شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
تأبين لشاعريْن من مصر... مهاب نصر وعبد العظيم ناجي

تأبين لشاعريْن من مصر... مهاب نصر وعبد العظيم ناجي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع

الخميس 7 مارس 202402:39 م

هذا المقال هو تأبين لأعضاء مجموعة شعرية مصرية في التسعينيات. حاولت الخروج عن المألوف في تلك المرحلة، ولاحقاً تحوّل كل فرد منها لمشروع أدبي منفصل، ومكتمل الملامح. 

كتَبَ ناصر فرغلي عن مهاب نصر

إلى من فقدناهم وما زالوا حضوراً

كتب فرغلي النص التالي للمجموعة الكاملة لأعمال عبد العظيم ناجي التي لم تُنشر بعد: 

تحل هذه الأيام الذكرى العشرون لرحيل عبد العظيم ناجي، أحد أهم شعراء مصر في القرن الماضي. رحل ناجي ولم تصدر له في حياته أعماله الكاملة كما هو جدير بمنجزه.

وقبل بضع سنوات جمع أصدقاؤه ومحبوه هذه الأعمال من أجل تقديمها لوزارة الثقافة أو الهيئة العامة للكتاب، أو إحدى دور النشر الكبرى، وكتب لها الشاعر والكاتب الكبير مهاب نصر هذه المقدمة الرائعة، المفعمة بالنظر العميق والمحبة معاً.

رغم مرور السنوات، فإن هذه الأعمال المجموعة ما تزال حبيسة درج ما.

وها هو كاتب المقدمة يرحل لاحقاً بصديقه.

واحتفاءً بعشرينية ناجي، وتأبينًا لرحيل مهاب، ليس هناك أفضل من هذا النص المبدع الذي يستعيد ذكراهما معاً كشاعرين كبيرين، وشريكين في مشروع مجلة (الأربعائيون) أول التسعينيات، مع الراحل الثالث الشاعر حميدة عبدالله، ومع كاتب هذه السطور.

لأرواحهم جميعاً، وللشعر، السلام.

كتَب مهاب نصر عن عبد العظيم ناجي

ثم يدخل شاعر من نقطة ما...

من نقطة ما في الطرقة الطويلة التي تفضي إلى حجرة المدخل المفتوحة بدورها على غرفة الصالون، حيث كنت أجلس منتظراً ظهر ناجي بقميصه الكارو وبانحناءة رأسه الخفيفة المعتادة. في إحدى يديه كتاب ما، وحين اقترب بدت إصبعه بين صفحتين مستبقياً شيئاً كان يقرأه، وفي اليد الأخرى نظارته.

قبل أن يصل إلى الصالون كانت يده الممسكة بنظارة القراءة تلوح باندفاعة مفاجئة "اتفضل يا أستاذ.. (مكنسة الحب)..".

كانت "مكنسة الحب" قصيدة منشورة في المجلة التي جاء بها من نقطته البعيدة كأنه خارج من اليقين إلى الشك. "هو ده الشعر يا أستاذ، مش اللي احنا بنكتبه".

كانت القصيدة نثرية ساخرة في رشاقة تتناقض مع المعمار المهيب لقصائد عبدالعظيم ناجي، أو الذي أريدَ له أن يبدو كذلك، كأنه متحف رأسي في كل طبقة منه حفرية أو قناع من ذهب، أو قارورة لرماد حكاية ما. 

هذا المقال هو تأبين لأعضاء مجموعة شعرية مصرية في التسعينيات. حاولت الخروج عن المألوف في تلك المرحلة، ولاحقاً تحوّل كل فرد منها لمشروع أدبي منفصل، ومكتمل الملامح. 

قرأ ناجي القصيدة عليّ باستغراق تتوتر معه أوتار عنقه، وبأسى هو عادة ثمن غامض للإحساس بالجمال.

لا يعني هذا أن ناجي انقلب على فكرة "الصعوبة"، أو أنه، على ما جرت العادة في التيار النثري التسعيني المصري، كفَر بهذا التمركز حول النص والاحتشاد فيه، مثمناً البساطة ومشاكلة عادية الحياة.

في الواقع كان ناجي، حتى على مستوى الحياة اليومية طامحاً إلى اللعب.. اللعب كمكافأة على الإدراك العميق لمأزق الحياة، أو بالأحرى مأزق الموت. 

الصعيدي "الناشف" 

هل قلت "الموت"؟ إنها الكلمة التي كان ناجي يكتمها دائماً. هذا الصعيدي الناشف الذي أضفى عليه ملمح أرستقراطي يفرضه على الآخرين من خلال مسافة مهذبة، لم يكن يريد الإتيان على ذكر لحظات الضعف. لكن حين تأخذنا السهرة الحميمة إلى لحظة الاعتراف، يأتي صوت ناجي برجاء كرجاء العاشق "ما تغني لنا (يا منية النفس) يا أستاذ مهاب؟".

ثم أعرف فيما بعد أنها الأغنية التي تحمل ذكرى الأخ الأكبر "لقد تعلمت من أخي أن أرفض الحياة الخالية من الجنون، أن أزدريها، وإذا كنا نطرق الحديد الساخن لنعيد تشكيله، فلا بد من استبقاء جسد الحياة ساخناً دائماً لنفرض عليه الشكل الذي نريد".

ألم تكن تلك ترجمة أخرى لهذا الجزء من قصيدته "شجرة الزيزفون هل صارت جرحا":

كان ثمة صوت يؤكد أن مسودة الكون سوف تنقح
أن الحصان الذب كان يدفع مركبة الرب يأخذ بعض الحبوب المنشطة

الحب سوف يقوم بتشجير كل الشوارع 
كي يجد الشعراء مكانا لخلع سراويلهم..

كان الأخ الأكبر قد رحل مبكراً جدا في الثلاثين من عمره، وبقيت فكرة الموت تحدياً حاراً، وفكرة لا تكاد تخلو منها قصيدة من قصائد ناجي خاصة مطولاته. صحيح أن الموت هنا اتخذ بعداً جدلياً في الصيرورة المتجددة، لكن هذه الصيرورة ما معناها على مستوى تجربة الشخص المفرد؟ وبمعنى آخر هل تحل معضلة الموت إدراك أنه انبثاق لحياة أخرى قد لا تكون حياتي؟

لم تكن فكرة "الصيرورة برأيي في قصائد ناجي سوى تصعيد عنيف لضآلة الوجود الشخصي. قد لا تعني الصيرورة كحركة مطلقة ومفروضة سوى عدم مطلق. إنه العدم، أو لحظته التي تتواتر في قصائد ناجي وهو نفسه الذي يمنحها هذا النفس الملحمي.

في لحظة ما اعتبرت أن ناجي يهرب من تأويل الحياة بصناعتها، أو بمعنى آخر بصناعة حياة موازية، ومن ثم كانت طبيعياً أن تحبِك مفاصل نصوصه فكرة البدايات، "يجلس الشاعر والكون وفنجان من القهوة في مقصورة الموتى.." نوع من تأسيس الزمن الخاص، لكن الذي يجتاز كل الأزمنة، ومن تأثيث مكان تدعى إلى ضيافته كل الأمكنة.

من معبد الرامسيوم إلى شارع الخازندار، من نابوليون إلى قمبيز، ومن حرب الخليج إلى أصيص شجيرة البلاذر، ومن رقصة الفوكس تروت إلى صوت المتنبي. حياة ينتقى لها ويصنع له تاريخاً، أو يصبح التاريخ الفعلي عتبة في صيرورته لا أكثر. وبالتالي تصبح تعبيرات الخصوبة واللقاء الجنسي حقيقية ورمزية معاً. فالجمال حضور واكتمال. 

كتب ناصر فرغلي هذه الكلمات في تأبين مهاب نصر، فكانت عن موت شاعرين بدلاً من شاعر، وصديقين بدلاً من صديق، وذكّر بالمقدمة الجميلة التي كتبها نصر للأعمال الكاملة لصاحبه ناجي، ولم يرَ أياً منهما طبعتها في حياته، حيث لا زال المخطوط حبيس الأدراج إلى اليوم  

حين كان بعضنا -على الأقل- يرفض التمركز حول النص، يرفض هو اعتبار التاريخ متضمناً لغاية جمالية تتحقق في النص الشعري، وكأننا نعيش لنكتب الشعر، وكأن الحروب تنشب والفقر يقصب الرقاب ليصنعا سطراً في قصيدة. حين كنا، أو كان بعضنا، يرفض ذلك كله كان ثمة تخوف مضمر من أن تكون القصيدة هي مجرد قناع للشاعر نفسه، الشاعر بصفته وبوجوده الشخصي كإنسان. وكأنه يقول :"أنا كل أولئك الذين في قصيدتي.. لقد وجدوا من أجلي".

من يصدق ذلك؟ لكن ما صنعه ناجي، وما لم أفهمه جيداً في وقتها، لا ينتمي لهذا العبث، وهو عبث اخترق القصيد المصري في السبعينيات على وجه الخصوص.

الأربعائيون 

يمكن أن يكون الشاهد على ذلك شخصي. فقد كان ناجي شخصاً عزوفاً عن الظهور. وحين اضطر إلى لقاء كتاب وشعراء بشكل دوري -بخلاف لقاءات صالونه الأربعائي الذي كان يستضيفه أسبوعياً-، كان يتصل بي أو بأحد أصدقائنا ليكون حاضراً. كان يكرر دائماً أنه يفتقر إلى المهارات الاجتماعية ويسحب نفس سيجارته ثم ينطق عبارته الأثيرة "أنا إنسان مغيّب". لم يروّج ناجي لقصيدته مطلقاً، وبالطبع لم تكن له علاقات الدعم من الوسط الثقافي، ولا بالمؤسسة الرسمية.

ثم كيف يمكن لرجل انقطع عن كتابة الشعر ما يقرب من ربع قرن، قبل أن يعود إليه مجدداً في النصف الثاني من الثمانينيات، أن يقارن بـ"أصحاب المشاريع" سواء نظرنا إلى هذا التوصيف بشكله المقبول أو الانتهازي؟

كانت المتعة هي ما يبحث عنه ناجي، حتى أن البعض نظر إليه كـ"برجوازي". وقد كان في ناجي بالفعل ما يمكن أن يرشح هذه الصفة. نعم.. يمكن رؤيته كروح مدللة تفزع من دناءات الحياة، من قوانينها التافهة، وتقع تحت وطأة الإجهاد النفسي من تعقد التواءات الرغبات والمصالح. هنا في صالونه وبين أصدقائه المقربين -الذين شكلوا بعد ذلك مجموعة محرري مجلة "الأربعائيون" كان يمكن للضحك أن يكون صافياً كالخمر، أن تُقرأ القصائد بإخلاص، أن ينطلق الحوار والغناء عفوياً حتى تلسعنا نسمة باردة من الشرفة التي فتحت أخيراً ليتسرب دخان سجائرنا. 

هل كان ناجي برجوازياُ؟ ربما كان أقرب لبقايا الإقطاعيين الروس الذين تحدث عنهم دوستويفسكي في رواياته، وبقدر ما يقفون على مفصل زمني حاسم مشرفين على نوع من الانهيار، بقدر ما يتحول سؤال الحياة كمتعة سؤالاً وجودياً مهيناً للبروجوازيين الصغار. إنه سؤال من يرى أن علينا أن نسرع بالتصالح ليس لأننا طيبون ولكن لأننا نملك مهلة صغيرة جداً، ومساحة لا يحيطها إلا العدم. وليس غريباً أن يكون ميشكين بطل رواية "الأبله" لدوستويفسكي وصاحب العبارة "كلنا أطفال يا كوليا" هو الشخصية الأثيرة لدى ناجي.

أحببت دائماً أن أسمع قصائد ناجي بصوته الهاديء الذي لا تكاد نبرته تتغير، لكن توتر صدغيه المشدودين يترك بصمة كظيمة على رنة هذا الصوت، فهو لا يقرأ من موقع أعلى من قصيدته، بل كأنه يكتبها من جديد. كأنك هنا خارج الزمن مع قاموسه الثري الذي يصدمك لوهلة، لكنك تستسلم لإغواء الخيال الفريد الذي يبسطه أمامك، فلا تعود الكلمات غريبة بحد ذاتها، بل تسهم في صناعة مناخ غرائبي كأنك -رغم غرائبيته- عشته من قبل، تماماً مثلما تجد نفسك وسط حكايا الجدات متقبلاً لكل نشوز عن الواقع ليس باعتباره نشوزاً، بل باعتباره الممكن القابع وراء الحياة. 

هل كان ناجي برجوازياُ؟ ربما كان أقرب لبقايا الإقطاعيين الروس الذين تحدث عنهم دوستويفسكي في رواياته

كان ناجي، الذي عمل بالتدريس فترة طويلة، يكتب قصائده على أوراق امتحانات لم تُستخدم، وكان ذلك يترك انطباعاً بتناقض بين هذا الصحائف الرسمية، حيث كان ينبغي أن تُطبع الأختام والتواقيع وتلصق أرقام الجلوس الرهيبة، وبين فوران الصيرورة المتهكم في القصائد المستريحة هناك محل إجابات التلاميذ.

تخفي قصيدة ناجي تياراُ من التهكم على كل محاولات السيطرة على الحياة، على الصراع الدموي من أجل احتجازها:

لا تكن صنارة في النهر
كن نهرا

وهو ما يعني ألا تكون كنابليون الذي:

مد يده يمسك بذيل النيل..
التف النيل على ذراعه
وعضه عضة هائلة

من هنا أيضاً يدخل التاريخ الذي تقف على جانبيه "خيل المماليك"من جهة و لوركا وجوركي من الجهة الأخرى. ليست هذه هي الثنائية المعتادة للسلطة في مواجهة الجمال، العنف في مواجهة الفن، الطغاة في مواجهة الشعراء، بل ثنائية الحيازة والتملك كمسعى للحضور أو التطابق الأعمى مع الرغبات، والمتعة التي يخلقها ويحررها الخيال.

بتعبير آخر، يعترف ناجي بالوسيط الذي يقف بيننا وبين العالم، وهذا الوسيط في صورته الموضوعية هو اللغة وفي صورته الذاتية هو الخيال. كل حضور (لقاء مثلاً بين العاشقين) مهدد بالتخثر. في قصيدة "وجهان بينهما الماء.. جسمان بينهما الرماد" تحضر هذه الوساطة . القصيدة المكتوبة على هيئة حوارية طويلة تنتهي بطرد العاشقين من صورتيهما ليعيشا مجدداً، كالأساطير، على هيئة شجير و"جواد شجي الخلاخيل". 

اللغة عوضاً عن الموت

هل هو إنكار للحاضر، إنكار للجسد من أجل تصور مثالي، أو من أجل الكينونة داخل اللغة؟

كينونة العالم المشتقة من اللغة فكرة قديمة، بل فكرة بلغت كثافة عالية في شعر السبعينيات، وذاك أن قصيدة ناجي فيها ما يتقاطع مع جانب من هذا التيار، ولكن بصورة مغايرة. ففي شعر السبعينيات جاءت اللغة (واللغة الشعرية تحديداً) تحدياً شبه سياسي للدوغمائية التي تميز بها الخطاب الجماهيري، ومعه الخطاب الشعري الذي اعتبر مؤكداً على أعراف بليدة ومستقرة ودعائية. السياسة كانت مطمحاً أساسياً، برأيي، في قصيدة السبعينيات، وإن كان مطمحاً مقلوباً.

لدى ناجي تحضر اللغة عوضاً عن الموت. إنها الملعب الآمن، لكنه أيضاً ملعب نحن منفيون فيه. ملعب لا يمكن كسر حاجزه إلا بكسر جرة الحياة نفسها.

في حديثه عن والده كان ثمة صورة تستبقى وتفرض نفسها، صورة كف عريضة استثنائية لهذا الوالد الذي كان يطلب من ابنه قبل النوم أن يستظهر أسطراً من كتبات المنفلوطي وشوقي والمتنبي. هذا الجثمان المهيب للأبوة الثقافية والعضلية انهار فجأة. وهو ما كان يتوقعه ناجي الذي بدا، حين عرفناه أواخر الثمانينيات، صلباً مشدوداً كالعصب.

في قصائد ناجي استعادة لتجربة الحب المعرض -واقعياً- للانتكاس، والمنسحب يوماً وراء آخر إلى عالم العادة والتكرار، عالم الموت. هل كان التوقف عن كتابة الشعر بسبب من الحب؟ وهل الخوف من ترهل نسيجه الحي وراء العودة إلى الكتابة لإعادة خلقه هناك. لا أعني أنه نوستاجيا أو تمسك ساذج بما يتفلت من الحياة، بل قبض على جوهر تجربة الحب ذاتها وإعادة بذرها في تاريخ أكثر رحابة واتساعاً؟ هل الحب مباشرة أم توسط؟ هل يمكن أن يبقى منه شيء إذا انتزع منه العمود الفقري للخيال؟

عرف ناجي الاسكندرية أيضاً في لحظة مشرفة على الموت، أو كنوع من الموت، كانت المدينة عقب ثورة يوليو تغير إهابها، البانسيونات والخواجات وحفلات الرقص، إيليت وباسترودس ولاجلون. هنا، ومنذ أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، عاش الشاب الصعديدي ابن العائلة الميسورة كنبيل وجامع للتحف، متشبثاً بأسطورته الخاصة عن عالم أشبه برقصة، حيث يحافظ الراقصان على مسافة يبتكران فيها وجودهما، مرة بعد أخرى. 

في صالون ناجي الأدبي وبين أصدقائه المقربين -الذين شكلوا بعد ذلك مجموعة محرري مجلة "الأربعائيون" كان يمكن للضحك أن يكون صافياً كالخمر، أن تُقرأ القصائد بإخلاص، أن ينطلق الحوار والغناء عفوياً 

في عام 1990 عاد الصديق الشاعر ناصر فرغلي من لندن، حيث كان يعمل في إحدى الفضائيات الشهيرة، وخلال سهرة طويلة ألقى باقتراحه "ليه ما نطلعش مجلة؟" كانت لقاءاتنا: ناجي وناصر وحميدة عبدالله قد استصفت هذا الرباعي "الأربعائي" لأسباب لا تتجاوز التقارب الإنساني الذي يبدو الآن من الصعب فهمه، كما كان صعباً فهمه على من تعرف إلى المجموعة من خارجها. في اليوم التالي كان الاقتراح يناقش بيننا في منزل ناجي، وكأننا نجهز لحفل، لنوع من التتويج للصداقة أكثر مما هو تحضير لمواجهة أو صراع مع وسط ما.

بالطبع كان ثمة ذائقة مشتركة وأفكارا تقاربت. المجلة، التي أسميناها "الأربعائيون" عرفاناً للقائنا الأسبوعي كانت نقلة لنا جميعاً. خرج ناجي من صالونه إلى المقهى، التقى جيلاً جديداً كانت له معركته الخاصة. وفي الوقت الذي كان يكتب فيه ناجي قصيدة "القيد" كمرثية موجعة للمآلات العربية بعد حرب الخليج، بدت هذه الحرب نفسها وكأنها إزاحة أخيرة لأوهام تاريخية نفضها، أو هكذا تصور، جيل آخر. قصيدة لا تحتفي بالترميز، ولا تعطي لوجود الفرد تلك الأبعاد الممتدة في صيرورة التاريخ. جمل حادة بتركيب لغوي بسيط وجارح، وحتى مبتذل. براءة حقيقية ومتصنعة أيضاً. الكلمات تحضر كالأشياء أو عوضاً عنها مباشرة متخلصة من كل إحالة أو ظل. بالطبع ليست هذه وصفة يمكن أن تنطبق على تيار بعينه ولكنها خطوط عريضة لقواسم مشتركة.

انتقل ناجي من القصيدة التفعيلية أو من نسقها الغنائي، إلى القصيدة النثرية القصيرة. بدا أكثر تهكماً دون أن يتخلى عن صوره السوريالية. وقبل رحيله بأعوام قليلة كان قد بدأ يكتب أول رواية له، والتي لا أعلم ما مصيرها إلى الآن.

صوت ناجي لا يصاحبني فقط. فأحياناً أجد نفسي مردداً عبارة له بصوته وأدائه. ثم أقرأ لنفسي أيضاً "كان ثمة صوت يؤكد أن مسودة الكون سوف تنقح".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image