شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"مراعي الموت"... تلغيم المساحات الخضراء في اليمن

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

بيئة ومناخ نحن والبيئة

الاثنين 26 فبراير 202401:18 م

"تذهب إلى المزرعة لترعى المواشي، وتعود بدون أطراف"، بهذه المفردات البسيطة، لخَّص عبده سعيد، 46 عاماً، قصة قاتل صامت، كان وما زال يتربص بأقدام المدنيين، ويحصد أرواح البسطاء، بل ويحاصر حياتهم اليومية باستمرار، فالمخاطر الناتجة من مخلفات الحرب المتفجرة كثيرة، والأضرار التي لحقت بالمساحات الخضراء والمزارعين خير شاهد ودليل.

كان الرجل يسكن منطقة ثعبات وسط مدينة تعز، حتى أتت الحرب، واضطر للنزوح إلى منطقة مجاورة، تبعد قليلاً عن الاشتباكات الميدانية.

يقول لرصيف22: "بعد انتهاء المعارك، بدأت أخرج إلى أرضنا وأُعيد ما أفسدته الحرب، وأحاول زراعتها ورعي الأغنام فيها، حتى دست على لغم أفقدني ساقي اليمنى". وبنبرة حزن تابع: "فقدان قدمي حرمني من ارتياد المزرعة، وممارسة الطقوس كما كنت في السابق، بسبب رهاب الألغام".

تذهب إلى المزرعة لترعى المواشي، وتعود بدون أطراف.

يوضح عبده سعيد أنه لجأ إلى إبلاغ الجهات المسؤولة عن نزع الألغام، والتي جاءت لمسح أراضيه الزراعية، وعثرت على حقل ألغام فككته، لكنه يستطرد: "بعد التفكيك حصلت حادثة انفجار لغم بأحد المواطنين، وهذا يدل على أن الألغام ما زالت موجودة. أتحرك اليوم في هذه الأرض بحذر شديد".

حقول الموت

أصبح المزارعون ومربو المواشي في اليمن، بسبب تلغيم أراضيهم الزراعية، ضمن قائمة الضحايا والمعاقين، وباتت الحياة اليومية مرعبة.

ليست هنالك إحصائية رسمية بإجمالي المساحات الخضراء الملوثة بالألغام في اليمن، خصوصاً أن عوامل طبيعية مثل الأمطار تساهم في نقل حقول الألغام من مكان إلى آخر، ناهيك أن عملية التلغيم جرت بطريقة عشوائية، وهذا ما جعل فرق نزع الألغام تتعامل مع كافة المناطق التي كانت مسرحاً للاشتباكات والمعارك على أنها مناطق ملغّمة.

وطبقاً لتقرير صادر عن هيومن رايتس ووتش، فإن قوات الحوثيين زرعت الألغام الفردية المحرمة دولياً على نطاق واسع في كثير من المناطق اليمنية، بالإضافة إلى أنواع وأحجام مختلفة من العبوات الناسفة. وتشير إحصائيات إلى أن عدد هذه الألغام تجاوز المليونين، وهي أكبر عملية زرع للألغام الأرضية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

أراضي ومناطق سكنية تعرضت للتلغيم العشوائي في الحديدة

وتسببت هذه الألغام بتراجع المساحات المزروعة في عموم البلاد، والتي كانت تشكّل قبل اندلاع الحرب أكثر من مليون هكتار، وهي ثلاثة أرباع المساحة الصالحة للزراعة، كما يشكل عدد العاملين في القطاع الزراعي نحو نصف إجمالي القوى العاملة، بنحو مليوني شخص.

وحسب تقارير أممية، فإن الثمن الأعلى الذي يدفعه اليمنيون اليوم، إلى جانب انتشار الفقر والتدهور الاقتصادي والنزوح ونقص الخدمات الطبية، يكمن في زراعة الألغام في جميع أرجاء البلاد، والتي ستترك أثرها على ملايين السكان.

يروي غالب راشد حادثة تعرضه لانفجار لغم فردي، في مزرعته الواقعة في منطقة حسن بن علوان في مديرية المخاء: "خرجت من البيت لأرعى الأغنام. وقتها لم نكن نعلم بأن مزرعتي ملغمة، وبمجرد وصولي إليها وبشكل مفاجئ سمعت صوت انفجار لغم بتر ساقي اليسرى وفقأ عيني. وقت الحادثة كنت أبحث عن قدمي وأنا ملطخ بالدماء".

يتابع لرصيف22: "بعد إصابتي نزحت بأسرتي إلى مدينة عدن، لكن ظروف المعيشة أجبرتني على العودة إلى المنطقة بعد ستة أشهر. لم تمضِ أيام كثيرة على عودتنا، حتى تعرضت زوجتي لنفس الحادثة، وبُترت ساقها اليمنى، وأصبحنا معاقين لا نقدر على السير إلا بواسطة الأطراف الصناعية".

في السابق، كان راشد يعمل بالأجر اليومي، وأحياناً سائقاً لدراجة نارية، يحاول من خلالها توفير لقمة العيش لأطفاله، كما اعتاد في المساء على رعي المواشي وممارسة طقوسه الزراعية، لكن الوضع تغير بعد الحادثة، وتبدل الحال تماماً، خاصة أن حركته باتت مقيدة بساقه الصناعي.

وكان لافتاً حديث الطفل مخلص راشد، الذي يدرس في المرحلة الإبتدائية، عندما وصف حادثتي انفجار والديه بالفاجعة، مؤكداً: "في المدرسة علمونا أن الجنة تحت أقدام الأمهات، وأنا قدم أبي وأمي في الجنة".

هكذا تحولت أراضي ومزارع اليمنيين إلى حقول موت بفعل الألغام التي زرعها الحوثيون، خاصة في محافظة تعز والتي تعد من أكثر المحافظات تلوثاً بالألغام، ومع استمرار سقوط الضحايا باتت المتفجرات تؤرق حياة الملايين، وتهدد حاضرهم ومستقبلهم.

بعد إصابتي نزحت بأسرتي إلى مدينة عدن، لكن ظروف المعيشة أجبرتني على العودة إلى المنطقة بعد ستة أشهر. لم تمضِ أيام كثيرة على عودتنا، حتى تعرضت زوجتي لنفس الحادثة، وبُترت ساقها اليمنى، وأصبحنا معاقين لا نقدر على السير إلا بواسطة الأطراف الصناعية

تقنيات جديدة

تحول اليمن منذ ما يقارب عشرة أعوام إلى ساحة حرب، صُنفت من بين أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، وضحايا هذه الحرب بالجملة، ويصف كثيرون اليمن اليوم بأنها "الموت المُخبّأ تحت الأقدام"، نظراً لفداحة الانتشار الكثيف للألغام الأرضية، التي تُطوِّق كثيراً من المناطق، وسوف تشكل تحدياً كبيراً خلال السنوات القادمة، خاصة أنها زُرعت بشكل عشوائي دون خرائط.

الناشط الحقوقي محمد الشلي، يقول لرصيف22: "تُمثل الألغام في المناطق الزراعية كابوساً للمدنيين. كثيرون فقدوا مصدر رزقهم وتشردوا بسببها. عندما تملك مزرعة ملوثة بالألغام تعتبرها مصدر رزقك الوحيد، فأنت بالتأكيد لا تستطيع الزراعة فيها أو حراثتها، وبالتالي تجف الأرض وتنتهي".

الخراب والإهمال الذي تعرضت له الأراضي بعد زراعة الألغام فيها

ليست الألغام وحدها ما يهدد حياة المدنيين ومصدر رزقهم، فقد زرع الحوثيون عبوات مموهة بأشكال وأحجام مختلفة، محشوة بمواد شديدة الانفجار، وتعمل بتقنيات متعددة، يمكن أن تنفجر عن طريق الدواسة أو التحكم عن بعد، أو عن طريق الكاميرا الحرارية، بحسب خبير نزع الألغام معين حمزة، الذي يؤكد بأن التعامل مع هذه الأجسام وتفكيكها مهمة صعبة ومعقدة.

ويشير حمزة إلى أن "جميع الألغام خطرة، وما يجعلها في اليمن أشد خطورة، هو أن الحوثيين أدخلوا تقنيات جديدة، وابتكروا ألغاماً مموهة مثل الصخرة، وهي عبوات ناسفة على هيئة صخور".

مساحات نظيفة

ثمة عوامل طبيعية ساهمت وتُساهم في اتساع رقعة الأراضي الملغمة، وتصعّب عملية إزالتها، فالأمطار الموسمية والفيضانات تجرف مواقع الألغام الأساسية إلى مناطق جديدة.

وخلال السنوات الماضية، جرفت السيول في اليمن كميات من الألغام، إلى مناطق مأهولة بالسكان ومساحات زراعية في مأرب ومحافظات أخرى، وبين الحين والآخر يحذر المرصد اليمني للألغام المواطنين والمزارعين ويطالبهم بأخذ الحيطة والحذر، مُجدِّداً دعوته المجتمع الدولي لدعم جهود وتطهير المناطق الملوثة.

ليست الألغام وحدها ما يهدد حياة المدنيين ومصدر رزقهم، فقد زرع الحوثيون عبوات مموهة بأشكال وأحجام مختلفة، محشوة بمواد شديدة الانفجار، وتعمل بتقنيات متعددة، يمكن أن تنفجر عن طريق الدواسة أو التحكم عن بعد، أو عن طريق الكاميرا الحرارية

وسط هذه التعقيدات، يبدو أن تطهير الأراضي الملغّمة مهمة صعبة، إذ تبذل الجهات اليمنية، والفرق الهندسية المحلية، وبعض المشاريع ومنها مشروع "مسام" لنزع الألغام، جهوداً كبيرة لتطهير المناطق الملوثة، ويعمل هذا المشروع في ثماني محافظات يمنية، بدءاً من تعز والحديدة ومأرب والجوف، وصولاً إلى حجة وشبوة، مستخدماً تقنيات وأجهزة متطورة لنزع الألغام.

ولأن الفرق المختصة لا تمتلك خرائط توضيحية لحقول الألغام، فإنها تتعامل مع مختلف المناطق التي كانت مسرحاً لعمليات قتالية واشتباكات مسلحة كمناطق ملغّمة، وتعمل على مسحها ما يؤخر عملها كثيراً، وفق حديث مدير عام مشروع "مسام" أسامة القصيبي لرصيف22.

وأوضح القصيبي أن الحوثيين حوّلوا علباً بلاستيكية إلى متفجرات، حيث توضع قطع حديدية وكمية معينة من البارود وحشوة تنفجر بمجرد الاقتراب منها، وزرعت الألغام المموهة في أماكن لعب الأطفال والشوارع والأراضي، وكذلك المدارس ومصادر المياه.

وحسب إحصائيات "مسام"، فإن الفرق الميدانية نزعت منذ انطلاق المشروع عام 2018، وحتى اليوم، أكثر من 430 ألف لغم وذخيرة غير منفجرة وعبوة ناسفة، وطهرت 54 مليون متر مربع من الأراضي.

زّرع في اليمن ما يقارب مليوني لغم.

أضرار بيئية

ويتحدث الباحث البيئي عبد القادر الخراز لرصيف22 حول الأضرار البيئية للألغام: "لغّم الحوثيون كثيراً من المساحات الخضراء والمحميات البيئية، وما يسمى بالأراضي الرطبة من غابات المانجروف أو السبخات وغيرها خاصة في المناطق الساحلية، وهذا يعد ضرراً على التنوع الحيوي الموجود في المناطق البحرية، ويؤثر على الكائنات التي تعيش في المنطقة الساحلية، وهناك تنوع كبير معروف لدى اليمن في البيئة البحرية سواء من حيث الأسماك أو النباتات".

ويوضح الخراز أن هناك أضراراً على الصيادين ومرتادي الساحل سواء كمتنفس أو غيره، وكثير من الانفجارات حدثت وأصابت أرواحاً بشرية، مشيراً إلى أن عملية التلغيم شملت مناطق قريبة من الساحل، تعرضت لأضرار بالغة، وهذه تعتبر مناطق بيئية بغض النظر عن كونها مساحة خضراء أو لا.

كما أن كثيرين توقفت أعمالهم الزراعية، وتصحرت أراضيهم بسبب الألغام، وهذا ضاعف خسائر القطاع الزراعي، خاصة في ما يتعلق بتراجع كمية إنتاج المحاصيل، وهو ما ألقى بثقله على المزارعين الذين تراجعت أرباحهم بشكل كبير.

من مشاريع نزع الألغام في اليمن

ويلفت إلى أنه "رغم أن الجهود تعتبر بسيطة، لكن لها دور في المناطق التي يتم تنظيفها، خاصة فيما يتعلق بالأراضي الزراعية في المناطق المفتوحة".

ويرى ناشطون في مجال البيئة، أن الحل الوحيد لتفادي تدهور المساحات الزراعية بسبب الألغام، يتمثل بتسليم الحوثيين الخرائط الخاصة بالمناطق الملغّمة، ليجري نزع مخلفات الحرب منها، واستئناف أعمال الزراعة، وتربية الماشية، مشيرين إلى أن دخول اليمن في مرحلة سلام قد يساهم في التوصل لعملية نزع هذه المخلفات، وعودة مئات المتضررين إلى مناطقهم لممارسة أعمالهم الزراعية، خاصة أن الزراعة تعد مهنة أساسية ومصدر دخل لكثيرين.

ومن الضروري أيضاً أن تضع المنظمات المعنية إرشادات وتحذيرات في المناطق الزراعية الملغمة، لتجنيب المزارعين ورعاة الماشية أضرارها.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image