شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
حكاية

حكاية "الممثلة" عبد الوهاب… خفايا "المذكرات الوحيدة"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع

الجمعة 1 مارس 202411:35 ص

"وقد حدث أن احتاجت الفرقة إلى ممثلة لتقوم بدور فتاة صغيرة اسمها ‘آدا‘ في رواية ‘الموت المدني‘، فحارت الإدارة في البحث عمن تضطلع بالدور، وأخيراً استقر الرأي على إسناد الدور إليّ، فوافقت على ذلك، وهل كانت لي في ذلك الوقت إرادة؟ وأعددت الملابس الحريمي، وحفظت الدور عن ظهر قلب وأديت البروفات على ما يجب، ومثلنا الرواية في القاهرة ونجحت والحمد لله!".

المتحدث هو محمد عبد الوهاب، "موسيقار الأجيال" ذاته، الذي يُعد لدى الكثيرين أهم ظاهرة موسيقية عربية في القرن العشرين، لجمعه بين عظمة الصوت وعبقرية الألحان، والتجديد الموسيقى وطول مدة "الخدمة" الفنية التي امتدت لأكثر من 70 عاماً، منذ بدأ عمله الاحترافي عام 1917 إلى وفاته سنة 1991. أما الحكاية فقد وردت في حلقات المذكرات التي كتبها عبد الوهاب بنفسه على مرتين، الأولى في "مجلة الإثنين" سنة 1938، والثانية في "الكواكب" عام 1954، وعلى الرغم من تعدد الكتب والبرامج التي تناولت حياة عبد الوهاب، فإن هذه هي المذكرات "الوحيدة" التي خطّها قلم صاحب الجندول، كما يؤكد محرر ومحقق الكتاب، الناقد الفني البارز محمد دياب، في لقاء خاص على هامش توقيع كتابه "مذكرات الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب" الصادر حديثاً عن دار المرايا خلال معرض القاهرة للكتاب.

لا تتوقف حكاية عبد الوهاب عند براعته في أداء دور "فتاة"، بل يقع في غرامه (كممثلة) في إحدى رحلات الفرقة إلى الصعيد "شاب وسيم الطلعة زي القمر"، ويصر على التعرف "إليها"، بل ينتظر الفرقة على رصيف القطار أملا في أن يحظى بنظرةٍ من "محبوبته"!

 يفرّق دياب بين كتابه وبين كتاب فاروق جويدة "رحلتي: الأوراق الخاصة جداً" الذي كان جمعاً لبعض خواطر "الأستاذ" المدونة في أوراقه، أما في مقدمة الكتاب الذي حققه دياب، فيفرق بين كتابه وبين عدد آخر من الإصدارات التي تناولت حياة الموسيقار، مثل كتاب محمود عوض "محمد عبد الوهاب الذي لا يعرفه أحد"، أو النسخة التلفزيونية: "النهر الخالد" مع الكاتب سعد الدين وهبة عام 1986، أو البرنامج الإذاعي "حياتي" عبر "صوت العرب" في رمضان 1962.

نحن هنا إذن أمام المذكرات التي خطها عبد الوهاب في "مجلة الإثنين" على مدار 19 حلقة عام 1938، وانقطع عنها بسبب سفره إلى أوروبا في باخرة الملكة نازلي "وسافرت معاها، وده طبعاً ماكانش حب فيّا بقدر ما كان رغبة منها في إثارة غيرة أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي"، كما يقول عبد الوهاب في تصريحات لاحقة – بعد انتهاء الملكية بالطبع - مع المنتج مجدي العمروسي، ثم ينتظر 16 عاماً أخرى لينشر 23 حلقة جديدة في مجلة "الكواكب" من نيسان/ أبريل إلى أيلول/ سبتمبر 1954. 

على أهمية تلك المذكرات، لا يفوت المحقق أن يحذرنا من أن عبد الوهاب "كان يغفل ذكر أمور ووقائع، أو يذكر بعضها على غير حقيقتها سهواً أو عمداً، بسبب رغبته الملحة في جعل سنِّهِ أصغر ببضعة أعوام، أو من أجل الحفاظ على صورته الأيقونية موسيقاراً للشرق". لهذا، يقدم دياب في المقدمة "صورة موثقة مختصرة عن حياة الموسيقار الكبير"، اعتمد فيها على "مراجع وشهادات مهمة لمن عاصروه في بداياته الأولى"، ومنها أن تاريخ ميلاده الحقيقي يعود إلى العام 1902، وليس إلى 1910 - التاريخ المدون في جواز سفره الذي استخرجه عام 1927 ليتمكن من السفر مع أمير الشعراء أحمد شوقي إلى أوروبا. ويوثق الكتاب هذا التاريخ "الأكثر منطقية" بما ذكرته الدكتورة السوفياتية إيزابيلا روبينوفا للموسيقار سليم سحاب، ودوّنه شقيقه الدكتور فكتور سحاب في كتابه: "محمد عبد الوهاب سيرة موسيقية"، قائلةً إن عبد الوهاب هو من أخبرها بأن تاريخ مولده الحقيقي 1902 لإثباته في كتابها العلمي "دراسات في الموسيقى العربية".

يحذرنا محقق الكتاب إذن ويضع لنا سيرة موثقة، ثم ننتقل إلى حلقات المذكرات نفسها، لنستمتع بما يتجاوز سنوات التاريخ الموثقة، بلمحات من عصر مضى، ولقطات من خفة ظل عبد الوهاب، وحكايات لم تعد تتصورها أجيال اليوم، فالفتى الذي كان يغني بين فصول مسرحيات فرقة عبد الرحمن رشدي، والذي لم يستطع أن يرفض تأدية دور الفتاة (وهو أمر لم يكن نادراً في هذا العصر بدايات القرن العشرين)، لا تتوقف حكايته عند براعته في أداء الدور، بل يقع في غرامه (كممثلة) في إحدى رحلات الفرقة إلى الصعيد "شاب وسيم الطلعة زي القمر"، ويصر على التعرف "إليها"، بل ينتظر الفرقة على رصيف القطار أملا في أن يحظى بنظرةٍ من "محبوبته"!


ويبدو أن تلك القصة قد زرعت في من صار موسيقار الشرق صدمة من التمثيل، فقد اعترض بشدة حين عرض عليه المخرج الرائد محمد كريم تقديم بطولة سينمائية لفيلم غنائي - "كانت دهشتي ستكون أقل لو أنه سألني مثلاً: لماذا لا أجعل نفسي رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية؟"، بالطبع، نحن نعرف أن العرض الذي قدّمه كريم قد تحقق بعد أن سكن في نفسه مثل "ميكروب" على حد وصفه، سرعان ما تحوّل – كما أخبرنا التاريخ – إلى نجاح ساحق لم يعرف الشرق مثله، بالأفلام الغنائية "الوردة البيضاء" و"دموع الحب" و"يوم سعيد".

لكن الأهم هو كيف فكّر عبد الوهاب في الأغنيات المناسبة لتلك الأفلام، والتي لا بد أن تختلف عن غناء التطريب "على التخت في الحفلات والأفراح"، "لقد فكّرت كثيراً وانتهيت إلى أن الغناء في السينما يجب أن يكون كمناظر السينما نفسها، يقوم على التركيز والسرعة وإعطاء الجو الملائم مباشرةً دون تمهيد". 

عبد الوهاب "كان يغفل ذكر أمور ووقائع، أو يذكر بعضها على غير حقيقتها سهواً أو عمداً، بسبب رغبته الملحة في جعل سنِّهِ أصغر ببضعة أعوام، أو من أجل الحفاظ على صورته الأيقونية موسيقاراً للشرق

بوصفه شاهداً على القرن العشرين، وأحد أبرز صناع ذاكرته الموسيقية، تموج المذكرات بحكايات أبرز رموز ذلك العصر، منذ خسائر سيد درويش المادية في بعض أعظم مسرحياته مثل "الباروكة" و"شهرزاد"، وهي الخسائر التي كادت تنهي مستقبل عبد الوهاب – المغني الصغير في الفرقة – قبل أن يبدأ وتوجهه إلى الوظيفة الحكومية، إلى "طيبة" الزعيم الوطني البارز مصطفى النحاس الذي حضر العرض الأول لفيلم "الوردة البيضاء" وبارك لعبد الوهاب متوقعاً أن يجني أرباحاً في تلك الليلة تصل إلى "50 ألفاً من الجنيهات"، وأبدى دهشة عظيمة حين عرف أن هذا مستحيل، وأن أقصى إيرادات لحفلات الفيلم الأربع لن تتجاوز 400 جنيهاً (نتحدث عن سنة 1933). أما قصصه المتعددة مع الشاعر أحمد شوقي، صديقه الأكبر وراعيه، فأكثرها رعباً بلا شك، حين حاول شابان اغتيال أمير الشعراء أثناء سيره مع عبد الوهاب في ميدان الإسماعيلية (التحرير حالياً) لظنِّهما أنه "صاحب الدولة" عبد الخالق ثروت باشا. 

وتعلِّمنا المذكرات أيضاً أن براعة صاحب "عاشق الروح" في التلحين لم تأت من تلقاء نفسها ولم يقتنع بها الآخرون فوراً، بل كانت نتاج جهد وقراراً ذاتياً، وفرصة منحتها له فرقة نجيب الريحاني. أما القصة المتداولة عن أن عبد الوهاب كان "يلحّن الجرنان" فتخبرنا المذكرات أنها ليست أسطورة، بل يذكر عبد الوهاب أوّل "خبر" لحّنه، وهو رسالة خبرية نشرت في جريدة المقطم سنة 1916 من مكتب الجريدة في الفيوم. أما قصيدة "الجندول" التي صارت أحد أشهر ألحانه، فقد تسببت في أحد أشد المواقف إحراجاً، فقد قرأها في جريدة الأهرام وأعجب بها وبدأ تلحينها، وقرر الاتصال بمؤلِّفها علي محمود طه، ولكنه بدلاً من ذلك يتصل خطأً بالشاعر محمود حسن إسماعيل طالباً منه تلحين قصيدته، وبعد الفرحة الكبيرة التي أبداها إسماعيل لا يلبث أن يدرك سوء التفاهم حين يسأله عبد الوهاب عن عبارة "ذهبي الشعر شرقي السمات" فيقول إنها ليست قصيدته، ولا تجيبنا المذكرات عمّا إذا عبد الوهاب قد سأل الشاعر الأصلي وماذا كانت إجابته، ولكنها تخبرنا عن إعجاب عميد الأدب العربي طه حسين بالأغنية، ونصيحته لعبد الوهاب بـ"المضي في هذا الطريق"، وهو ما تحقق، بتلحين "كليوباترا" و"الكرنك" في ما بعد، وهي قصة تبينّ تعدد  المعاني في الحدث الواحد، فبينما رأى البعض في تلك الأغاني ملمحاً مصرياً للألحان، كان  عبد الوهاب قد وجد في تلك القصائد "تحقيقاً للفكرة التي تراودني، فأستطيع أن أغني كلاماً طويلاً دون أن ألجأ إلى التطويل والإعادة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image