شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
كوارث تردّ الروح إلى الكتب... من هجمات نيويورك إلى العدوان على غزة

كوارث تردّ الروح إلى الكتب... من هجمات نيويورك إلى العدوان على غزة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والحقيقة

الخميس 15 فبراير 202411:31 ص

لبعض الكوارث، من غير قصد ولا توقُّع، آثار جانبية، إيجابية تردّ الروح إلى بعض الكتب، تضعها في إطار مناسب، فتنهض من الغياب، وتجيب عن أسئلة اللحظة. تابعتُ وقائع من هذا القبيل، كنت عضواً في هيئة تحرير مجلة "سطور" القاهرية، عام 1998، وفيه بدأت دار سطور نشر كتب مترجمة، أولها "سيرة النبي محمد" لكارين أرمسترونغ، ترجمة محمد عناني وفاطمة نصر، وقد ترجما في ذلك العام للمؤلفة نفسها كتاب "القدس: مدينة واحدة عقائد ثلاث" المنشور في نيويورك قبل عامين. وحين اقتحم أرييل شارون المسجد الأقصى، في 28 أيلول/سبتمبر 2000، واندلعت الانتفاضة الفلسطينية، جاءنا رسول يطلب نسخاً من كتاب "القدس: مدينة واحدة عقائد ثلاث"، قال إنهم في وزارة الخارجية يحتاجون إلى هذه النسخ؛ لمعرفة تاريخ المدينة!

فكرتُ في تلاميذ يفاجئهم امتحان، وفي اللّهْوجة يستعجلون، ويمدّون أيديهم إلى المتاح من إسعافات أولية، يراجعونها على أبواب لجنة الامتحان.

راج كتاب القدس رواجاً يرشحه لاستمرار الصعود؛ ففلسطين جرح لا يتوقف نزيفه، لولا هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، وكان طلعت الشايب قد نشر عام 1998، في دار سطور أيضاً، ترجمة كتاب صامويل هنتنغتون "صدام الحضارات... إعادة صنع النظام العالمي"، وقوبل الكتاب بما تقابل الكتب، عقب تخمة طوفان من كتب العولمة التي الْتهمت عقد التسعينيات، بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، فإذا بهجمات نيويورك تربك التوقعات، وتضاعف الطلب على ترجمة كتاب هنتنغتون، فصدرت منه عدة طبعات.

من الداخل الفلسطيني تراسلني صديقة فلسطينية، تكتب إليّ صرخات مكتومة، وترسل مقاطع فيديو وتحذفها، لن تحميها الجنسية الإسرائيلية إذا كتبت سطراً في الفيسبوك أو نشرت تغريدة، تختنق وتريد الصراخ، ليست أفضل ممن قتلوا في المواجهات، ولا في الشارع

ولا يتشابه هنتنغتون والمؤرخ الأمريكي هوارد زِن (1922 ـ 2010)، الأول أعلى صوتاً، لسان لحظة أمريكية منتشية بالاستفراد بإدارة العالم، والثاني أقل شهرة وأكثر عمقاً، ويلقى فتوراً من مؤرخين أمريكيين رسميين يكرسون الرواية التقليدية لتاريخ بلادهم، عزفٌ منفرد، وحده تقريباً وقف هوارد زِن في مواجهة زملاء يزعجهم وجوده، منذ نشر كتابه "التاريخ الشعبي للولايات المتحدة" (1980). وتُرجم الكتاب بعد مصادفة لقاء مؤلفه الأمريكي ومترجمه المصري، الدكتور شعبان مكاوي (1963 ـ 2005)، وصدرت الترجمة في مجلدين عن المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، عام 2005، قبل أسابيع من وفاة مترجمه الذي لم يمهلني الوقت ولم يسعدني الحظ بلقائه.


قرأت الكتاب المترجم حين نشر، وكتبت عنه، والخطوة التالية تنتهي به إلى الرفّ، بين إخوته من الكتب عن الحالة الأمريكية، بعضها أستعيده، والبعض قلما أنفض عنه الغبار؛ يحدث أحياناَ إذا ألجأني احتياج أو حدثٌ كبير، ولم تكن الولايات المتحدة ـ منذ غزو العراق حتى الاعتراف الدولي بحكومة طالبان ـ موضعاً لاحتياج أو حدث كبير، ولم أراجع الكتاب طوال تلك السنين، ثم قامت القيامة الفلسطينية، بطوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وما تلاه من عدوان يستهدف محو غزة والخلاص من أهلها، فأعدتُ قراءة الكتاب، لمعرفة الأصل الأمريكي، نيغاتيف الإبادة، وكيف تنسخه إسرائيل منذ نكبة 1948، في طبعات غير مزيدة، وأحياناً منقّحة لتجميل الصورة، بحكم انفتاح إعلامي يؤرق الضمير الإنساني، ولا يسمح بتكرار مأساة السكان الأصليين، تلك الإبادة الصامتة.

أعدت قراءة كتاب "التاريخ الشعبي للولايات المتحدة"، وترحّمت على المترجم شعبان مكاوي الذي أنهى المقدمة بشكر الدكتور محمد هشام، وكذلك "السيدة النبيلة عزة طه، زوجة أخي الأصغر، التي منحتني الفص الأيمن من كبدها لكي أعيش وأتم ترجمة هذا الكتاب وأمارس حياتي التي كان يهددها طائر الغياب"، أما الشكر والامتنان فإلى "صديقتي وزوجتي سماح صلاح التي أصرت على أن تقوم بكتابة ترجمة الكتاب على الكمبيوتر بنفسها... كتبت الترجمة بإصبع واحدة أو إصبعين". وبعد أن نشرتُ مقالاً عن أهمية الكتاب، تصادف أن قرأته السيدة سماح، فأرسلت إليّ رسالة استأذنتها في نشرها، تقول فيها: "كنت أظن أن الكتاب انتهى بنهاية مترجمه، ولكنك منحت له الحياة من جديد".

كتاب "التاريخ الشعبي للولايات المتحدة"

وعلى الرغم من تعدد مراكز الترجمة في العالم العربي، تأخرت ترجمة هذا الكتاب، وجاءت ثمرة مصادفة، ومبادرة من باحث شاب، ففي عام 1998، تقابل المترجم والمؤلف، بصحبة المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد. كان شعبان مكاوي باحثاً زائراً بجامعة ماساتشوستس، وأنصت إلى مؤرخ لم يسمع اسمه، وقرر ترجمة كتابه، لتعبيره "عن الثقافة الأمريكية بكافة تجلياتها، وإن اتخذ من التاريخ مادة ووسيلة". قارن المترجم الطبعات المختلفة، وآخرها طبعة 2003 بإضافاتها التي أرسلها إليه المؤلف. وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق أرسل المترجم إلى المؤلف يسأله إن كان يريد إضافة شيء؟ فأمدّه بإضافة، ومقدمة للطبعة العربية، يتبرأ فيها مما تسميه أمريكا حرباً على الإرهاب، "وهذه الكذبة تتجاهل حقيقة مهمة وهي أن الحرب نفسها إرهاب".

سلوك الإبادة والإقصاء استعارته الدولة الصهيونية، وإذا اضطرت إلى احتمال فلسطينيين في مناطق 1948 فهم أدنى درجة، ويدرسون مناهج عنصرية تحقّر العرب عموماً. 

أرّخ هوارد زِن انتفاضات السكان الأصليين وثوراتهم وهزائمهم، وبعد جولات من حروب الإبادة والترحيل إلى الغرب الأمريكي، تأكد للرجل الأبيض الغازي أنهم يستعصون على الفناء، فعمد إلى وضعهم في محميات، لا يريد أن يراهم، ولا يعترف بهم آدميين. سلوك الإبادة والإقصاء استعارته الدولة الصهيونية، وإذا اضطرت إلى احتمال فلسطينيين في مناطق 1948 فهم أدنى درجة، ويدرسون مناهج عنصرية تحقّر العرب عموماً. ولم يعش هوارد زِن ليرى الرد الفلسطيني البليغ للمقاومة في غزة، طوال أكثر من أربعة شهور، وكيف اخترعت مصطلحاً طازجاً من خارج المعاجم: "المسافة صفر"، الجندي صاحب الحق يتحدى أقوى جيش في المنطقة.

من الداخل الفلسطيني تراسلني صديقة فلسطينية، تكتب إليّ صرخات مكتومة، وترسل مقاطع فيديو وتحذفها، لن تحميها الجنسية الإسرائيلية إذا كتبت سطراً في الفيسبوك أو نشرت تغريدة، تختنق وتريد الصراخ، ليست أفضل ممن قتلوا في المواجهات، ولا في الشارع، ولا في المعتقلات، وتستجيب لتوسلات أمها أن تصبر، اعتقالها لن يفيد المقاومة، الكثيرون من حملة الجنسية الإسرائيلية تعاطفوا بسطور قليلة، في هذه الحالة يصنفون كفلسطينيين، ويعتقلون بتهمة "دعم العدو في وقت الحرب"، الاحتلال يعتقل فلسطينيي 48 إذا كتبوا أيّاً من هذه العبارات: "لا غالب إلا الله"، "الله مع الحق"، "لينصرنّ الله من ينصره". تكتب إليّ الصديقة في واتساب: "هنا تموت اللغة، تموت الإنسانية، تموت العروبة، ويبقى إيمان يزداد رسوخاً بالله، لا أعرف من أين يأتي، وكأنه في الهواء نتنفسه"، "حتى كتابة كلمة فلسط... يني دون تشفير يعتبرها قتلة الأطفال إرهاباً".

رسائل من فلسطين

صورة الإرهاب الصهيوني هنا تنتمي إلى أصل نيغاتيف هناك، في عام 1991 ألقي القبض على ناشط اسمه كيث ماكينزي، في الساحل الغربي للولايات المتحدة، "مع المئات وهم يوزعون طعاماً مجانياً على الفقراء، بدعوى عدم الحصول على تصريح بذلك! وقد كانوا ضمن برنامج يدعى الطعام لا القنابل"، رفضاً للحرب على العراق، وقبل بدء الحرب بنحو شهرين رفع محاربون قدماء لافتات تقول: "الدم والبترول لا يمتزجان"، وقام الجندي القعيد في حرب فيتنام رون كوفيك، مؤلف كتاب "وُلد في الرابع من يوليو"، بتوجيه تحذير تلفزيوني إلى الأمريكيين: "يجب أن تنهضوا لتقولوا كلمتكم ضد الحرب. كم أمريكياً آخر سيحضر إلى بلده مرة أخرى على كرسي متحرك... مثلي... كم أمريكياً يلزمنا كي نعي الدرس؟".

ويسجل هوارد زِن أكثر الاحتجاجات تراجيدية بقيام محارب قديم في لوس أنجلوس، شارك في حرب فيتنام، بإشعال النار في نفسه، فمات احتجاجاً. وتكرر الاعتراض حرقاً بإشعال شاب في إحدى ساحات ماساتشوستس النار في نفسه. واعترض أربع عشرة مجموعة من جنود الاحتياط في كارولينا الشمالية، غير مبالين بالمحاكمة العسكرية، واتهامهم بالفرار من الجندية. وأذيعت في الراديو خطبة ألقاها نعوم تشومسكي في جامعة هافارد. وقامت الحرب الأمريكية على العراق، كما يستمر العدوان على غزة على الرغم من أصوات الضمير في العالم.

هل ننتظر خمسمئة سنة حتى يشملنا التغيير هنا، وتُردّ حقوق الفلسطينيين باعتبارهم أصحاب الأرض، وتتحطم تماثيل هرتزل وبن غوريون؟ أم تكون يقظة الضمير العالمي أكثر سرعة وتأثيراً لحرق المراحل، واختصار زمن الاحتلال، وتقويض مظاهره، والتعجيل بنهايته؟

وفي العام التالي، الذكرى الخمسمئة للوصول إلى العالم الجديد، قامت مظاهرات ضد تكريم كولومبس، وفي كاليفورنيا أُعلن 12 تشرين الأول/أكتوبر 1992 "يوماً عالمياً للتضامن مع السكان الأصليين"، وقرروا إبلاغ ملك إسبانيا "باعتذار رسمي عن الغزو"، واتسع نطاق الاعتراضات، فوضعت لافتة "معرض تعليم العنصرية" على لوحة لإحدى سفن كولومبس في متحف فلوريدا للتاريخ الوطني، أما المجلس القومي للكنائس فطالب المسيحيين بعد الاحتفال بيوم كولومبس قائلاً: "ما يمثل الحرية والأمل للبعض يعتبر اضطهاداً وإبادة جماعية واحتقاراً للبعض الآخر".


إسقاط تمثال كولومبس

جرى الاحتجاج على كولومبس في أكثر من دولة، ففي هاييتي حطموا تمثاله، وأعلنوا حق السكان الأصليين في إقامة تماثيل بديلة. وتمت السخرية من تمثيل الولايات المتحدة لمبادئ الحرية والمساواة، كما أثير الاهتمام بحياة الملايين قبل وصول كولومبس، في تكذيب لمؤرخ هارفارد بيري ميللر الذي تحدث عن "انتقال الثقافة الأوروبية إلى اليباب الخاوي في أمريكا".

كأن هذا المشهد يتحدث عن فلسطين، من الخشونة العنصرية الحالية وصولاً إلى آباء الصهيونية، وعلى رأسهم تيودور هرتزل، في ادعائهم أن فلسطين "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". فهل ننتظر خمسمئة سنة حتى يشملنا التغيير هنا، وتُردّ حقوق الفلسطينيين باعتبارهم أصحاب الأرض، وتتحطم تماثيل هرتزل وبن غوريون؟ أم تكون يقظة الضمير العالمي أكثر سرعة وتأثيراً لحرق المراحل، واختصار زمن الاحتلال، وتقويض مظاهره، والتعجيل بنهايته؟

ويبقى كتاب "التاريخ الشعبي للولايات المتحدة" وثيقة مهمة. لكنه لم يعد متاحاً، وإعادة طباعته تنتظر ناشراً عربياً يتحلى بالصبر لطبع المجلدين. ونشر كتاب مؤسس ليس مغامرة بخسارة مادية، فهذا الكتاب ينتظره قارئه ويبحث عنه، كما سيخلق قارئاً جديداً. ولا أتمنى أن يعاد نشره في مصادفة، كما كانت ترجمته مصادفة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ألم يحن الوقت لتأديب الخدائع الكبرى؟

لا مكان للكلل أو الملل في رصيف22، إذ لا نتوانى البتّة في إسقاط القناع عن الأقاويل التّي يروّج لها أهل السّلطة وأنصارهم. معاً، يمكننا دحض الأكاذيب من دون خشية وخلق مجتمعٍ يتطلّع إلى الشفافيّة والوضوح كركيزةٍ لمبادئه وأفكاره. 

Website by WhiteBeard
Popup Image