اعتادت أسرة صفا (30 عاماً) التجمع في منزل العائلة أثناء كل المناسبات عامة وطوال شهر رمضان بشكل خاص، إذ يجلس الرجال حول المائدة الكبيرة، ويتناولون الإفطار وحدهم، وتدور نساء العائلة حولهم للخدمة، يحملن أكواب المياه أو يضفن مزيداً من الطعام، حتى ينتهوا، فتأتي الفتيات ويرفعن الأطباق ويضعن أكواب الشاي، وتجمع النساء ما تبقى من الطعام ليأكلن هنّ وصغارهن.
تقول لرصيف22: "كانوا الرجالة بيفطروا على السفرة، لكن الستات بتقعد على الأرض ونستنى لحد بعد ما يخلصوا عشان نقدر ناكل لقمة زيهم من البواقي وفتات الأكل".
سي السيد... "بين القصرين"
ما تحكيه صفا، هو بالضبط ما جاء بصورته الكاملة في أول مشهد من "بين القصرين" 1964، للمخرج حسن الإمام، حين يجلس الأب المستبد السيد أحمد الذي يلعب دوره "يحيى شاهين" على مائدة الطعام متوسطاً أبناءه الذين يجلسون حوله ويأكلون معه، بينما الزوجة والابنتان يقفن ليقدمن لهم الخدمة، وبعد أن يعبئ الذكور بطونهم وينصرفوا خلف الأب، تجلس الفتاتان وتأكلان ما تبقى من الطعام.
اعتادت أسرة صفا التجمع في منزل العائلة في المناسبات، وكما في "بين القصرين" يجلس الرجال حول المائدة الكبيرة، لتناول الطعام، وتدور نساء العائلة حولهم للخدمة حتى ينتهوا، فتأتي الفتيات ويرفعن الأطباق ويضعن أكواب الشاي، وتجمع النساء ما تبقى من الطعام ليأكلن هنّ والصغار
"التمييز في تناول الطعام وتوزيعه في الدراما المصرية كان رمزاً من رموز الطبقية في المجتمع و تعبيراً لإظهار تفوق الرجال على النساء" بهذه الكلمات، يفتتح الناقد الفني رامي عبد الرازق حديثه لرصيف22، مؤكداً أن المشاهد الدرامية التي تظهر تمييزاً ضد النساء تأتي في السياق الدرامي للعمل الفني كاملاً، ويضيف: "كيف يمكن أن تصل فكرة سي السيد، للمشاهد إلا إذا شاهدناه مخيفاً وغليظاً، فهو يعبر عن المجتمع الطبقي الذي يسود فيه التفوق الذكوري العنيف والسلطوية الشديدة، لا بد أن يكون سي السيد، في المنزل صارماً وقاسياً وحاداً، وأعلى من يد زوجته وأبنائه".
الأستاذ رمضان... "الحريم بتاكل لما الراجل بيموت"
طلبت زوجة الأستاذ رمضان، مدرس اللغة العربية، بيتزا، وجبة غذاء لهما، بينما الزوج قرر أن يدفع الفاتورة، لأنه رجل البيت والمسؤول عن الإنفاق عليه، ولأنه لا يملك المال يكتب لزوجته إيصال أمانة بقيمتها، ثم تجلب الزوجة طبقاً لتأكل معه، لكنه يرفض أن تشاركه ويقول لها: "عندنا الحريم بتاكل لما الراجل بيموت" يقصد النساء في قرى الأقاليم، لكن هذه الجملة التي قيلت في مشهد كوميدي، من فيلم "رمضان مبروك أبو العلمين حموده" 2008، تتناسب كلياً مع واقع النساء في مجتمع القرى، فكثير من النساء في الأقاليم المصرية مواطنات من الدرجة الثانية في نظر المجتمع، وحتى حقهن في لقمة الفم يأتي بعد شبع الرجال.
ضيا الناجي... "التوت والنبوت"
تضع سلمى "آمال رمزي" الطعام على مائدة دائرية صغيرة وعامرة بكل ما لذ وطاب من المأكولات الشهية، يشمر زوجها، ضيا الناجي "محمود الجندي" عن ساعديه ويأكل وحده، تسحب الزوجة أنفاسها كإنسان كامل وتمد يديها لتأكل معه، فينهرها ويرفض مشاركتها الغذاء، قائلاً: "أنا لما أقعد أكل تقفي تخدمي عليا وتستني لما أخلص عشان تصب لي أغسلي إيدي".
مشهد من فيلم "التوت والنبوت" 1986، للمخرج نيازي مصطفى، يطرح سؤالاً دقيقاً: هل يوجد تمييز على أساس النوع والجنس في توزيع الطعام؟ وما مصدره، وهل هناك حالات تعاني حقاً من هذا التمييز، وكيف ربطت السينما المصرية بين التمييز العنصري في توزيع الطعام واستبداد السلطة المجتمعية؟
تقول نور: "أمي بتشيل اللحمة لأخويا"، ومثلها تشتكي رقيّة بأن أمها تحتفظ بحصة الطعام الأكبر والأفضل لأخيها الوحيد، وتترك البواقي لها ولأخواتها الأربع
تعمل نور (28 عاماً) مندوبة مبيعات في إحدى الشركات، وتعاني من تمييز والدتها في توزيع الطعام، إذ تفضل الأم بين ابنتها وشقيقها الأصغر، ودائماً تخبئ له أشهى الطعام في الخفاء وتعطيه النصيب الأكبر من كل شيء، وفي مواقف متتالية يأخذ الطعام لنفسه ولا يعطي أحداً، تقول شقيقته لرصيف22: "أمي بتشيل اللحمة لأخويا، ولسة بستغرب لما ألاقيها بتخبي الأكل عشانه".
أما رقية (22 عاماً) وهي طالبة جامعية، فلها أربع شقيقات وشقيق واحد، تفضل الأم، ابنها الذكر على الإناث، إذ تخصص له غرفة خاصة، وللشقيقات الخمس غرفة واحدة فقط، كما تخصص الأم له المأكولات المغذية كالبيض واللحوم، بينما الإناث يأكلن أي شيء آخر أو بواقي طعام الولد إن تبقى منه شيء، تقول لرصيف22: "مرات خالي نفس القصة عندها أربع أولاد وبنت واحدة، أختهم مجرد خدامة لا أكثر، ولو طبخت أنضف أكل يأكلوه أخواتها الولاد وهي تأكل أي حاجة".
"لو إديتك وزة تعملي بيها إيه؟"... الزوجة الثانية
يسأل العمدة "صلاح منصور" الخادمة فاطمة "سعاد حسني" في فيلم "الزوجة الثانية" 1967: لو إديتك وزة تعملوا بيها إيه؟ فتجيب بشكل توزيعها على أفراد الأسرة، بحيث تأخذ الجدة والأم والأبناء جزءاً والباقي كله للزوج، لأنه في رأيها هو الذي يواجه المشقة والتعب من أجل الأسرة، وبالتالي يستحق أن يأكل أكثر من الجميع ويأخذ أكبر من نصيبهم ليكون أقدر على تحمل الشدائد، رغم أن الزوجة نفسها تعمل أكثر منه، فهي خادمة نهاراً في منزل العمدة، وتعمل مساءاً في منزلها إضافة لرعاية الأبناء.
هذا المشهد لم ينته عند تلك الحقبة التي ساد فيها الظلم، وإنما يعيش معنا حتى يومنا هذا، تحكي شيرين، ربة منزل (35 عاماً) عن الحماة، التي تدير مسؤولية توزيع الطعام على الأسرة إذ تخصص للابن النصيب الأكبر من الدجاج واللحوم والأسماك بينما الزوجة والأبناء يأخذون القليل، ربما جناح الدجاجة مثلاً، لكن الفخذ والصدر دائماً من نصيب الرجل، تقول: "بيجيب الحمام والجمبري له لوحده محدش ياكل منه".
السينما لم تكذب
يقول الناقد الفني رامي عبد الرزاق إن الفن يطرح الأسئلة على المشاهد والمشاهد عليه أن يبحث بنفسه عن الإجابات في الواقع، فليس دور الفن حل المشكلة بل عليه أن يعرضها فقط، فعلى السينما والتلفزيون إثارة الجدل، أما النقاش والحوار والإجابات فهي خارج الشاشة يصنعها المشاهد والمجتمع، فالرفض والنفي والنقد تحدث خارج الشاشة وليست جزءاً من العمل الفني.
في فيلم "الزوجة الثانية" يسأل العمدة الذي يلعب دوره صلاح منصور الخادمة فاطمة التي تؤدي شخصيتها سعاد حسني "لو إديتك وزة تعملي بيها إيه؟" فتجيب بشكل توزيعها على أفراد الأسرة، بحيث تأخذ الجدة والأم والأبناء جزءاً والباقي كله للزوج
"هناك اعتقاد خاطئ يرى أن الذكر من الممكن الاعتماد عليه أكثر من الأنثى داخل الأسرة، إذ يمكن أن يقوم هو بالمهام الصعبة مثل السفر بمفرده أو قضاء المهمات الثقيلة وإبقاء الفتاة للمهام الخفيفة التي تتمثل في الطهو والتنظيف. لذلك يتم الاعتناء بصحته أكثر من الفتاة" بهذه العبارة افتتحت الدكتورة سامية خضر، أستاذة علم الاجتماع في جامعة عين شمس، حديثها لرصيف22، مؤكدة أن هذا الاعتقاد السائد يترتب عليه تفضيل الذكر والاهتمام بتغذيته مقارنة بالأنثى، الأمر يصل إلى إعطائه النصيب الأكبر في كل شيء وليس في الطعام فقط، وتؤكد أن هذا الأسلوب يساهم في توسيع الفجوة المجتمعية بين الذكور والإناث، ويجعل الفتيات يشعرن بالتمييز وعدم المساواة في حقوق بديهية للغاية ما يتسبب في توسع شعور التباغض والكره بين الأبناء.
وتقول: "على الأسر التي لا تزال تفعل هذه السلوكيات أن تخجل من هذه التصرفات، وتربي الأبناء جميعهم تربية عادلة، ليس من العدل التمييز بين الأبناء في اللقمة، وإن كان يظنون أن الرجل يجب تمييزه لأنه يقوم بالمهام الصعبة، فالفتاة قادرة على القيام بأي مهمة أيضاً".
وترى أن من واجب الأهل المساواة بين الحقوق كما بين الواجبات والمسؤوليات، وخت: "تفضيل الذكر على الأنثى يضر الأسرة كلها، ويضر الأبناء وينتج أجيالاً ذكورية اتكالية". مؤكدة أن الابن الذكر بعد أن يخرج من الأسرة التي ربته بطريقة خاطئة يصبح في أسرته الجديدة شخصاً أنانياً، يُحمّل زوجته أعباء فوق طاقتها، ويصبح غير قادرٍ على تحمل المسؤولية بعد ذلك. كما تُضر هذه التربية الفتاة التي تجد نفسها منصاعة لأوامر الزوج السلطوية وتحكماته في المستقبل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...