وقفن على خشبة المسرح ومددن أيديهن للسماء في ثبات. وراحت أجسادهن تتحرك برشاقة ممزوجة بالحرية والهدوء. بدون كأنهن يرتفعن كما الريشة في الهواء بين الأرض والسماء. تلك الحرية التي يشعرن بها كلما رقصن كانت كافية لدفعهن للتفكير في إنشاء فرقتهن المستقلة للرقص باسم "دوري" التي يحمل اسمها خطاباً موجهاً لسواهن من النساء ودعوة للرقص والدوران.
وسط أضواء القاهرة التاريخية ,بدءاً من قبة الغوري بمنطقة الأزهر، انطلقت فرقة دوري التي صار بيتها الآن بيت السناري بمنطقة السيدة زينب.
في قبة الغوري تناغمت الموسيقى مع الإيقاع الحركي، حينما تهادت فتيات دوري أمام جمهور من المغرمين بموسيقى الإنشاد الصوفي. هنا كانت بداية الرحلة انطلاقاً من مهرجان سماع الدولي في دورته السادسة عشرة، التي شهدت أول ظهور رسمي للفرقة النسائية التي أثرت منذ ظهورها جدلاً وغضباً كفرقة مولوية من النساء يرفضها المتصوفون ويعتبرون محض وجودها "جريمة".
ألزمت إدارة مهرجان سماع بنات فرقة "دوري" بخط معيّن للرقص نظراً لسمات المهرجان المعني بالإنشاد الديني والذي يستضيف فرق إنشاد إسلامية وترانيم مسيحية من مختلف أنحاء العالم؛ فكان عليهن أن يدرن كما لو كن في حلقة ذكر، مرتديات التنانير البيضاء الواسعة، وقوبلن بصيحات الاستهجان والنفور، ما دفعهن للاستمرار والمواصلة لتحدي ما يرينه احتكاراً من الرجال لذلك الفن.
بدأت سارة كامل مدربة رقصات الدوران بالتخطيط لتأسيس فرقتها التي حملت لاحقاً اسم "دوري" فخاطبت صديقتها الممثلة الشابة أفنان شاهر وبدأتا معاً تأسيس الفرقة التي التقت عضواتها المؤسسات أثناء المشاركة في مهرجان سماع وقررن استكمال الرحلة كفريق فني مستقل يقدم عروض "الدوران" كما أسمينه بنفس الزي المعبر عن طقس المولوية الصوفي وبدأت الشابتان في تنظيم فرقة وتحديد توجهها.
فرقة "دوران" وليست "مولوية"
"نحن لسنا فرقة مولوية بالمعنى الدقيق للكلمة، لكننا نقدم الدوران بطريقة مبتكرة وصياغة من تصميمنا الخاص، لقد أخذنا من الدوران الذي يمثل حركة الكواكب والنجوم طريقة لنا في التعبير عن أنوثتنا، نطلق العنان لأجسادنا وندور لنتفاعل مع الطبيعة بالحركة، كل ما نفعله إننا ندور"، بهذه الكلمات تحكي سارة كامل، مؤسسة الفرقة لرصيف22 عن هدفها من تأسيس الفرقة، وترفض تماماً وصف بعض وسائل الإعلام لهن بأنهن أول فرقة مولوية من النساء في مصر.
تكوّنت الفرقة في البداية من 7 عضوات واستقرت الآن على 5 فقط. عكفت سارة على ضم الفتيات اللائي تعلمن منها ما تسميه "الدوران"، بعد مرور سنة ونصف من تدريب شابات وشباب على هذا الفن، كان الذكور ينضمون لفرق المولوية أو فرق الإنشاد الديني المتنوعة والمنتشرة في مصر، بينما تقف رحلة الإناث عند انتهاء دورة التدريب فقط، لأن فرق الإنشاد الصوفي ترفض إلحاق الإناث بها لعروض الحركة، فهم يرون أن هذه العروض للرجال فقط، هنا خطر لها إنشاء فرقة لهن، لكن ظلت الفكرة حبيسة مخيلتها حتى حان وقت خروجها.
اكتشفت سارة تعلقها بما تدعوه "الدوران"، أثناء تدريبها بورشة كانت تحضرها للراقص أحمد برعي عام 2018، فلمدة 45 دقيقة متواصلة ظلت تدور من دون الشعور بالدوار، "شعرت حينها أن الدوران ليس غريباً عني، بل جزء من أعماق روحي وهو ما لم أكن أعرفه عن نفسي من قبل"، تضيف: "راقبت بدقة تناسق حركة الشبان مع صوت الموسيقى وأنوار المصابيح، والهدوء الذي يغمر خشبة المسرح العامرة بالحركة، كان يدعوني للمغامرة، وحينما خضت التجربة نفسها تخلصت من الشعور بالكآبة الذي قادني من قبل للتفكير في إنهاء حياتي، حينما شعرت أنها ثقيلة على نفسي ولا أستطيع البقاء فيها".
رفض ومؤامرة ودين جديد
لم ترحب عائلة سارة بفكرة فرقة دوري، واتفقت انطباعاتهم مع انطباعات الفرق التي ترفض مشاركة النساء في فرق الإنشاد والمولوية ويرون في ذلك خروجاً على صحيح الدين. تقول سارة إن دراستها للفلسفة أهلتها للرد على كل تلك التعليقات من أسرتها وأصدقائها، وزاد عزمها على الاستمرار "فرضت رغبتي كأمر واقع رغم الاتهامات التي نتعرض لها كل يوم، بأننا مثلاً فرقة ماسونية، أو خطة شيطانية، أو شبكة لخرق الأعراف الدينية والاجتماعية ممولة من الخارج، أو أن الفرقة مؤامرة على مصر أو الدين الإسلامي أو أنها دين جديد".
لم تستقر الفرقة على تحديد جنسية العضوات، خاصة بعد تلقي طلبات عدة من شابات من جنسيات مختلفة يدرسن ويقمن في مصر، راغبات في الالتحاق بالفرقة، كذلك تسعى "دوري"، لأن يكون لها موسيقى مستقلة وأغان خاصة، تصنع لهن مذاقاً أنثوياً رفيعاً، انطلاقاً من فكرة اندماج جسد الأنثى مع الطبيعة وتضيف: "هناك مشاعر أنثوية تخرج أثناء الدوران ولا ندور بشكل عشوائي نحن نصمم حركات ينساب فيها الجسد مع الروح والنفس، نغير فيها من مشاعرنا ونبدل نفوسنا بنفوس جديدة كأنها ولدت اليوم، نصمم رقصة خاصة بنا هدفها اكتشاف الأنثى لجسدها، نؤديها على أغاني ريم بنا أو غالية بن علي".
العلاج بالرقص
تخرجت سارة في كلية الآداب قسم الجغرافيا عام 2015، وقادها الشغف بـ"الدوران" والفلسفة إلى دراسة العلاج بالرقص والحركة، في دبلوم دراسي مدته ست سنوات في جامعة هليوبوليس المصرية، "الدوران بالنسبة لي هندسة مقدسة، مقتبسة من هندسة النظام الكوني الذي نعيش كلنا تحت مظلته من العدم إلى الدخان إلى قطعة الصلصال إلى بلايين النجوم إلى الخلية الحية".
تقول عن الدوران أنه فرصة لكل امرأة تريد مداواة شرخ نفسي في روحها، وفرصة لكل امرأة لديها رغبة في اكتشاف جسدها، وفرصة للخروج من الشعور بالكآبة. على كل أنثى أن تعطي نفسها المساحة لفهم جسدها وأنوثتها، وتدعه يتحرك بدون خوف كأنها على سطح جزيرة واسعة في الفضاء لا يوجد فيها سوى الموسيقى والأضواء حتى تتخلص من طاقتها السلبية وتعود إلى الحياة كإنسان جديد.
------------------------------------
تصوير محمود الخوّاص
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه