شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
يوم المرأة في غزة... وعشر نساء لن يغادرن ذاكرتنا

يوم المرأة في غزة... وعشر نساء لن يغادرن ذاكرتنا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الجمعة 8 مارس 202410:41 ص

في مثل هذا اليوم من كلّ عام، يحيي العالم يوم المرأة العالميّ. توزع الورود على النساء في أماكن عملهنّ، يُحتفى بهن وبإنجازاتهن، ويسلط الضوء عليهن وعلى قضاياهنّ. لكن كيف هو شكل هذا اليوم في الوقت الذي يشهد هذا العالم إبادة بالبثّ الحيّ بحق أهل غزّة ونسائها من الأمّهات، العاملات، الجدّات، الصحفيّات، الشاعرات. كيف هو شكل هذا النّهار ونحن نحصي حتّى اللحظة 9 آلاف امرأة شهيدة، وأخريات عالقات تحت ركام المدينة، و37 أمّاً تُقتل كلّ يوم، ونحن نشاهد شهادات متتابعة لأمّهات ينجبن تحت القصف، لحوامل يعانين من سوء التغذية ولا يتلقّين الرّعاية، لأسيرات يتعرّضن للتعرية والتعذيب والضّرب. يبدو أنّنا، مع هذا اليوم أو من دونه، سنظلّ ننتظر اللحظة التي تتحقّق فيها الحقوق الأساسيّة للمرأة الغزّيّة، وعلى رأسها حقّها بالحياة. نستعرض هنا قصص عشر نساء فلسطينيّات غزّيّات، منهنّ من استشهدن خلال الحرب المستمرّة على غزّة وتركن قصصهنّ وراءهنّ، ومنهنّ من يزلن على قيد الحياة ليروين شهاداتهنّ للتاريخ.


هادية نصّار: "أنا أقدم من إسرائيل"

"فلسطين أرضنا، أنا متمسكة بالأرض، بلدي لو شحت عليا مريا وأهلي لو قسيوا عليا حناين". الحاجة هادية نصار، في روحها مستودع من الذكريات، وفي تجاعيد وجهها شهادات شخصيّة منذ النكبة، فالنكسة، فالحروب المتتالية. قهرتها هذه الأخيرة فأعادت إلى ذاكرتها ألم اللجوء والتهجير القسريّ. ولدت عام 1944، فكانت طفلة حين وقعت النكبة، لكنها لم تنس مكانها الأوّل وأهله.

تعرّفنا إلى وجهها الجميل وعينيها الخضراوين، بعدما نشر الناشط صالح الجعفراوي مقطعاً لها خلال تلقّيها العلاج في المشفى، يسألها صالح عن تاريخ ميلادها، فتقول: "آه أنا أقدم من إسرائيل". ثمّ نرى صورة لها مع فرنها الذي لا تزال تخبز فيه منذ 25 عاماً. نجت هادية نصّار من المرّة الأولى التي تعرّضت فيها للقصف. إلّا أنّها لم تنجُ من الثانية، فرحلت تاركةً جملتها هذه في ذاكرتنا.

روان حسن"شعره كيرلي وأبيضاني وحلو"

تركض في ردهة المشفى وسط رائحة الدماء التي تملأ المكان، تسأل تجمّعاً للأطبّاء، لتسأل إن رأى ابنها أحد. فتقول بصوت مرتجف: "شعره كيرلي وأبيضاني وحلو". تبحث، برفقة زوجها الطبيب الذي كان على رأس عمله حين علم بقصف بيتهم، عن ابنهما يوسف. في هذا الفيديو التوثيقيّ الذي يبدو مثل قصّة رعب قصيرة، نرى روان تنهار فوق كرسيّ في الرّدهة، ثمّ والده وهو ينظر في كاميرا أحد المصوّرين الذين تواجدوا في المكان، فيساوره الشّك. ثمّ نشاهده، متّجهاً نحو المشرحة، ليجد ابنه شهيداً. في مقابلة لاحقة معها، تقول روان:"بحمد الله إنه ما صار أشلاء.. بس أصيب بجرح في خده الأيمن. خلص راحت روحه، لكن وجهه الحلو رح يضل ببالي".

وسام رجب: "كيف بدي أرجع على البيت بدونها"؟

أسرت قصّة الطفلة "هند"، التي حاصرتها دبابات الاحتلال وقتلتها مع أفراد آخرين من أسرتها داخل سيّارتهم، قلوب الملايين. والدتها وسام، تناديها "هنّودة". كانت تضع رأسها على الوسادة ليلاً فتحلم بطفلتها بنت السادسة، وهي تقول لها: "ماما أنا بخير تعالي خديني". فكان ذلك الحلم سلواها الوحيد في لحظة الرعب هذه. مرّت أيّام ووسام تنتظر المعجزة التي ستجلب لها خبر نجاة ابنتها بعد أن انطلق مسعفين من الهلال الأحمر إلى المنطقة، لتنقطع أخبارهما، أيضاً، فيشتدّ القلق. نسمع خلال أيّام الأمل بالنجاة، وعبر وسائل التواص الاجتماعيّ، مكالمة هاتفيّة بين هند ورنا، الموظّفة في الهلال الأحمر، تخبرها فيها هند بأنّ من معها ماتوا وبأنّ الدبابة تتحرّك أمام السّيارة: "الدبابة قريبة كتير.. خليك معي لا تفصلي، خليك أمانة. الدنيا ليّلت. تعالي خديني".

ثمّ ينقطع الاتصال، ويتوقّف صوت هند إلى الأبد. 12 يوماً من الفزع الذي انتهى باستشهادها هي وخمسة أفراد من عائلتها ومسعفي الهلال الأحمر الذين ذهبوا لإنقاذها. لقد كانت أمنية هند الوحيدة أن تعود إلى البيت وتأكل البيتزا. لكنها رجعت إلى أمّها شهيدة: "حرموني إياها. كان أملها ترجع ع البيت. كيف بدي أرجع على البيت بدونها؟ مش متخيلة، شو ذنب بنتي ترتعب؟ شو ذنب المسعفين؟ ليش يموتوا؟"

لقد كانت أمنية هند الوحيدة أن تعود إلى البيت وتأكل البيتزا. لكنها رجعت إلى أمّها شهيدة: حرموني إياها. كان أملها ترجع ع البيت. كيف بدي أرجع على البيت بدونها؟

نسرين عبّاس: "جرّدوني من ملابسي وذهبي وأموالي"

نزحت نسرين إلى مستشفى ناصر الطبيّ ظنّاً منها بأنّه مكان آمن. مكثت هناك 25 يوماً قبل أن يقتحم الجيش الإسرائيليّ المستشفى عند منتصف الليل ويطلب من الجميع إخلاءه. قصف الجيش أحد مباني المجمّع واستشهد كثيرون. في شهادتها، تقول نسرين: "من الساعة الثانية للأربعة الفجر وإحنا على الحاجز، بننشتم بأفظع الشتائم. كنت ماسكة إيد الحج، حكولي تعالي. اعتقلوني وجردوني من ملابسي بالبرد، وخلوني حافية، صليت الفجر وأنا مقيدة اليدين ومعصوبة الأعين".

لم تنس نسرين لحظات الاعتقال تلك، أربع ساعات من المهانة ستظل عالقة في ذهنها حتّى آخر عمرها. اعتقلوا ولديها، وسرق الجنود "تحويشة عمرها" 7 آلاف دينار أرديني، وذهبها. وحين طلبت منهم مقتنياتها رفضوا إرجاعها. مشت نسرين حافية القدمين حتّى وصلت إلى مخيّم اللاجئين الذي تقيم فيه.


رانيا أبو عنزة: "راحت الحياة"

"راحت الحياة. راحوا. رحت يمّا يا قلبي. وزوجي راح. مش خسارة في ربنا"، هكذا صبّرت نفسها الأمّ والزّوجة رانيا أبو عنزة بعدما فقدت زوجها وتوأمها "سوسو" و"أبو الورد"، الذين أنجبتهما في الحرب، وقبل ميعاد الإنجاب بسبب قصف قريب من بيتها. وبعد محاولات تلقيح دامت نحو عشر سنوات. غارة استهدفت مدينة رفح جنوبيّ القطاع، أنهت معنى الأسرة والأمومة لدى رانيا. نراها تحمل توأمها وتقول: "صورلي هالقمر، أمانة صورلي... يسعد عينه أبو الورد.. رحت يما يا قلبي. رحت يا سوسو". هكذا تودّعهما، وتلقي عليهما نظرةً آخيرة، وتضع على جبينهما قبلةً أخيرة: "الله يسهل عليكم، والله ما شبعت منهم، مين بده يعوضني؟ راحوا مع أبوهم".

أميرة العسّولي: "لما حد يحتاج مساعدتي مش رح أفكر بنفسي"

قيل عنها الطبيبة الفدائية، أميرة العسّولي التي انتشر فيديو تظهر فيه غير آبهة لطلقات الرصاص الموجّهة من طائرة "الكواد كابتر" نحو مدخل مجمّع ناصر الطبيّ، فتخلع سترتها وتركض، عابرةً المدخل، لإنقاذ جريح في الجهة المقابلة. "ربنا نزع الخوف من قلبي، وقتها لما حسيت إنه حد محتاج لمساعدتي مش رح أفكر بنفسي"، تقول. قبل الحرب، أقامت في القاهرة لتدرس علم الأجنّة، لكنّها لبّت نداء بلدها وعادت إلى غزّة. قُصف بيت عائلتها ثلاث مرّات، واستشهدت والداتها الثمانينيّة تحت أنقاض المنزل. أمّا هي، فبقيت صامدة في المشفى، تؤدي وظيفتها دون فريق تمريضيّ.

يا تُرى ما شكل النص الذي كانت ستكتبه الشّاعرة والكاتبة هبة أبو ندى لو أنّها نجت تلك الليلة من الحزام الناري المرعب؟ لو أنّ ما كتبته على صفحتها في "فيسبوك" لم يكن من بين كتاباتها الأخيرة: "في الجنّة توجد غزّة جديدة بلا حصار، تتشكّل الآن"

عهد بسيسو... بُترت رجلها على طاولة المطبخ

على طاولة المطبخ، بسكّين فواكه، بليفة وصابون لتنظيف الأواني، يجري العمّ عمليّة جراحيّة لبتر قدم ابنة أخيه عهد بسيسو. انتشر الفيديو الذي يوثّق العمليّة، فلاقى تعاطفاً واسعاً مع الشّابة عهد (18عاماً). نرى العمّ، الطبيب هاني بسيسو، ينظّف مكان البتر، ويقول أمام الكاميرا: "قصفونا. وتتصورا أنا بعمل بتر لرجلها بالدار، إيش اليهود بدهم منا؟ إيش الظلم الواقع علينا؟". ويضيف: "ما كان عندي خيار. يا إمّا أسيبها تستشهد أو أعمل بتر للرجل بإمكانات صفر".

كانت عهد ترغب في محادثة والدها المغترب منذ ستّ سنوات عبر الهاتف. فصعدت إلى الطابق السادس لالتقاط إشارة. لكن قذائف الدبابة الموجهة طالتها، تقول: "لما انصبت قعدت ماما على ركبها تشيل عني الشظايا وأنا مكنتش حاسة برجلي. شالوا العجين من الطاولة وحطوني. وصار عمي يليّف رجلي بالليفة ودوا الجلي وبترها بدون بنج". ظلّت عهد وعائلتها محاصرين في منزلهم بعد إصابتها وبتر قدمها. وبعد أيّام قرر عمّها الطبيب أن يرتدي مريوله الطبيّ، يحملها، ويتوجّه للجنود الإسرائيليين ليقول لهم: "هي البنت مصابة يا بتقتولنا إحنا الاثنين يا إمّا بتعالجوها". ومن حسن حظهم أن القوات انسحبت في اليوم التالي، فتمكّنا من الوصول إلى المشفى.

هبة أبو ندى: "في الجنّة توجد غزّة جديدة بلا حصار، تتشكّل الآن"

يا تُرى ما شكل النص الذي كانت ستكتبه الشّاعرة والكاتبة هبة أبو ندى لو أنّها نجت تلك الليلة من الحزام الناري المرعب؟ لو أنّ ما كتبته على صفحتها في "فيسبوك" لم يكن من بين كتاباتها الأخيرة: "في الجنّة توجد غزّة جديدة بلا حصار، تتشكّل الآن". "نحن بالكاد أحياء، وبالكاد ننجو. يعلم الله ذلك. لكننا حفظنا عن غيب أسماء الذين خذلونا، والذين نصرونا ليسوا بالذاكرة، بل بالأبدية. سنحملهم في نعوشنا حين نموت، سنحملهم حتى ينهزم الباطل وينتصر الحق".

أصدرت أبو ندى رواية "الأكسجين ليس للموتى" (2017)، وشاركت في عدد من الإصدارات الشعرية المشتركة، منها: "أبجدية القيد الأخير"، و"العصف المأكول"، و"شاعر غزة". استشهدت بعد استهداف منزلها في غزّة، فنازعت روحها تحت الأنقاض وغادرتنا إلى الأبد.

إحنا مش موضوعين في خيار بين الانهزام والصمود. إحنا نولدنا في هاي الظروف

هالة خريس... الجدّة التي أعدّت طعام عائلتها قبل قنصها

أثناء رحلة النزوح نحو الجنوب، المحفوفة بالمخاطر والأمل بالنجاة، مشت هالة خريس برفقة حفيدها، يحملان راية بيضاء كي يعبرا إلى "منطقة أكثر أمناً". فباغتتهما رصاصة قنّاص إسرائيليّ أردت الجدّة هالة قتيلة، ليركض تيم، الحفيد، إلى الوراء من صدمته وهلعه. تروي ابنتها سارة، ذكريات اليوم الأخير. فتستذكر والدتها وهي تعدّ لهم الخبز والإفطار الصباحيّ، على الرغم من الصراخ من حولهم لحظة هاجمت الدبابات الإسرائيليّة مدرسة إيواء تابعة للأونروا. أصرت الجدّة أن يتناولوا طعامهم أولاً، قبل أن ينزحوا نحو الجنوب. بدأ النزوح بعد أن تأكّدوا بأنّ هناك تنسيق من الصليب الأحمر يأمّن لهم الطريق. لم تنس سارة لحظة إطلاق الرّصاصة، تقول بصوت مقهور: مش قادرة أنسى صوتها. مش قادر يفارقني، مكنتش أعرف إنّه الرصاصة لأمي". أكمل تيم (5 سنوات) طريق نزوحه مع أناس لا يعرفهم. لتعاود العائلة إيجاده هناك.

بيسان عودة... حكواتيّة الجمال والقهر

حكواتيّة جابت غزّة قبل الحرب، لتحكي عن جمالها، عن مزارع الفراولة في بيت لاهيا، عن مواقعها الأثريّة، عن سوقها. لكن شتّان ما بين المحتوى الذي نشرته قبل الحرب، وبين يوميّات القصف والنزوح والتهجير التي تدوّنها، عبر الفيديو، على صفحتها في إنستاغرام. تقول بيسان، التي بات يتابعها الملايين: "لما تخلص الحرب بدي أروح على بيتي مشي. بعدها بدي أنظف كل بيوت الناس الحزينة. بدي آكل كل الأكلات اللي بحبها. بدي أنام على سرير، وأشرب كاسة شاي ببيتي". وفي آخر مقابلة معها عبر قناة الجزيرة قالت: "أنا ما كنت بقدّر الحياة زي ما بقدّرها الآن. كنت بدي أوصل آخر العالم، بس ما كنت شايفة إنه غزّة فيها كل شيء". "إحنا مش موضوعين في خيار بين الانهزام والصمود. إحنا نولدنا في هاي الظروف. ما بقدر أحكي بعد 150 يوم إنه شعبي فقط صامد".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image