شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
كيف غيّر

كيف غيّر "متحف البراءة" نظرتي لإسطنبول؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب نحن والتنوّع

الأحد 24 مارس 202401:46 م

عندما وصلت إلى نهاية الجملة الأخيرة من كتاب "متحف البراءة"، للكاتب التركي أورهان باموق، لم أتمكن من التغلب على رغبتي القوية في التواجد في مدينة إسطنبول، وتبعاً لذلك لم يأخذ قراري إلغاء أعمالي القادمة أي وقتاً مني، إذ وضعت أغراضي في حقيبتي، وبعد ساعات قليلة، شددت الرحال وركبت على متن حافلة متجهة من غرب طهران إلى إسطنبول. عند وصولي إلى وجهتي، استأجرت غرفةً في شارع "تشوكوركوما" في حي "بيه أوقلو"، ليكون مسكني على بعد خطوات قليلة من مبنى متحف البراءة.

يومياً كنت أزور شطراً من المدينة، والمتحف المنشود كان في طريقي وكنت أمرّ به باستمرار، ففي هذه الأيام زرت "البوسفور" و"حي نيشانتاشي" و"القرن الذهبي" والمطاعم والمساجد وغيرها من الأماكن التي جاءت في قصة كتاب باموق. وفي اليوم الأخير من تواجدي في إسطنبول، توجهت أخيراً إلى مبنى المتحف، واشتريت تذكرةً من بائع التذاكر الذي يبيعها من خلال نافذة صغيرة مفتوحة في واجهة المبنى.

باموق وإسطنبول

بين باموق وإسطنبول الكثير من الترابط. يمكن فهم ذلك من إسطنبول الحاضرة في كل قصصه، ومن باموق نفسه، إذ حافظ على ذكريات إسطنبول أفضل من أي شخص آخر. وُلد فريد أورهان باموق، عام 1952، في عائلة كبيرة وثرية، ومن سن السابعة حتى الثانية والعشرين، كان يعتقد أنه سيصبح رساماً، وكان يرسم بجدية طوال تلك السنوات، ولكن سلسلةً من الأحداث غيّرت مساره. في السنة الثالثة من دراسته الهندسة المعمارية في الجامعة، اتجه نحو مجال لم يكن فيه لا رساماً ولا مهندساً، فترك الجامعة وأصبح كاتباً. وحول هذا يقول: "عندما أنظر إلى حياتي أرى رجلاً يجلس على طاولة ويكتب في الحزن والسعادة بلا انقطاع".

تبدأ قصة رواية "متحف البراءة"، في أيار/مايو 1975، عندما كان راوي القصة، كمال، في الثلاثين من عمره، وفي "بيت المرحمة" الواقع في شارع التشويقي في إسطنبول، حين كان خاطباً فتاةً جميلةً وثريةً ومتعلمةً، لكنه كان يحب قريبته فسون

وبرغم حصوله على جائزة الروايات غير المنشورة عن كتابه الأول "السيد جودت وأولاده"، إلا أنه ظل يبحث عن ناشر لمدة أربع سنوات. وفي وقت لاحق، نالت كتاباته العديد من الجوائز الأدبية الثمينة، كما تُرجمت كتبه إلى 55 لغةً. تعرفت إلى أورهان باموق عام 2006، عندما حصل على جائزة نوبل عن روايته الشهيرة "اسمي أحمر"، فهو كالعديد من المثقفين في التاريخ، لم يتلقَّ أي رسائل تهنئة من حكومة بلاده، لأنه قال في مقابلة قبل عام أي 2005: "لقد قُتل ثلاثون ألف كردي ومليون أرمني في تركيا، ولم يجرؤ أحد على الحديث عن هذا الأمر غيري أنا".

في المتحف

تبدأ قصة رواية "متحف البراءة"، في أيار/مايو 1975، عندما كان راوي القصة، كمال، في الثلاثين من عمره، وفي "بيت المرحمة" الواقع في شارع التشويقي في إسطنبول، حين كان خاطباً فتاةً جميلةً وثريةً ومتعلمةً. لكنه كان يحب قريبته فسون، ذات الثمانية عشر عاماً، ويتطور حبه لهذه الفتاة، حتى يصل به الهيام إلى أن يهمل خطيبته وعمله وحتى أسرته بأكملها. في هذه الأثناء يفقد كمالُ فسونَ لفترة من الوقت، لكن بعد فترة يجدها بالصدفة، فيُصدم بها متزوجةً وفي وضع يرثى له. بينما كان ينتظرها لمدة تسع سنوات.

خلال هذه السنوات، يأخذ الأشياء التي ارتبطت بفسون بأي شكل من الأشكال، آملاً بذلك أن تثير كل واحدة منها شعور حضورها حوله، فعلى سبيل المثال: كان يجمع أعقاب سجائرها وحتى الأقراط والمملحات التي كانت تستخدمها. وبرغم أن الموضوع الرئيسي لهذه القصة هو الحب، إلا أن إسطنبول تلمع في كل سطور الرواية، فالناس والمباني والشوارع والأحياء ومعتقدات الناس وتاريخ إسطنبول تشكّل المكونات الأساسية للقصة، وحكاية حب كمال هي مجرد بهارات وتوابل، أضفت على القصة الألوان والروائح، وجعلتها أشهى.

أدت الأحداث التي اجتمعت في هذه القصة، أخيراً في عام 2012، إلى افتتاح متحف في شارع "جوكوركوما" في حي بيوغلو. من المعتاد أن المتاحف تعرض لزوارها التحف والأشياء المهمة والثمينة والمناظر الطبيعية والأحداث التاريخية المهمة، لكن هذا المتحف في الواقع يستعرض ذكريات إسطنبول في النصف الثاني من القرن العشرين.

مقتنيات متحف البراءة، التي تم جمعها بهوس باموق وخياله المميز، من بيوت الأصدقاء والمعارف أو من المزادات، في أثناء تأليف الكتاب، قد خلقت حدوداً ضيقةً بين الواقع والخيال إلى درجة أننا حين نزوره ننسى خيال الكتاب ونغرق في قصص الأشياء. لا تتمتع الأشياء المعروضة في المتحف بقيمة بحدّ ذاتها، بل تكمن قيمتها في قصتها المرتبطة بحب كمال لفسون، فالزائر يفهم معنى الساعة الموضوعة بجنب كأس مشروب الراكي، فقط عندما يقرأ الرواية بالكامل.

بيت فسون

للوصول إلى هذا المتحف، عليكم نزول شارع "تشوكوركوما" المنحدِر الذي ذكرني بوصف كمال للفيضانات التي تدفقت على هذه الشوارع المرصوفة بالحصى. ففي ذلك الشارع رأيت عدداً من متاجر التحف في طريقي قبل أن أصل إلى وجهتي، وعند مروري بالمحال، ألقيت نظرةً سريعةً على مئات السلع الموجودة داخل المتاجر، وقلت في سرّي إن كل قطعة من هذه الأشياء يمكن أن تكون موضوعاً لقصة مثيرة، لكنها تحتاج إلى شخص مثل باموق ليكتبها ويحييها.

إحدى واجهات العرض تعرض صوراً لنساء نُقش شريط أسود على عيونهنّ، وهن الفتيات اللواتي طُبعت صورهن في الصحف التركية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.

هذا المتحف مكوّن من أربعة طوابق؛ الطابق الأرضي عبارة عن آخر منزل عاشت فيه فسون، حبيبة كمال. اشتريت تذكرةً ودخلت البيت الذي يتميز بأقسامه المختلفة المتعلقة بكلّ فصل من أبواب الكتاب، وكان يُعرف كل قسم منها برقم واسم الفصل نفسه، ويحتوي الكتاب على 83 فصلاً، والبيت أيضاً فيه 83 رفّاً مختلفاً. أول ما يلفت الانتباه في مدخل البيت، هي دوامة الزمن المرسومة على الأرض، وهي الدوامة نفسها التي تربط بين جميع الأشياء الموجودة في المتحف.

عند المدخل نفسه وعلى جداره الأيمن، وُضع 4،213 عقب سيجارة لفسون، تحت بعضها ملاحظة تُسمّر كل من ينظر إليها، ويُظهر كل عقب سيجارة مزاجاً وإحساساً مختلفاً كان لدى فسون لحظة إطفائها، فلقد سحقت واحدةً بالكامل، ودخنت واحدةً أخرى وتركت نصفها لأنها كانت على عجل، وواحدة أخرى طُبع عليها أحمر الشفاه الذي كانت تضعه.

وعلى الجدار الآخر من الغرفة، عُلّقت شاشات تعرض كل منها مقاطع فيديو لأيدي فسون وهي تقوم بمهام مختلفة، فمشاهدة يدَي فسون بعينَي كمال لها شعور خاص بين الممتع والحزين، بحيث تُطبع هذه المشاهد في الذاكرة. بالمرور من ذلك الجدار، على الزوار أن يصعدوا الدرج الخشبي الضيق إلى الطابق الأول، وهنا تُسمَع أصوات إسطنبول، الأصوات التي تشكل خلفية حياة أهل هذه المدينة.

مقتنيات متحف البراءة، التي تمّ جمعها بهوس باموق وخياله المميز، من بيوت الأصدقاء والمعارف أو من المزادات، في أثناء تأليف الكتاب، خلقت حدوداً ضيقةً بين الواقع والخيال إلى درجة أن الزوار ينسون خيال الكتاب ويغرقون في قصص الأشياء

في الطابقين الأول والثاني أشياء تتعلق بالفصل الأول وحتى الفصل الـ79 من الكتاب، ففي زاوية نرى قرط فسون المعلّق على ستار صغير يتمايل بلطف مع كل نسيم يهب من خلال النافذة، كما هناك رفوف عليها أشياء كثيرة، تشير كلها إلى العلاقة التي جمعت بَطَلَي الرواية وقصة حبهما. لكن بالنسبة لأهالي إسطنبول، فإن هذه الأشياء لم تأتِ من قصة "متحف البراءة" فحسب، بل هي جزء من حياتهم وذكرياتهم الشخصية في النصف الثاني من القرن العشرين.

إحدى واجهات العرض تعرض صوراً لنساء نُقش شريط أسود على عيونهنّ، وهن الفتيات اللواتي طُبعت صورهن في الصحف التركية في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وكانت طباعة صور النساء بهذه الطريقة لإظهار بنات الهوى وضحايا الاغتصاب في تلك السنوات، التي تحولت فيها إسطنبول من مدينة تقليدية إلى مدينة حديثة من مختلف الجوانب.

وفي عرض آخر للمتحف، هناك خرائط رسمها كمال عن إسطنبول، وذلك بعد انفصاله الأول عن فسون، وكانت هذه الخرائط تخبره بشوارع حي بشيكتاش التي منع نفسه من المرور بها، تلك الشوارع هي نفسها التي كان يشعر في أثناء مروره بها، بمغص عجيب كان يبدأ من أسفل بطنه، ثم ينتشر إلى جميع أنحاء جسده. وعلى الجدار نفسه عُلّقت شاشات تعرض مسار المغص في جسم كمال، وهو يشبه حركة مغص الحب الذي لا يكون في أجساد الكثير من الناس إلا الذين أحبّوا.

الجزء المفضل لدي من هذا المتحف هو الطابق الأخير، حيث عاش كمال من عام 2000 إلى عام 2007، بعد أن اشترى المنزل من والدة فسون، وحيث روى باموق قصة حياته وخطّط لكيفية ترتيب جميع الأشياء التي جمعها في متحفه. توجد على جدار هذا الطابق مخطوطات باموق لكتابة حياة كمال وفسون، بجانب التصاميم التي رسمها كمال على الورق لترتيب متحفه. إلى ذلك كله، فإن نقطة نهاية المتحف هي مقعد يمكن الجلوس عليه، وهو المقعد نفسه الذي قال كمال عنه: "اكتبوا فوق هذا المقعد أنني عشت حياةً سعيدةً".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image