شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
لم أقرأ لأحلام مستغانمي لأنني خفت من النظر لي كفتاة تافهة تقرأ عن

لم أقرأ لأحلام مستغانمي لأنني خفت من النظر لي كفتاة تافهة تقرأ عن "الحب"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الجمعة 1 مارس 202412:18 م

تقف امرأة في ثاني حلقات Ways of seeing، وتقول إنها في إحدى المرات صادفت انعكاسها في الزجاج، ولم تعرف نفسها. اعتقدت في بادئ الأمر أنها سيدة أخرى إلى جوارها، ثم أمعنت النظر، فأدركت أنها ترى نفسها كما هي ربما لأول مرة، وأنها لسنوات كانت تنظر في المرآة لترى ما يجب أن تكون عليه، لا ما هي عليه فعلاً.

لسنوات تأثرت نوعية قراءاتي بما سيجعلني امرأة أكثر عقلانية وثقافة، فلم أكن أقرأ كتباً فقط لأنها مسلية، ولا تجاوزت كتباً أخرى مملة، فقط لأنها كلاسيكيات ويجب أن تُقرأ، وكنت أكمل العمل الطويل المزعج لأنه عمل مهم.

أيضاً لسنوات لم أقرأ عن الحب، لم أقرأ عن المشاعر والعواطف، ولسنوات عقدت حاجبي أمام أي شخص أخبرني بأنه يحب أحلام مستغانمي، أو أي كتاب يبدو أنه يتحدث عن الحب، لأن مثقفين آخرين، أهتم برأيهم، اتهموا هذه الأعمال بأنها أدب غير جاد، كأن الكتابة الجادة هي الكتابة التي تصدع رأس القارئ وتضعه في دوامات الحيرة واليأس مما يأتي، وكأن لا مكان في العالم العربي للحب والكلمة الطيبة والمشاعر، فعالمنا أصبح صحراء، لكتّاب اليأس النفطي والاستعراض الأجوف.

لسنوات لم أقرأ عن الحب، لم أقرأ عن المشاعر والعواطف، ولسنوات عقدت حاجبي أمام أي شخص أخبرني بأنه يحب أحلام مستغانمي، أو أي كتاب يبدو أنه يتحدث عن الحب، لأن مثقفين آخرين، أهتم برأيهم، اتهموا هذه الأعمال بأنها أدب غير جاد

أصبحت أنت"، مرثية طويلة

"أصبحت أنت" كانت أول مواعيدي مع أحلام مستغانمي. شدني أنها سيرة روائية ذات لغة شعرية، تكتب فيها عن أبيها، كأنها قصيدة رثاء طويلة، توثق فيها انطباعاتها عن والدها وحياته وجزائر ما بعد التحرير، كما تكتب فيها عن مراهقتها وشبابها، ومحطات كثيرة مهمة في حياتها وحياة بلدها الجزائر، وأول احتكاكها بالمدينة الذكورية التي لم تتقبل شاعرة ولا أديبة بسهولة.

في الجزء الأول من الكتاب الذي انقسم لثلاثة أجزاء، تبدأ أحلام مرثيتها لأبيها بأنها أخفقت دوماً في رثاء من أحبّت: "أعجب للذين يسارعون في الرثاء. الصدمة الكبرى تأخذ أصواتنا، لا تترك لنا كلمات. الحزن الكبير ذهول لا دموع له. نحن نبكي دائماً فيما بعد، عندما يتوقف الغرباء عن البكاء".

في مقدمتها تلك، تبدأ أحلام من النهاية إلى البداية. تبدأ بلحظات الوفاة، ثم لطفولتها في تونس، ومراهقتها في جزائر ما بعد التحرير، وشبابها في فرنسا، ثم تعود مرة أخرى للحظة العزاء وما بعد الوفاة، في خط سردي دائري للأحداث، كأن حياة أحلام كلها دارت في هذا الفلك، وهو ما مهّدت له أيضاً في أولى صفحات الكتاب، عندما قالت: "ربما أصبحت روائية يوم أيقنت أننا لن نكون بعد الآن معاً، وأن أشياء كثيرة حدثت لم تدري بها أبداً، لن أرويها لك كما اعتدت أن أفعل في الماضي".

تدور حياتها حول محور الأب، الذي لولاه لما كتبت شيئاً إطلاقاً، بالرغم من أنه لم يقرأ لها قط، نظراً لعدم إحاطته بالعربية، وهذا ليس مجازاً، ولا بمعنى دوره المؤثر في حياتها وارتباطها به أكثر من والدتها، بل لأنها في أول مرة خرجت للجموع مباشرة تلقي شعرها، قوبلت بهجوم كبير عليها كشاعرة، صغيرة في السن وتكتب عن الحب: "أين جميلة بوحيرد؟ وأين أبطال الثورة في شعرك؟ كيف تكتبين عن الحب ونحن لم ننته بعد من دفن الشهداء؟ الجزائر ليست في حاجة إلى قصائدك".

ليقف أبيها مدافعاً عنها: "ابنتي لم تعرف الثورة، وهي حرّة في كتابة ما يلائم سنها، إن شئتم الحديث عن الثورة أحدثكم عنها أنا. لن تحاكموا الشعر أيضاً، ولن تقرّروا عنا ماذا نكتب. لقد حاربنا لنكون أحراراً".

كخيار وحيد للنجاة

خرجت أحلام للعلن في وقت كان شائعاً وأد المواهب النسوية تحت وطأة التقاليد. لم يكن سهلاً أن تكتب امرأة في الجزائر عن الحب، والبعض كان يخجل من أبوّته لابنة كاتبة مثلها. أحلام كتبت عن أحلام ولم تكتب عن الثورات والسياسة بشكل صريح، بل كتبت شعراً وقصائد عاطفية، ولولا أبيها لانتهت موهبتها تلك في المهد.

الغريب أن أكثر ما توقفت عنده في "أصبحت أنت" هو كيف كانت نظرتي لكتابات أحلام مستغانمي التي لم أقرأ لها أي شيئاً من قبل، وكيف هي كتاباتها فعلاً، فـ"أصبحت أنت" ليس كتاباً عاطفياً ولا سطحياً، بل كتاب مهم، ولا أقول بذلك إن الأعمال العاطفية أصلاً سطحية، لأن العواطف البشرية هي المحرّك الأساسي للكتابة، ولا تتمحور أهميته في توثيقها لفترة مهمة في تاريخ الجزائر، وما تعرّض له فدائيو الثورة بعد الاستقلال، من تخوين وحبس واغتيال وفقدان عقل، وأن أبيها، محمد الشريف مستغانمي، أحد تلك الرموز التي يجب علينا التعرف على تاريخه، بل لقيمة الكتاب الأدبية ولغته المرهفة، وتوثيقها لكواليس كتاباتها والتي كان السبب فيها ما تعرّضت له كامرأة عربية كاتبة، وأيضاً انطباعاتها وتساؤلاتها المهمة عن العالم الذي نرغب أن نعيش فيه والجفاف الذي يسحقنا.

الآن أدرك أن الكتابة عن الحب، وقراءة الكتابة عن الحب أيضاً، أمر أشبه بالعلاج لعالم مصاب بسرطان الكراهية والطغيان

الكتابة عن الحب أمر جاد

هنا نعود للسؤال الأول: لماذا لا نعتبر الكتابة عن الحب كتابة جادة أصلاً؟

في كتابها هذا، تشير أحلام في أحد الفصول إلى انطباعاتها في فترة الخمسينيات والستينيات في العالم أجمع، حيث تمتع كل القادة تقريباً في العالم بكاريزما شديدة، وحب كبير من شعوبهم. كما انتشرت أغاني الحب وفيض كبير من المشاعر، مفسّرة ذلك أن العالم كان قد خرج توه من حالة حرب كبيرة، خسر فيها 70 مليون ضحية في حروب مجانية.

كما عانت الدول المستعمَرة في حروبها ضد الاستعمار، وخسرت ملايين أيضاً من شعوبها. فكان بالتالي الدافع للحب ضرورياً للحياة: "لم يحدث للكرة الأرضية أن كانت عاشقة كما في ستينيات القرن الماضي. ذلك لأنه كلما اشتعلت الحروب وعم الدمار، ازدادت حاجة البشرية إلى القصص الرومانسية التي تتحدى الموت... دخل العالم في حالة حب جماعية لمن أهداه الكرامة والحرية".

بزوغ أحلام ككاتبة بدأ في هذه الفترة التي وصفتها بحالة حب جماعية، وربما السبب الحقيقي وراء شهرتها في العالم العربي، حتى بين جموع القراء الذين لا يقرأون بانتظام، هو قدرتها على الكتابة عن الحب والعواطف دون تخفٍّ أو تحفّظ، فهي ولما تتم العشرين من عمرها، وقفت في قاعة بجمهور غريب عنها وألقت مجموعة قصائد عاطفية، وبعد دفاع أبيها عنها، استمرّت فيما تريد أن تكتب كما شاءت، رغم ما عانته من النظرة الذكورية، شأنها كشأن أي كاتبة عربية، وخصوصاً في الجزائر في تلك الفترة حين دخلت في عشرية الإرهاب وكان قتل المثقفين أمراً محموداً، قوبلت كتاباتها بانتشار واسع، غالباً يرجع سببه أننا في حاجة أكثر للقراءة عن الحب، والتعامل مع ذلك كأمر جاد.

الآن أدرك أن الكتابة عن الحب، وقراءة الكتابة عن الحب أيضاً، أمر أشبه بالعلاج لعالم مصاب بسرطان الكراهية والطغيان.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image