على مدار العصور الإسلامية، هاجر كثير من العراقيين إلى مصر، وذلك لأسباب دينية وسياسية وعسكرية، فأقاموا فيها وكوّنوا جاليةً كبيرةً كان لها إسهاماتها المباشرة في الكثير من مناحي الحياة.
ترجع جذور هجرة العراقيين إلى مصر واستيطانهم فيها، إلى العصر الأموي، حيث نُفيت قبيلة عراقية إلى مصر لأسباب دينية وسياسية. يذكر محمد رضا الشبيبي في دراسته "بين مصر والعراق في ميدان العلاقات الثقافية"، والمنشورة في المجلد الثاني عشر من مجلة المجمع العلمي العراقي، أن قصة هذه القبيلة العراقية البصرية من القصص النادرة، وهي مسرودة بعنوان "سويقة العراقيين"، في كتاب "خطط مصر" للمؤرخ تقي الدين المقريزي.
روى المقريزي أن هذه السويقة تقع في مدينة فسطاط، وإنما عُرفت بذلك لأن "قريب بن مرة الأزدي" و"زحاف بن زحر الطائي" -وكانا من الخوارج- خرجا على زياد بن أبيه في البصرة، فاتّهم زياد بهما جماعةً من قبيلة الأزد، وكتب إلى معاوية يستأذنه في قتلهم، فأمر معاوية بتغريبهم عن أوطانهم، فسيّرهم إلى مصر، وكان أميرها في ذلك الوقت مسلمة بن مخلد، وذلك في سنة 53هـ.
على مدار العصور الإسلامية، هاجر كثير من العراقيين إلى مصر، لأسباب دينية وسياسية وعسكرية، فأقاموا فيها، وكوّنوا جاليةً كبيرةً كان لها إسهاماتها المباشرة في الكثير من مناحي الحياة
وكان عدد من هاجروا من هذه القبيلة نحو مئتين وثلاثين شخصاً، ونزلوا في موضع يقال له "كوم سراج"، وكان فضاءً، فبنوا لهم مسجداً، واتخذوا سوقاً فسُمي "سويقة العراقيين".
وبحسب الشبيبي، أصاب حكام العراق يومذاك في اختيار مصر منفى لتلك القبيلة العراقية البصرية، لما بين البيئة في كل من البلدين أو الموضعين من خصائص مشتركة.
الدولة الأيوبية واستقطاب علماء العراق وجنوده
منذ عصر الدولة الأيوبية، كان للعراقيين النصيب الأعظم بين العناصر الإسلامية الوافدة على مصر. تذكر الدكتورة سحر السيد عبد العزيز سالم، في كتابها "العراقيون في مصر في القرن السابع الهجري"، أن عدداً من العوامل ساعدت على وفود العراقيين على مصر بصورة ملموسة منذ النصف الثاني من القرن السادس الهجري وطوال القرن السابع، بحيث كوّنوا في مصر جاليةً عراقيةً، وُفّق بعض أفرادها في تولي مناصب إدارية لها أهميتها، ونبغ رجالات منها في كل المجالات الأدبية والمادية، وأسهمت هذه الجالية إسهاماً لا مجال لإنكاره في المجتمع المصري.
وأول العوامل التي أدت إلى ظهور العنصر العراقي في المجتمع المصري في القرن السابع الهجري، قيام الدولة الأيوبية في مصر منذ عام 567هـ، إذ كان انتقال صلاح الدين إلى مصر وتوليه الوزارة فيها سنة 564هـ، ثم إقدامه على إسقاط الخلافة الفاطمية وإعلانه قيام دولة جديدة سنّية في مصر سنة 567هـ، مقدمةً لفتح أبواب مصر للعناصر السنّية الوافدة من العراق.
فالسطان صلاح الدين، وإن كان كردي الأصل، إلا أنه كان عراقي النشأة، مما عرّض المجتمع المصري الذي كان لا يزال محتفظاً بالتراث الفاطمي، لتلقّي تيارات حضارية عراقية بدأت ترسخ في مجالات الحياة كلها.
وبدأ الأيوبيون في مصر، بحكم نشأتهم الأولى في العراق، عصر انفتاح على المشرق عامةً، وعلى العراق والدولة العباسية بوجه خاص، فقد كانت مصر قبل قيام الدولة الأيوبية شبه مغلقة في وجه المراكز الثقافية المهمة في العالم الإسلامي، وأهمها بغداد والكوفة والبصرة في العراق، ودمشق وحلب في الشام، وقرطبة وإشبيلية في الأندلس، فلما أسقط صلاح الدين الدولةَ الفاطمية وقضى على دعاة الشيعة في مصر، أخذت مصر ترتبط من جديد بجاراتها في المشرق والمغرب الإسلاميين، خاصةً بعدما أنشأ صلاح الدين عدداً من المدارس السنّية في مختلف مدن مصر.
وترجع جذور هجرة العراقيين إلى مصر واستيطانهم فيها، إلى العصر الأموي، حيث نُفيت قبيلة عراقية إلى مصر لأسباب دينية وسياسية.
وإزاء هذه الأوضاع الجديدة، بدأت مصر تستقطب علماء الإسلام من الشرق والغرب، وأصبحت الرحلات العلمية، لا سيما من العراق إلى مصر، هي الطابع المميز لهذا العصر، خاصةً بعد أن أدخل صلاح الدين الأيوبي نظام المدارس السنّية في مصر لمحاربة المذهب الشيعي، وأوقف عليها الأوقاف الطائلة أسوةً بما فعله الوزير نظام الدين السلجوقي في العراق وبلاد فارس، ونور الدين في الشام، وبذلك أصبحت مساجد القاهرة ومدارسها موئلاً لعلماء العراق، وصارت مكتباتها خزائن للكتب والمصنفات التخصصية في علوم الفقه والحديث، بحسب سالم.
لم تقتصر التأثيرات العراقية في مصر زمن الأيوبيين على الجوانب العلمية والاجتماعية، وإنما امتدت إلى المجال العسكري، فقد تأثر صلاح الدين في تشكيلات الجيوش الأيوبية بالنظام النوري المعروف عند سلاجقة العراق، كما عمم لأول مرة في تاريخ مصر القاعدة الإقطاعية بعد وفاة الخليفة الفاطمي العاضد لدين الله، فأصبحت الإقطاعات تُوزَّع على السلطان وجنوده.
وبحسب سالم، كانت طبيعة العصر الأيوبي السياسية والعسكرية من العوامل التي ساعدت على كثرة توافد العناصر العراقية على مصر، فحركة الجهاد الأعظم ضد القوى الصليبية التي قادها صلاح الدين الأيوبي، وسار عليها خلفاؤه من سلاطين بني أيوب طوال القرن السابع الهجري، كان لها عظيم الأثر في وفود عناصر عراقية مقاتلة إلى مصر للمشاركة في الجهاد.
الغزو المغولي وهجرة العراقيين إلى مصر
في عصر الدولة المملوكية، كان للغزو المغولي للبلاد الإسلامية وما ترتب عليه من سقوط دولة الخلافة العباسية وعاصمة المسلمين بغداد، دورٌ كبير في هجرة كثير من العراقيين إلى مصر، بعدما أضحت بلادهم مكاناً غير ملائم للإقامة، لكثرة ما نزل بها من قتل وأسر ونهب ودمار وتشتيت.
ويذكر خالد كريبي في دراسته "الحياة العلمية في العراق بعد الغزو المغولي 656-736هـ/ 1258-1335م"، أن العراقيين تطلعوا في ظل هذه الأوضاع إلى كل قطر إسلامي أو ملجأ يحميهم، ويذود عنهم، فلم يجدوا غير مصر والشام، فاتجهوا إليهما ليقيموا دولة العلم والأدب والدين، وعندما شمل الغزو المغولي الشام، اتجهوا إلى مصر يلوذون بها، وبعد معركة عين جالوت الفاصلة سنة 658هـ، ازداد تطلع العراقيين إليها، وزاد من شأنها أن الظاهر بيبرس أحيا الخلافة هناك، فاحتلت مصر بذلك مكان بغداد.
يضاف إلى ذلك أن مصر كانت قلعةً حصينةً لم يتمكن المغول من دخولها لهمّة دولة المماليك الفتية، والتي كانت تقاتل على غير جبهة، وتقف سداً منيعاً أمام هجمات التتار من جهة، والصليبيين من جهة أخرى. وكان في مصر يومذاك عدد كبير من المدارس، ومجالس العلم، والمكتبات، وشجع ذلك كله العلماء والأدباء على التوجه إليها، وكان من بين هؤلاء الوافدين من ألّف ودرّس وخطب وتولّى القضاء وأفتى.
وإذا كانت تلك الهجرات قد أثّرت سلباً على الحياة الثقافية في البلاد المهجورة، فإنها من جهة أخرى كانت ذات أثر إيجابي على مصر، إذ ساعدت على ازدهار النشاط العلمي فيها، فبعدما اطمأنت قلوب العلماء، ولقوا في إقامتهم من عطف المماليك ما حبب إليهم البقاء فيها، راحوا يكتبون ويؤلفون محاولين إعادة الذخائر التي أبادها المغول، بحسب كريبي.
ومن العلماء العراقيين الذين كانت لهم مكانة في مصر، الأديب الحكيم شمس الدين بن دانيال الخزاعي الموصلي الكحّال. فعندما هاجم المغول مدينة الموصل سنة 660هـ، وارتكبوا المجازر بحق أهلها، خرج منها عدد من العلماء والأدباء، ومنهم ابن دانيال، فاستقر به المقام في مصر، ليتخذ حرفة الكحالة في دكان قرب منطقة باب الفتوح، وذلك أيام الظاهر بيبرس، وساهم هذا الأديب في الفترة التي عاشها في مصر، وتصل إلى خمسين سنةً، في ازدهار الحركة الأدبية والفنية، إذ كان شاعراً وكتب في موضوعات الشعر المختلفة.
ويؤكد المكانة المرموقة التي وصل إليها ابن دانيال في مجتمعه الجديد، أنه خدم في قلعة الجبل، وكان على علاقة ببعض الأمراء والقادة والأعيان، فقد مدح عدداً منهم، ومما يؤثر عنه أنه كان مقرباً من الأشرف خليل بن قلاوون قبل توليه السلطة.
إحياء الخلافة العباسية في القاهرة
ومن العوامل التي ساعدت على كثرة توافد العراقيين على الديار المصرية في القرن السابع الهجري، وأهمها جميعاً، هو إحياء الظاهر بيبرس للخلافة العباسية في مصر، وبحسب سالم في كتابها المذكور آنفاً، فإن أول من نصّبه بيبرس على رأس الخلافة العباسية في مصر هو الأمير أبو القاسم أحمد بن الخليفة العباسي الظاهر أبي نصر، عم الخليفة المستعصم بالله آخر خلفاء بغداد.
تولى بعض العراقيين المقيمين في مصر في القرن السابع الهجري مناصب إداريةً وعسكريةً مهمةً، مثل نيابة السلطنة، وكان يتولى صاحبها أمور الدولة في غياب السلطان أو سفره إلى خارج مصر.
وروت سالم، أن الأمير أبا القاسم كان سجيناً في بغداد في حبس الخليفة المستعصم بالله، فلما ملك التتار بغداد أطلقوه من ضمن من أطلقوا من السجناء، فخرج أبو القاسم أحمد إلى عرب العراق، وأقام عندهم واختلط بهم، فلما اعتلى بيبرس دست السلطنة في مصر سنة 659هـ، بعد انتصار المماليك الحاسم بقيادة الملك المظفر سيف الدين قطز على المغول في عين جالوت، وأثبتت دولة المماليك في مصر أنها قادرة على مواجهة المغول والتغلب عليهم، وحماية العالم الإسلامي، آثر أبو القاسم أحمد اللجوء إلى القاهرة عندما بلغه أن بيبرس يسعى إلى إحياء الخلافة العباسية في القاهرة، فقدم إلى القاهرة في جماعة من عشرة أمراء من بني مهارش من عرب خفاجة وبصحبة الأمير ناصر الدين بن مهنا، وجماعة من عربان العراق، فرحب السلطان بيبرس بمقدمه.
وكان بيبرس يؤمن بأن الخلافة العباسية يجب أن تستمر حتى بعد سقوط بغداد، كما كان يأمل أن تكون القاهرة الحاضرة الجديدة لها، ليستمد من ذلك شرعيةً لحكمه، ويسبغ على السلطنة المملوكية نوعاً من الحماية الروحية.
وبحسب سالم، صدق تفكير بيبرس، فقد عظم شأن مصر بعد أن أصبحت مقراً للخلافة العباسية وأصبح السلطان المملوكي حامياً لها، فاكتسب بذلك مكاسب روحيةً هائلةً، ساعدته في بسط سلطانه على مناطق كثيرة من الشام والحجاز، فعلا شأنه وعظم نفوذه، وتألق نجم القاهرة، فاجتذبت العلماء والفضلاء والزُهّاد من كل بقاع العالم الإسلامي، وعلى الأخص من العراق، إذ شجع إحياء بيبرس للخلافة العباسية أهله على الإقامة في مصر واستيطانها في ظل حكم إسلامي قادر على حمايتها.
بصمات واضحة ومناصب مهمة
وتذكر سالم أن العراقيين الذين هاجروا إلى مصر تركوا بصماتهم في الكثير من مناحي الحياة، ومنها الاقتصادية، وظهر ذلك في أكثر من جانب، منها صناعة "تكفيت المعادن"، أي زخرفة التحف المعدنية والرسم عليها، والتي انتعشت على أيدي الصنّاع الوافدين من الموصل بعد الغزو المغولي، ومنهم محمد بن سنقر البغدادي السنكري، وأحمد بن بارة الموصلي.
كما برع العراقيون أيضاً في الخط العربي ونقلوا مدارسه المختلفة إلى مصر، وساهم ذلك في ازدهار صناعة "الوراقة"، وكانت تطلَق على من يصنع الورق ويبيعه أو يقوم بالنسخ، وكان من أشهر تجار الكتب العراقيين في مصر في أواخر القرن السابع الهجري عبد اللطيف بن عبد العزيز الحراني، المعروف بـ"ابن المرجل"، وكان بجانب اشتغاله في الكتب والورق في مصر يدرّس في الجامع الحاكمي النحو واللغة والبيان.
كان انتقال صلاح الدين إلى مصر وتوليه الوزارة فيها سنة 564هـ، ثم إقدامه على إسقاط الخلافة الفاطمية وإعلانه قيام دولة جديدة سنّية في مصر سنة 567هـ، مقدمةً لفتح أبواب مصر للعناصر السنّية الوافدة من العراق
وساهم التجار العراقيون أيضاً في إنعاش التجارة، وكان للإسكندرية النصيب الأكبر منهم، مثل أسرة التكريتي، المعروفة بآل الكويك الكارميين، حيث اشتغلوا بتجارة التوابل وأثروا ثراءً فاحشاً، بحسب سالم.
كما تولى بعض العراقيين المقيمين في مصر في القرن السابع الهجري مناصب إداريةً وعسكريةً مهمةً، مثل نيابة السلطنة، وكان يتولى صاحبها أمور الدولة في غياب السلطان أو سفره إلى خارج مصر، وأشهر من تولّى ذلك المنصب الأمير حسام الدين الأربلي، وكان نائباً للملك الصالح نجم الدين الأيوبي، والأمير بدر الدين الخازندار، وكان نائب السلطنة في عهد السلطان المملوكي الظاهر بيبرس.
كما تقلد عدد من العراقيين الوافدين الوزارة في مصر، وأولهم الوزير القاضي كمال الدين أبو عبد الله السنجاري، في عهد الخليفة العباسي أبي القاسم أحمد، كما تولى الأخوان بدر الدين يوسف، وبرهان الدين الخضر، الوزارة والقضاء في عهد عدد من السلاطين.
وتذكر سالم أن عدداً من الأسر العراقية تولت القضاء، مثل أسرة بني درباس التي تولى عدد من أفرادها القضاء في مصر الأيوبية منذ القرن السادس الهجري، واستمروا يتولون هذا المنصب المهم حتى النصف الأول من القرن السابع الهجري، وكذلك أسرة الحسن السنجاري، وأسرة فخر الدين التركماني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...