تقضي أمل حلمي (26 عاماً) ساعات طويلة في وظيفة مرهقة تتطلب منها مجهوداً ذهنياً وبدنياً ثم تعود إلى بيتها تعبة تتوق إلى النوم استعداداً ليوم جديد من دورة الإرهاق نفسها. كان الراتب في البداية يكفي بصعوبة، لكنها كانت سعيدة لمجرد الحصول على عمل شبه مستقر إلى أن أخذت قفزات التضخم والغلاء في مصر تآكل راتبها بأسرع مما اعتادت، فألقت صديقة لها بوسيلة تسرية عن نفسها وإزجاءً لوقت التفكير والقلق، سرعان ما تحولت في نظرها إلى طوق نجاة.
تحكي حلمي لرصيف22 -بعد تواصل عن طريق واتسآب- أن ظروفها المالية شجعتها على الاستجابة لما اقترحته صديقتها بـ"استثمار" مدخراتها القليلة في تطبيق شهير لألعاب المراهنة على الفرق الرياضية عبر الموبايل: "قالتلي الـ5000 جنيه هيبقى 20 ألف في ظرف أسبوع، أنا مجربة وتعالي متخافيش".
تمكنت أمل بالفعل من تحقيق مكاسب كبيرة في البداية، إلا أن الشعور بالندم بدأ يتسلل إليها بعد خسارتها المادية الأولى، معتبرة ذلك عقاباً إلهياً لاستجابتها لنصيحة صديقتها رغم معرفتها بتحريم المقامرة دينياً: "فعلاً أنا غلطانة إني سمعت كلامها وأنا عارفة أنه حرام بس أنا كابرت وأستاهل اللي يحصلي".
تحكي حلمي لرصيف22 أن ظروفها المالية شجعتها على الاستجابة لما اقترحته صديقتها بـ"استثمار" مدخراتها القليلة في تطبيق شهير لألعاب المراهنة على الفرق الرياضية عبر الموبايل: "قالتلي الـ5000 جنيه هيبقى 20 ألف في ظرف أسبوع، أنا مجربة وتعالي متخافيش"
فما كانت الأسباب الدينية التي تبعت الخسارة دافعاً لأمل للبدء في مقاومة إدمانها ألعاب الكازينو الموجودة على متجر تطبيقات هاتفها الذكي، اختار كريم محمد تجاهل تلك الأسباب لأنه طوّر طريقة ظنها مضمونة لاستمرار تدفق المكاسب على نفس التطبيق: "أنا كنت بكسب في الأسبوع 5000 جنيه وده من 200 جنيه بس شحنتهم على البرنامج؛ بس أنا كنت براهن على حاجة غير الفوز والخسارة، يعني كنت بشوف الإحصائيات بتاعت كل فريق الأول واخش أرمي يعني مثلاً ممكن أرمي على الفولت أو الركنية أو عدد الأهداف، أنا كسبت كتير اشتغلت على البرنامج بتاع تلت شهور بس الفلوس بتيجي وبتروح إنما بتاخد الفلوس الحلال معاها".
"محدش ضربِك على إيدِك"
مرت أمل حلمي بالدورة التي يمر بها كل مقامر جديد؛ فلم تغامر في البداية باللعب بمبالغ كبيرة، إلا أن المكاسب الكبيرة التي حققتها مرة تلو الأخرى، شجعتها على اللعب بمبالغ أعلى للحصول على مكاسب أكبر، لكن جرت النتيجة المعروفة: لم يحالفها الحظ أو برمجة بالأحرى، فخسرت ما قامرت به: "جربت بمبلغ بسيط ولقتني بكسب وكتير وهي كل مرة (تقصد صديقتها) تقولي ما تكبري المبلغ، لحد ما اتفقنا نحط 5 آلاف مرة واحدة في مرة من المرات ونشوف المكسب، ومكنتش عارفة أنها مكسب وخسارة، بحسب ديماً مكسب وتشغيل فلوس وكدا، وخسرت كل فلوسي بضغطة زرار وبقا مش معايا ولا جنيه".
تجمع منتديات محبي الألعاب الإلكترونية على كون ألعاب المراهنات الرقمية (عبر الإنترنت) مصممة جميعها لتودي بمستخدميها إلى نفس النتيجة، اعتماداً على تكرار شبه متطابق لسلوك المقامرين
تجمع منتديات محبي الألعاب الإلكترونية على كون ألعاب الكازينو الرقمية (عبر الإنترنت) مصممة جميعها لتودي بمستخدميها إلى نفس النتيجة، اعتماداً على تكرار شبه متطابق لسلوك المقامرين.
بحسب دراسة لجوليا بريفرمان وهوارد شافر نشرتها الدورية الأوروبية للصحة العامة، فإن الوارد جديداً لعالم المقامرة والمراهنات يكون مدفوعاً بعاملين أساسيين: الافتقاد للروابط الأسرية القوية، ومواجهة ضغوط مادية لا يرى سبيلاً واقعياً للتغلب عليها. ترصد الدراسة أن المقامر يقترب أولاً من المقامرة بحذر ليختبر إمكانية الفوز فيبدأ بمبالغ صغيرة تغريع المكاسب على زيادتها تدريجياً، عند نقطة معينة لا يعود المكسب والخسارة محركين وحيدين، فالمقامر تتولد لديه ذهنية الإيمان بالقدرة على خداع اللعبة Gambler's fallacy ويستمر في مدفوعاً بشهوة اللعب نفسه التي باتت مقدمة على شهيته للفوز، ومن هنا يترسخ الإدمان.
عادت أمل إلى صديقتها باكية بعد الخسارة التي تكبدتها، لكن صديقتها تخلت عنها هذه المرة، تقول أمل: "رجعتلها بعيط وبقولها خسرت قالتلي كلام يسم البدن ووجعتني وقالتلي محدش ضربك علي إيدك".
ترصد الدراسة أن المقامر يقترب أولاً من المقامرة بحذر ليختبر إمكانية الفوز فيبدأ بمبالغ صغيرة تغريع المكاسب على زيادتها تدريجياً، عند نقطة معينة لا يعود المكسب والخسارة محركين وحيدين، فالمقامر تتولد لديه ذهنية الإيمان بالقدرة على خداع اللعبة
بحسب منتديات مرتادي الألعاب الإلكترونية المفتوحة على شبكة الإنترنت، فإن ألعاب الكازينو الرقمية مصممة بحسب تشريح ذهنية المقامر التي رصدتها الدراسة السابق ذكرها، فيجد المقامرون الجدد مثل أمل حلمي انفسهم يقتربون بحذر ويدفعون بمبالغ صغيرة تعمل اللعبة على إغرائهم من خلالها بإعطائهم مكاسب تتناسب مع حجم تلك المبالغ التي دفعوا بها، وعند نقطة معينة بحسب تحليل التطبيق لسلوكهم في المقامرة، تبدأ الخسائر تتبادل مكانها مع المكاسب حتى يخسر المقامر مبالغ كبير تحقق من خلالها اللعبة مكاسبها، إلى أن المصابين بذهنية الإدمان لا يتوقفون عن اللعب حتى وإن تعاظمت خسائرهم وديونهم، وهو ما حدث مع كريم محمد.
خسائر أكبر من المال
الخسائر التي لحقت بكريم لم تكن مادية بالضبط، يقول كريم لرصيف22 في محادثة عبر فيسبوك ماسنجر "بالعكس أنا كسبت ييجي 60 ألف جنيه في 3 شهور، لكن مبقاش فارق المكسب والخسارة بقيت بالعب طول الوقت. أنا لعبت تلت شهور وكنت بكسب كل أسبوع وكسبت بتاع ستين ألف منه، لكن تعبت وسبت الشغل بتاعي وكنت فاشل وكنت بعيد عن ربنا، بس حد كلمني وقالي ده كله من اللعب على البرنامج".
يرى كريم أن ما تعرض له من فصل من عمله والمشاكل الصحية التي مر بها "عقاباً من الله له"، الأمر الذي دفعه إلى التوقف عن المراهنات الإلكترونية: "تعب ورفد ربنا بيعاقبني، وأنا خلاص مش عاوز فلوس حرام".
في الوقت الذي تمكن فيه كريم من النجاة بنفسه من مخاطر المراهنات الإلكترونية لا تزال أمل تعاني من إدمانها أملاً في تعويض خسارتها، تقول لرصيف22: "أنا نفسي فلوسي ترجع ومش عاوزة أقرب من الحاجات دي تاني". أملها في تعويض خسارتها لم يتحقق حتى الآن، مؤكدة عدم صحة ما ينشره بعض مروجي هذه الألعاب على "جروبات فيس بوك" من مساعدة الخاسرين في استرداد أموالهم: "بياخدوا فلوس طبعا وكله كدب في كدب"، واختتمت حديثها: "متاكلش حرام عشان الحرام هياكلك".
تشويه للسلوك
يقول الدكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي، لرصيف22 إن خسائر إدمان المراهنات الإلكترونية تكون كارثية في بعض الحالات، موضحاً أن المراهقين يلجأون إلى السرقة للحصول على المال والتمكن من المراهنة على هذه المواقع، أما في الشباب الأكبر سناً تصل خطورتها إلى تكبد خسائر مادية فادحة، والتورط في عمليات نصب، وترك العمل، وتراكم الديون.
على الرغم من تجريم القانون المصري (قانون العقوبات الرقم 37 لسنة 1957 وتعديلاته) للمراهنات بشكل تام وعدم إتاحتها إلا لحاملي جوازات السفر الأجنبية في فنادق ونوادٍ مختارة، فإنّ المواقع والتطبيقات الإلكترونية تدع الباب مفتوحاً أمام المصريين لممارسة أشكال مختلفة من المراهنات والمقامرة، ويصنف موقع Mighty Tips المختص في المراهنات الرياضية، 14 موقعاً - وقت نشر هذا التقرير- تتيح المراهنة على الفرق الرياضية للمصريين.
عادت أمل إلى صديقتها باكية بعد الخسارة التي تكبدتها، لكن صديقتها تخلت عنها هذه المرة، تقول أمل: "رجعتلها بعيط وبقولها خسرت قالتلي كلام يسم البدن ووجعتني وقالتلي محدش ضربك علي إيدك"
استصدار قانون جديد
يوضح لرصيف22 شادي طلعت، مدير منظمة اتحاد المحامين للدراسات القانونية والديمقراطية، أن حكم التجريم في القانون المصري لا يُطبق على كل الألعاب الإلكترونية التي تعتمد على المراهنات، بل يُطبق على الألعاب التي تعتمد على الحظ فقط وليس المهارة، فإذا توفر شرط المهارة في المواقع الإلكترونية للحصول على المال فلا تقع المراهنات في هذه الحالة تحت طائلة قانون العقوبات المصري.
أضاف شادي أن المراهنات، كالمراهنة على فوز أحد الفرق الرياضية مثلاً، شكل من أشكال القمار، الذي يحدد مدى جواز أو تحريم لعبه في مصر قانون العقوبات المصري 73 لسنة 1957، فوفقاً لنص المادة 352 كل من أعد مكاناً لألعاب القمار وهيأه لدخول الناس يعاقب هو وصيارفة المحل المذكور بالحبس وبغرامة لا تزيد عن 1000 جنيه، مشيراً إلى أن القانون الرقم 1 لسنة 1973 في شأن المنشآت السياحية، أجاز عبر المادة الرقم 3 مزاولة ألعاب القمار في المنشآت الفندقية السياحية لغير المصريين وبقرار من وزير السياحة، كما يحدد القرار المنشآت الفندقية والسياحية التى يجوز لغير المصريين مزاولة ألعاب القمار فيها، وشروطها والإتاوة المستحقة عليها بما لا يتجاوز نصف إيرادات ألعاب القمار.
بالإضافة إلى ذلك، نصت المادة 21 من القانون نفسه على معاقبة كل من خالف أحكام المادتين 2 و3 من هذا القانون بالحبس مدة لا تزيد عن 6 أشهر وبغرامة لا تتجاوز 500 جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، فضلاً عن الحكم بغلق المنشأة، ويجوز لوزير السياحة فى هذه الحالة غلقها إدارياً بصفة مؤقتة إلى أن يصدر حكم.
عن مدى إمكانية توقيع قانون العقوبات المصري على مواقع المراهنات الإلكترونية، أكد طلعت أنه يُطبق على هذه المواقع إذا كانت تابعة لشركات مصرية، ولا مجال لتطبيقه على المواقع التابعة لدول أجنبية تسمح قوانينها بلعب القمار، ولكن يمكن توقيع العقوبة على المصريين الذين يرسلون أموال إلى الخارج بعد أن تحول أو تستبدل بالدولار الأمريكي، فإذا لم تعد تلك الأموال إليهم مرة أخرى فإنهم يخضعون لقانون العقوبات المصري بتهم تخص القمار والإضرار بأمن الدولة.
لا تزال هناك حاجة ملحة لوضع عقوبات قانونية جديدة لوقف خطر انتشار مواقع المراهنات الإلكترونية في مصر، حيث رأى مدير منظمة اتحاد المحامين للدراسات القانونية والديمقراطية أنه من الضروري استصدار قانون جديد يحرم صراحة لعب القمار على المواطنين وليس القائمين على ألعاب القمار، مؤكداً إمكانية متابعة أرقام حسابات المواطنين ومعرفة مصادر صرفها في الخارج، بالإضافة إلى أن الدولة قادرة على وقف بث جميع إعلانات المواقع الإلكترونية ذات الألعاب القائمة على المراهنات، فضلاً عن أن البنوك المصرية قادرة على عدم السماح للمواطنين بتحويل الأموال إلى الخارج أيضاً.
التوعية أجدى من الحجب
التوعية أكثر جدوى من حجب مواقع المراهنات، وفقاً لما يراه ياسر علي خبير أمن المعلومات في حديثه لرصيف22، مبرراً ذلك أن حجب المواقع الإلكترونية أصبح أمراً شاقاً إلى حد ما وأقل كفاءة، لأن الشركات المالكة لها تحرص على تصميمها بطرق متقدمة للغاية حتى يصعب حجبها، بالإضافة إلى أن المستخدمين أنفسهم أصبحوا قادرين على اختراق الحظر من خلال تحميل "VPN"، ومن ثم الدخول عليها دون أي عائق.
شدد خبير أمن المعلومات على ضرورة وضع خطة ممنهجة ومستمرة للتوعية بمخاطر هذه المواقع، لافتاً إلى أن التوعية لا يجب أن تقتصر على وسائل الإعلام فقط بل لا بد أن تشمل المناهج الدراسية أيضاً، حتى يكون الطلاب على دراية بالاستخدام الآمن للإنترنت والحماية الإلكترونية وما إلى ذلك، كما ناشد المواطنين بتقديم بلاغ لمباحث الإنترنت ضد المروجين لمواقع المراهنات الإلكترونية على وسائل التواصل الاجتماعي، لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة ضدهم.
(سكرين شوت السعدي)
خطة العلاج
يؤكد الخبير النفسي الدكتور جمال فرويز إن هناك برامج علاجية في مصر لمدمني المراهنات، وأن جلسات العلاج السلوكي والنفسي تعطي نتائج رائعة جداً.
وبيَّن فرويز أن خطة العلاج تختلف من حالة لأخرى، فمثلاً إذا كانت الحالة تعاني من الاكتئاب أو اضطرابات في النوم ففي هذه الحالة يصف الطبيب أدوية بجانب جلسات العلاج المعرفي السلوكي، مضيفاً أن هناك حالات أخرى تستلزم الإقامة في مكان آمن لمدة تراوح من أسبوعين إلى شهر كامل، لضمان ابتعادها عن أجهزة الكمبيوتر والهاتف المحمول تماماً، لأن وجودها في المنزل يشكل خطراً عليها ويعيق العلاج، مشيراً إلى أن المشكلة الأساسية تكمن في اضطراب الشخصية وبمجرد علاجه والسيطرة عليه يتعافى الشخص نهائياً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.