أدت التوترات في منطقة البحر الأحمر بين الولايات المتحدة ودول أخرى من جانب وجماعة الحوثي في اليمن من جانب آخر، على خلفية الحرب الإسرائيلية على غزة، إلى تأثيرات واسعة النطاق على التجارة الدولية والأمن والاستقرار في منطقة البحر الأحمر. أحد هذه التأثيرات هو عودة القرصنة المنطلقة من سواحل الصومال المطلة على خليج عدن، المواجهة للحدود الجنوبية الغربية لليمن، والقريبة من باب المندب مدخل البحر الأحمر الجنوبي وبحر العرب والمحيط الهندي، والمدخل الجنوبي لقناة السويس.
يُثير ذلك مخاوف من عودة ظاهرة القرصنة التي كلّفت العالم مليارات الدولارات إلى النشاط مجدداً بعد أن توقفت عام 2012 إثر تكاتف الجهود الدولية للقضاء عليها بعدما تسببت في فوضى للشحن الدولي، عدا عن حوادث متفرقة كانت أولاها عام 2017.
لكن ومنذ منتصف كانون الأول/ديسمبر 2023، وثّقت وكالة الأمن البحري البريطانية (UKMTO) ستة حوادث قبالة الساحل الصومالي تراوحت بين اقتراب رجال مسلّحين من سفن واختطاف سفن أخرى.
حوادث متكررة
نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، "اختطف قراصنة صوماليون قارب صيد يمنياً مسجلاً في الصومال قبالة سواحل مديرية إيل بإقليم نغال في ولاية بونتلاند" الصومالية - التي تعد وكراً تاريخياً للقرصنة - وطلبوا فدية 400 ألف دولار للإفراج عن القارب وطاقمه المكوّن من 16 عاملاً إيرانياً ورجلاً صومالياً كان يقوم بمهمة الحراسة، وفق مصادر محلية. وبعد أيام، أفادت وسائل إعلام صومالية بأن البحرية الأمريكية أنقذت سفينة تجارية من محاولة اختطاف على أيدي مسلحين، صُنفوا لاحقاً كقراصنة ينطلقون من الأراضي الصومالية.
عام 2005، نشط القراصنة عبر سواحل الصومال بسبب غياب أي حكم مركزي في البلاد منذ انهيار حكومة محمد سياد بري عام 1991، وحل القوة البحرية الصومالية. واختفت - عدا حوادث فردية على فترات - بعد تضافر جهود المجتمع الدولي للقضاء عليها قبل عقدٍ من الزمن. لماذا عادت القرصنة الآن؟
بعد ذلك بشهر، أعلنت هيئة عمليات التجارة البحرية البريطانية تعرض سفينة تجارية للاختطاف على أيدي مسلحين، أثناء مرورها قبالة السواحل الصومالية، بالقرب من "إيل" - التي تصنف كمعقل للقراصنة في بونتلاند - أيضاً. ومطلع كانون الثاني/ يناير الماضي، أعلنت البحرية الهندية إنقاذها سفينة هندية من محاولة اختطاف قبالة سواحل الصومال. ونهاية الشهر الماضي أيضاً، قالت إدارة مصائد الأسماك السريلانكية إن قراصنة صوماليين اختطفوا سفينة صيد سريلانكية، وعلى متنها طاقم مكون من ستة أفراد.
بوجه عام، حرّرت القوات البحرية في الهند وسيشل أربعة قوارب صيد بعد تحويل مسارها قرب سواحل الصومال، وذلك خلال الفترة بين 29 كانون الثاني/يناير الماضي والثاني من شباط/فبراير الجاري. ومطلع الشهر الجاري، ألقت قوات الأمن في ولاية بونتلاند القبض على مجموعة من ثلاثة رجال كانوا يخططون للقيام بأعمال قرصنة بحرية.
يقول أحمد محمد، عمدة مدينة "علولة" في إقليم بري الساحلي في بونتلاند، إنّ "ما نشهده من محاولات للتعرض للسفن العابرة قبالة سواحل البلاد مؤشر واضح على عودة نشاط القراصنة، وتصاعد وتيرة أعمالهم قبالة سواحل البلاد، والتي بلغت عشر محاولات فاشلة منذ شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي". يتابع في حديثه لرصيف22 بأنّه قد تكون هناك انعكاسات لذلك على الأمن والاستقرار في المنطقة الحيوية للملاحة الدولية، كما أنها "تُغري" الآلاف من الشباب العاطلين عن العمل للانخراط في أعمال القرصنة.
وتُشير التقديرات إلى أن أكثر من 60% من السكان في الصومال تقل أعمارهم عن 25 عاماً وأن ثلثي القوى العاملة ينشط في الأعمال الحرة المتواضعة الأجر.
وقبل عقدٍ من الزمن، كانت القرصنة واحداً من أهم التحديات التي تواجه الصومال والملاحة الدولية، وتحديداً في المناطق الساحلية في ولاية بونتلاند، على الساحل الشمالي البلاد. وبدأت سلسلة استهدافات للسفن في المياه الصومالية والمياه الدولية القريبة منذ العام 2008 وبلغت ذروتها في العام 2011، ثم تراجعت إلى حد كبير منذ عام 2012، بعد العمليات الحربية التي قامت بها أساطيل دولية متعددة في المياه الإقليمية والدولية. علماً أن هذه الظاهرة نشطت بقوة بسبب غياب أي حكم مركزي في البلاد منذ انهيار حكومة محمد سياد بري عام 1991، والذي ترتب عليه حل القوة البحرية الصومالية، فنشط التخلص غير الشرعي من النفايات الضارة والصيد غير الشرعي والقرصنة بالتوازي.
أسباب عودة القرصنة
يقول عبد الرحمن أحمد سيد، رئيس قسم مكافحة القرصنة السابق في وزارة الثروة السمكية والموانئ في حكومة بونتلاند الإقليمية، إنّه من الطبيعي أن يستغل القراصنة الأوضاع المضطربة في المنطقة لإحياء نشاطهم في المياه الإقليمية جنوب البحر الأحمر والمحيط الهندي. ويتابع في حديثه لرصيف22 بأنّ قوات الشرطة البحرية كثّفت من دورياتها في المياه الإقليمية في أعقاب محاولة الاختطاف الأولى لسفينة تجارية بالتعاون مع القوات الدولية.
بحسب البنك الدولي، كلّفت القرصنة - منذ ظهورها في الصومال عام 2005 حتى عام 2013 - الاقتصاد العالمي خسائر كبيرة، قُدّرت بنحو 18 مليار دولار، وأدت إلى رفع رسوم الشحن الدولية، وتلقى القراصنة في ذروة نشاطهم نحو 53 مليون دولار سنوياً فديةً . مخاوف من تكرار هذه المحنة بعد عودة نشاط القراصنة مستغلين التوترات في البحر الأحمر
بدوره، يوضح الباحث والأكاديمي موسى أحمد عيسى، أنّ استمرار التوترات في منطقة البحر الأحمر سيكون له تأثير على عمليات مكافحة القرصنة المشتركة التي تجريها القوات البحرية الدولية، لا سيّما في ظل استمرار هجمات الحوثيين على السفن وطرق الملاحة الدولية، وهو الأمر الذي يمنح القراصنة براحاً لمواصلة نشاطهم الإجرامي قبالة سواحل البلاد. يقول عيسى لرصيف22 إنّ "القرصنة سيكون لها تأثيرات سلبية على الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي، وإرباك خطوط الملاحة البحرية العالمية"، داعياً إلى دراسة أسباب القرصنة ومعالجة جذورها الاقتصادية داخل الصومال لضمان القضاء عليها بشكل جذري.
ويرى الأدميرال فارح أحمد عمر قري، رئيس الهيئة الوطنية للبحوث والدراسات البحرية، أنّ "الصومال يواجه العديد من التحديات الأمنية بما فيها تواجد حركة الشباب وعصابات القرصنة وكلتاهما تستغل الفراغ الأمني على طول الحدود والسواحل للتنقل بكل سهولة". ويشير إلى أن الأوضاع المضطربة التي تشهدها منطقة البحر الأحمر ستخلق المزيد من عدم الاستقرار الأمني، كما تشجع على تنامي القرصنة.
ويردف في حديثه لرصيف22 بأنّه على الرغم من وجود العديد من الاختلافات بين القراصنة الصوماليين وجماعة الحوثي اليمنية من حيث الأهداف والدوافع والأيديولوجيا والإمكانات، لكنهما يتفقان في تعريض الملاحة الدولية للخطر، لافتاً إلى أنّ القراصنة يعتبرون أنفسهم حماة المياه الصومالية ضد الصيد غير الشرعي وإلقاء النفايات الخطيرة. يقول قري: "القرصنة مشكلة للصومال ودول العالم، إلا أنها ليست أكبر من الجرائم التي تُرتكب في مياه البلاد، من سرقة الثروات البحرية وإلقاء المخلفات الخطرة من سفن الشركات الأجنبية".
في 2018، كشف تحقيق لمراسلة "بي بي سي" في الصومال، آن سوي، حول البيئة التي نشأ فيها القراصنة أنّ العديد من صيادي الأسماك الذين خسروا مورد رزقهم بسبب سفن الصيد الأجنبية غير الشرعية لجأوا إلى القرصنة كبديل للحصول على دخل مادي. وأشار التحقيق إلى أنّ العديد من المقاتلين في ميليشيات أمراء الحرب السابقين مارسوا القرصنة بهدف الحصول على الثروة عبر الفدية.
تبعات اقتصادية محلية وعالمية
بحسب البنك الدولي، كلّفت القرصنة الاقتصاد العالمي خسائر كبيرة، قُدرت بنحو 18 مليار دولار، وأدت إلى رفع رسوم الشحن الدولية، وتلقى القراصنة في ذروة نشاطهم نحو 53 مليون دولار سنوياً من الفدية بين عامي 2005 و2013
"القرصنة مشكلة للصومال ودول العالم، إلا أنها ليست أكبر من الجرائم التي تُرتكب في مياه البلاد، من سرقة الثروات البحرية وإلقاء المخلفات الخطرة من سفن الشركات الأجنبية"... دعوات إلى حل أسباب أزمة القرصنة عبر الصومال من جذورها لضمان عدم نشاطها مجدداً، لا سيّما محاربة الفقر والبطالة في صفوف الشباب الذين يمثّلون أكثر من 60% من السكان
أما عن تأثير القرصنة الجديدة على الاقتصاد الوطني، فيقول نستيح عمر إبراهيم، مدير شركة هلاع للإلكترونيات، إن الصومال يعتمد بشكل شبه كلي على استيراد البضائع من الخارج، ما يعني تأثره كغيره من دول المنطقة بالتوترات المتصاعدة في البحر الأحمر، متابعاً لرصيف22، بأنّ حركة الشحن البحري تواجه العديد من الصعوبات منها مخاطر القرصنة، ما أدى إلى ارتفاع أسعار شحن الحاويات بنسبة تصل إلى 50%، كما أنّ هناك تكدساً للسفن في الموانئ الجيبوتية، وهو الأمر الذي سيخلق تبعات اقتصادية كبيرة، على حد تقديره.
بدوره، يضيف عبد الله أبو بكر عبدلي، أستاذ الاقتصاد في جامعة هرمود الخاصة، أنّ الاقتصاد الصومالي يعتمد في المقام الأول على تصدير الثروة الحيوانية للخارج، والتي تُسهم بـ 40% من إجمالي الناتج المحلي. يقول لرصيف22 إنّ التوترات المتصاعدة في منطقة البحر الأحمر تنطوي على العديد من المخاطر الاقتصادية المتمثلة في تعطيل الممرات البحرية للتجارة العالمية، وارتفاع كلفة التأمين على الشحن البحري ستضاعف من حجم الأعباء التي يواجهها أصحاب الأعمال والمستهلكين في الصومال على السواء، وهو ما قد ينعكس بشكل مباشر على ارتفاع أسعار السلع ويزيد من حجم المعاناة التي يعيشها الصوماليون.
ويحذر عبدلي من أنّ طول أمد هذه التوترات وتبعاتها من شأنه أن يُلحق الضرر بالاقتصاد الذي يتعافى من أزمات متفاقمة جراء ارتفاع معدلات التضخم، كما قد يؤثر على المعروض من السلع المستوردة بما فيها الطاقة.
كان العمل الدولي-المحلي العامل الحاسم في القضاء على القرصنة البحرية قبل عقدٍ، لكن بعد ذلك لم تحدث معالجة لجذور المشكلة، والمتمثلة إلى حد بعيد في البطالة والفقر. لهذا استغل عشرات الأفراد الانشغال الدولي بالتوتر في جنوب البحر الأحمر لمعاودة نشاط القرصنة، بهدف اختطاف السفن والطواقم العاملة عليها، وطلب فديات مالية مقابل إطلاق سراح الأطقم والسماح للسفن بالمغادرة. ساعد على ذلك أيضاً تكرار حوادث القرصنة عبر ولاية بونتلاند انتهازاً للاضطرابات السياسية التي شهدتها في أواخر العام الماضي.
وكان الفاعلون في الولاية من وظّفوا القوات الأمنية المنقسمة الولاء، بما فيها قوات الشرطة البحرية المسؤولة عن مكافحة القرصنة والأنشطة غير الشرعية، وهو ما أثر على الأمن في مناطق من الولاية بما فيها السواحل على البحر الأحمر. يؤكد ذلك ضرورة معالجة الأزمات الداخلية التي تغذّي ظاهرة القرصنة في الصومال، جنباً إلى جنب مع حل التوترات التي يسببها استمرار الحرب على غزة، لتفادي تكرار سنوات ازدهار القرصنة.
إلى ذلك، توقع الباحث في مجموعة الأزمات الدولية، عمر محمود، في حديث إلى وكالة فرانس برس، أن خوادث القرصنة الأخيرة لن تعدو كونها "هجمات مركزة أكثر من مؤشر على عودة ظهور القرصنة على نطاق واسع"، مستدركاً بأن الناس في إيل لا يعتقدون بعودة "العصر الذهبي" للقرصنة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...