن والمحشوّة بالمكسّرات، من اللّوز أو الفستق، والمسقيّة بالعسل أو بالسكّر"؛ هذا ما تقوله الطاهية البيروتية سهى حرب، وهي من النساء اللواتي اعتدن تحضير جميع الحلويات والمأكولات من مختلف مطابخ العالم، في منزلها وتصوّر طريقة تحضير هذه الأطعمة وتنشرها على قناتها على يوتيوب، وتلبّي جميع الطلبات.
تضيف حرب لرصيف22: "بسبب الأزمة الاقتصاديّة التي ضربت لبنان، أصبحت البقلاوة محصورةً في طبقة اجتماعية معيّنة، على الرغم من ذلك، تبقى من الوصفات المميزة في بلاد الشام ومن الحلوى الأفخم التي لا غنى عنها في المناسبات الكبرى، كالأعراس، وحفلات تبوؤ مناصب عليا، أو النجاح في الدراسة، كما هي غالباً موجودة على سفرة رمضان، وفي العزائم الكبيرة، وهي جزء لا يتجزأ من العادات والتقاليد الراسخة في مجتمعاتنا".
وتضيف: "بعد انخفاض القدرة الشرائيّة لدى المواطنين/ ات اللبنانيين/ ات، أصبح من الصعب على البعض شراء البقلاوة لارتفاع سعرها، إلاّ أنّه ونظراً إلى الأهميّة التي تكتسبها في الثقافة اللبنانية، وخصوصاً في شهر رمضان المبارك، تلجأ بعض السيدات إلى إعداد البقلاوة في المنزل للتوفير".
وتشرح حرب طريقة تحضير البقلاوة في المنزل، والمكوّنات التي تدخل في صناعة العجينة وهي "الطحين، المياه، والقليل من الملح، ومن ثم تُمدّ العجينة كي تصبح رقيقةً جداً، ونضع بعد ذلك النشا بين الطبقة والأخرى، وهو السر في 'القرمشة' في عجينة البقلاوة، لنعود ونفرد السمنة على وجهها، ونسقيها بالقطر. أمّا الحشوة فهي حسب الذوق، حيث يمكن استخدام الصنوبر، أو اللوز، أو الجوز، أو الفستق الحلبي".
"لأنّ مكوّناتها غنيّة ومكلفة من ناحية الفستق والمكسّرات المستخدمة، ارتبطت البقلاوة بالطبقة الغنية وأصبحت تدل ّعلى الفخامة، وهو ما جعلها هديّةً قيّمةً، ورمزاً للأفراح والمناسبات، وانتشارها في رمضان قد يعود إلى قيام بعض السلاطين العثمانيين بتوزيع هذه الحلوى في منتصف الشهر الفضيل على الشعب"
وتشير إلى أن البقلاوة العربية تختلف عن التركية من حيث النكهة: "في بلادنا العربية نضيف إليها ماء الزهر، وماء الورد، والمواد المعطّرة، التي تعطيها طعماً ألذّ، كما أنّ كميّة القطر تكون أقلّ، أمّا البقلاوة في لبنان فتختلف عن المصرية بنوع السمنة المستخدمة. ولعلّ هذا هو السبب وراء شهرة محال الحلويات العربية اللبنانية والسورية، في جميع أقاصي الأرض، حيث أوصل أصحاب هذه المحال البقلاوة إلى الدول الأجنبية".
المطاعم اليونانية في لبنان تقدّم البقلاوة... أمّا التركية فلا
على المقلب الآخر، تواصل رصيف22، مع عدد من المطاعم اليونانيّة في لبنان، ومنها مطعم ياماسYamas اليوناني في بيروت، الذي أكّد لنا القيمون عليه أنّ لائحة الطعام لديهم، وتحديداً في قسم الحلويات تتضمّن البقلاوة، على عكس المطاعم التركية في لبنان ومن بينها AlTurki Hayat Doner، التي تبيّن أنها لا تقدّم البقلاوة في خانة الحلويات بل حلوى السلطانة هيام، والكنافة والمهلبية.
في المحصّلة، تبقى البقلاوة، وعلى الرغم من هويتها "التائهة"، ملكةً متربّعةً على عرش الحلويات العربية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع