بصعوبة أتوقف عن مشاهدة جولات الأخبار المتتالية. أرمي هاتفي جانباً. أنزوي برفقة الجثث المتراكمة في مخيلتي، وأعود في الذاكرة لاستراق لحظات قديمة كنت قد عشتها في الحرب السورية، لأجد وجه الشعور المشترك بينهما. أفتح ورقة بيضاء، تتلطخ على الفور بالدماء. فلا أعود قادرة على الكتابة. أحاول من جديد إعادة ترتيب المشهد من زوايا مختلفة، وعبثاً أبحث عن كلمات معبّرة، إذ سرعان ما تستحيل إلى ضباب يصعب الإمساك به.
لا أملك وسيلة للتعبير سوى الحروف الصامتة، التي لم تنفع بتاتاً في قول ما أريد. فمنذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وأنا أمضي في محاولات عديدة لكتابة ما يختلج داخلي؛ بشتائم، أو مفردات محملة بالدموع والقهر، بصراخ. لا يهم. أرغب فقط بالتعبير وإزاحة ولو القليل من العجز الذي يتراكم يوماً بعد يوم فوق صدري. اختلطت مشاعري بين الخجل من قول أي شيء أمام الكارثة، وأن مشهداً واحداً من المجزرة كفيل بإسكاتي، وبين تسخيف أي كلمة كان من الممكن أن أنطقها.
أفكّر: بينما تجلسين في إحدى الزوايا الآمنة، وتظنين أن كل شيء على ما يرام، سوى أن كأس الشاي التي بين يديك تحتاج رشفات أسرع قبل أن تبرد، هناك، في زاوية أخرى من عالمك، يهرول أشخاص في جميع الاتجاهات باحثين عن نجاة أو عن سبيل يجتاز بهم أمتاراً قليلة خطرة إلى أمتار أقل خطورة. يهرولون كيلا يصبحوا جثثاً باردة لن يجرؤ أحد على النظر إليها أو ارتشاف آخر أمنية كانوا قد تمنوها.
بينما تجلسين في إحدى الزوايا الآمنة، وتظنين أن كل شيء على ما يرام، سوى أن كأس الشاي التي بين يديك تحتاج رشفات أسرع قبل أن تبرد، هناك، في زاوية أخرى من عالمك، يهرول أشخاص في جميع الاتجاهات باحثين عن نجاة
قيل: "إن لكل شيء قصة"؛ لقطرة المطر قصة، لذرة التراب قصة، ولإنسان يجابه آلة القتل آلاف القصص. وكذلك الشِّعر؛ يوجد في كل مكان، على ناصية الطريق المقطوعة بمجنزرة، وداخل أصيص ورد كان يوماً ما علبة حليب للأطفال، وفي الثقوب التي وجدتْ مستقراً لها في جسد هزيل منذ لحظات.
وعلى الرغم مما قيل، ها نحن ننساق كقطيع خلف الرياضيات الحيادية، فنفضّل سماع الأرقام بدلاً عن القصص. وقد يوجد بين من يعاصرون الحدث الآن من هم غير قادرين على التعبير مثلي، فغزة عصية على السرد، ولن تكون مادة أدبية مطواعة. لأن المجزرة المستمرة هناك أكبر من أن تُكفن بقصيدة، والدم لن تقدر رواية أو قصة على لملمته بين سطورها.
في المقابل، هناك مجموعة من الناس استطاعوا التضامن مع غزة على طريقتهم، فأفرغوا ما في قلوبهم من أسى، وخرجوا متظاهرين يصرخون بملء حناجرهم، وأطلقوا غضبهم في الهواء وعبر عدسات الكاميرات. ومنهم من اكتفى بشتم الكيان المحتل بشتائم متنوعة، وغيرهم من بكى قهراً على أحوال إخواننا في القطاع.
أعود لتكرار المحاولة مجدداً... أفكر: ماذا سأقول؟ كيف سأشبه الجثة بسمكة، والصياد هنا لم يستخدم حيلة سوى القتل بوجه بارد؟ كيف سأبني لطفل حياة سابقة وهو يعرف أن البناء مصيره الهدم كما في لعبة الدومينو تماماً؟ كيف سأقنع الضحية أن الدم على صدرها مجرد شراب توت سيزول مع أول غسلة؟ فتعود حالة العجز لتسيطر على رغبتي العارمة في كتابة أي شيء، ولا أستطيع رؤية اللغة سوى أنها رفاهية كبيرة، لدرجة أنني أحسد الذين يمتلكونها الآن.
اللغة اليوم، بالنسبة إلي، كائن بائس مثلنا، في هبوط مستمر، مجرد حروف على جثة مجهولة الهوية، أو كلمات موشومة على ذراع تائهة تحت ركام
يقول الفيلسوف الألماني لودفيغ فيتغنشتاين: "لغتنا يجب أن تعكس بطريقة ما تركيبة هذا العالم". كوني أحد مواطني هذا العالم الذي تحدث عنه فيتغنشتاين، أحاول دائماً عدم الانجرار وراء الخيال. ففي الواقع ما يكفي من أفكار ومشاعر لتلتقطها اللغة. وخصوصاً أن الصدع بين الخيال والواقع، الذي كان يوماً ما شاسعاً، أخذ يضيق شيئاً فشيئاً. فما كنا نراه خيالاً في السابق، صار اليوم حقيقة واضحة لا ريب فيها، حقيقة مطلية بالأحمر لجذب الانتباه.
في السابق، قبل الدم، كانت علاقتي باللغة طيبة. إذ رأيت فيها كائناً أليفاً، يعلو بنا ويهبط حسب أمزجتنا، وكم كان ذلك ممتعاً، وكأننا في أفعوانية، تارة يرتفع الأدرينالين ليبلغ قمة النفس، ثم في وقت قصير يهبط القلب ليستقر بين الساقين. أما الآن، فقد تغيرت نظرتي تلك تماماً. اللغة اليوم، بالنسبة إلي، كائن بائس مثلنا، في هبوط مستمر، مجرد حروف على جثة مجهولة الهوية، أو كلمات موشومة على ذراع تائهة تحت ركام. فاكتشفت أن محاولاتي العبثية تعود إلى أن إحساسي تجاه اللغة قد تغير، وبت أُجري لها جولات تنفس اصطناعي علها تستفيق مجدداً، فأزفر حزني دفعة واحدة. لكن تلك الجولات باءت بالفشل.
اليوم، وبعد يقيني التام بأن غزة كفّنت لغتي، ودفنتها في أرض العجز، أرمي بالورقة البيضاء المدماة إلى جانب هاتفي، وأقول عن الدم دماً، وأشتم ألوان الطيف، وعن القاتل قاتلاً فأصرخ في وجهه، وعن الضحية ضحية وأبكي معها وعليها، وعن الركام ركاماً وأهدم تركيبة هذا العالم القذر التي أراد فيتغنشتاين أن نعكسها باللغة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 22 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.