شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
ثناء دبسي... أم السوريات والسوريين التي دخلت كل بيت

ثناء دبسي... أم السوريات والسوريين التي دخلت كل بيت

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمهاجرون العرب

الخميس 22 فبراير 202401:31 م

رحلت الفنانة القديرة ثناء دبسي، تاركة خلفها شعوراً عاماً باليتم، لأن كثيراً من السوريين الذين تابعوا أعمالها شعروا أنهم خسروا أماً، وقد كانت حقاً كذلك. كانت تشع مشاعر أمومة دافئة، وتملأ المكان الذي تكون فيه بحنان نادر المثال لأنها تعبر عنه دون أن تقول شيئاً، تكفي نظرتها وابتسامتها كي نشعر أننا بخير وأمان. ونحن لم نعد بخير ولا في أمان، ولعل رحيلها هو قمة هذا القلق الذي يجتاحنا.
التقينا كثيراً في طفولتي وأتذكر كم كانت تغمرني بحب ورقة كلما زرت موقع تصوير تعمل فيه، وكان المسلسل الأول الذي شاركت فيه كمساعدة إخراج هو "ذكريات الزمن القادم" الذي لعبت فيه باقتدار دور المرأة الفلسطينية التي ترفض واقعها بأن تنسى ما حدث، تنسى النكبة، تنسى أنها ليست في فلسطين، تنسى أن العمر مر وهي منفية، كما تمر أعمارنا اليوم في المنفى، أفكر بأن ترحل ثناء دبسي فيما تستعر الحرب الشرسة على غزة، وفيما يدير العالم وجهه عنها ويترك أهلها لمصيرهم الذي يقرره احتلال مجرم، وأقول في نفسي: هذا العالم لا يليق بنقاء ثناء دبسي.

كانت ابتسامتها في التعامل معي في المسلسل الأول، أنا الفتية التي تخطو خطواتها الأولى في عالم الإخراج، تشجيعاً كبيراً لا أنسى فضله، لأنها عاملتني كأم عندما لا تدور الكاميرا، أما أمام الكاميرا فقد أخذت كلامي على محمل الجد
كانت ابتسامتها ولطفها في التعامل معي في المسلسل الأول، أنا الفتية التي تخطو خطواتها الأولى في عالم الإخراج، تشجيعاً كبيراً لا أنسى فضله، لأنها عاملتني كأم عندما لا تدور الكاميرا، أما أمام الكاميرا فقد أخذت كلامي على محمل الجد، وأعطتني ثقة كنت بأمس الحاجة لها في حينه.
كانت الفنانة ثناء دبسي من مؤسسي المسرح القومي السوري في الخمسينيات، وقد تألقت في أدوار مسرحية عديدة على مر تاريخها الفني الحافل، ولعل أشهر مسرحياتها هي "الأشجار تموت واقفة". كانت عودتها إلى المسرح بعد غياب في العام 2000 بعرض "تخاريف" للمخرج ماهر صليبي، وقد حضرت هذا العرض في حينه، وأتذكر الألق الذي كان يشع منها على المسرح، كان حضورها آسراً، وكان من المحزن أن شح الإنتاج المسرحي أبعدها عن الخشبة لسنوات طوال.
كما شاركت دبسي في العديد من الأفلام السينمائية والأعمال الإذاعية، وفي كثير من مسلسلات الدراما السورية. كانت ثناء دبسي تعطي أدوارها لمسة خاصة، وكانت قادرة جداً على نقل مشاعر حارة من الحزن والألم إلى الحب والدفء، كان وجهها المعبر ونظرتها الدافئة أدواتها لدخول قلوب مشاهديها، وكان صوتها المميز وطريقتها في الأداء علامة فارقة تجعل المستمع إليها يميزها فوراً.
كانت الفنانة ثناء دبسي من مؤسسي المسرح القومي السوري في الخمسينيات، وقد تألقت في أدوار مسرحية عديدة على مر تاريخها الفني الحافل.
كان أحد أبطال المسلسل الأول الذي أخرجته "زمن الخوف" الفنان الكبير سليم صبري، وكان الأستاذ سليم لا يحب أن نتأخر في تصوير المشاهد الليلية ويكرر دوماً: "ما بحب ثناء تتعشى لحالها، بدي لحق ارجع لنتعشى سوا"، أفكر فيه اليوم، وهو الحبيب المكلوم، وأتمنى لو أننا كلنا في سوريا إلى جانبه، نقاسمه العشاء، كي لا يتعشى وحيداً.
منذ عملت مع الفنانة يارا صبري أول مرة في "ذكريات الزمن القادم"، فهمت أنها حقاً ابنة هذا البيت الفني العريق، وأنها وريثة الحب والدفء وفي نفس الوقت نتاج جدية واحترافية تتناول الفن كالتزام أخلاقي.
بعد الثورة، حوّل هذا الالتزام الأخلاقي بالناس وحكاياهم مسار حياة يارا صبري، التي تفرغت لسنوات طوال لمسألة البحث عن المفقودين والمخفين قسرياً والمعتقلين، ولقبت يارا بأم المعتقلين، كما كانت أمها أم السوريين. ترحل أم يارا اليوم، وابنتها منفية عن وطنها، ممنوعة من وداع والدتها، فقط لأنها إنسانة، لأنها رفضت أن يتألم الآخرون وأن تتفرج هي صامتة على ألمهم وموت أبنائهم.
يتألم السوريون على وسائل التواصل الاجتماعي، يتألمون لأن المنفيين منهم يفهمون ألم يارا ويتماهون معه، ولكنهم يتألمون أيضاً لأنهم فقدوا أماً دخلت بيوتهم وقلوبهم، لأنهم فقدوا أحد أعمدة الفن السوري وأحدى مؤسسات المسرح القومي السوري. يتألمون لأنهم مع رحيلها يودعون وجهاً نبيلاً من أوجه الدراما السورية. كان لثناء دبسي دور في إرساء أخلاقيات ومبادئ التعامل في المهنة، ولكنها لم تكن تتحدث عن نفسها أبداً، كانت تمر في مواقع التصوير كالنسمة العليلة التي تنعش قلوب العاملين معها، ولكنها غالباً ما كانت تنجز عملها بصمت وحب وجدية.
منذ عملت مع يارا صبري أول مرة في "ذكريات الزمن القادم"، فهمت أنها حقاً ابنة هذا البيت الفني العريق، وأنها وريثة الحب والدفء وفي نفس الوقت نتاج جدية واحترافية تتناول الفن كالتزام أخلاقي
يتألم السوريون المنفيون أيضاً، لأنهم يعلمون أنهم سيمرون بما تمر به يارا صبري، أو لعلهم مروا به وتذكروا هذا الحرمان العنيف، الحرمان من الوداع، من تشارك العزاء، من حضور جنازة الأحبة، من القبلة الأخيرة، حرمان من أن نحزن معاً بدل أن يحزن كل منا وحده في بقعة من بقاع الأرض.
تتفنن السلطة السورية في تعذيب السوريين، وأحد أشكاله هو هذا الحرمان. يحاول السوريون أن يستعيضوا عن التواجد الفيزيائي بوسائل التواصل الاجتماعي، فتغص الصفحات بابتسامة ثناء دبسي، أتأمل ابتسامتها، فيحضروني صوتها الهادئ الدافئ المحب وهي تسأل عن حال الجميع، تراقب لتطمئن أن الكل مرتاح، أن لا أحد ينقصه شيء. أحب أن أطمئنها أنها فعلت ما تستطيع من أجلنا جميعاً، وأن جهودها لم تضع سدى، فقد خفف وجودها في هذه الحياة من قسوتها وجلافتها، وأن ابتسامتها ودفئها ستبقى أبداً مطبوعة في القلوب.
يتألم السوريون المنفيون أيضاً، لأنهم يعلمون أنهم سيمرون بما تمر به يارا صبري، أو لعلهم مروا به وتذكروا هذا الحرمان العنيف، الحرمان من الوداع، من تشارك العزاء، من حضور جنازة الأحبة، من القُبلة الأخيرة
أتأمل طوفان التعليقات التي تعزي العائلة الكريمة بهذا الفقد الأليم، وأتخيلني ويارا صبري معاً في قاعة عزاء كبيرة، يستند كل منا إلى كتف الآخر، يبكي، يواسي، يحزن، وأشعر بمزيد من الخذلان، ومزيد من الغضب. أما آن لهذا الكابوس المريع أن ينتهي؟ أما آن لليل الطويل أن ينجلي؟ حتى ذلك الحين تبقى لنا ذكرياتنا، نستعيدها، فتبتسم ثناء دبسي ناظرة إلينا بحب.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image