"كما اعتدنا منذ زمن، فإن المواقف الدولية دائماً لا تنصفنا كفلسطينيين، ولا تعطي لحياتنا قيمة، وبرغم عشرات آلاف الضحايا خلال الحرب، فإن محكمة العدل الدولية في لاهاي، لم تحكم بإيقاف الإبادة الجماعية بحقنا، هذا أمر يدعو للسخط واستمرار فقدان الثقة في العالم". هكذا عبرت أمينة اليازوري (32 عاماً)، النازحة الفلسطينية من مدينة غزة إلى رفح، عن رأيها في قرارات محكمة العدل الدولية في لاهاي بشأن القضية التي رفعتها دولة جنوب أفريقيا ضد الاحتلال الإسرائيلي، والمتعلقة بتطبيق معاهدة منع جريمة الإبادة الجماعية في غزة. وكانت المحكمة بتت الجمعة 26 كانون الثاني/ يناير 2024 في التدابير المؤقتة التي طالبت فيها جنوب أفريقيا، فأمرت إسرائيل باتخاذ كافة الإجراءات لمنع ومعاقبة التحريض على الإبادة الجماعية. لكنها لم تقضي بوقف إطلاق النار والقتال كما توقع الفلسطينيون ومناصروهم في العالم.
"لقد كانت الفرحة الفلسطينية كبيرة، برغم الحزن الشديد على المفقودين خلال الحرب، حينما تقدمت جنوب أفريقيا بالدعوى ضد الاحتلال. لكن صوتاً في الداخل كان يحذر من عدم الإفراط في التفاؤل، وضرورة العودة إلى الواقع الذي يقول إن للمؤسسات الدولية مواقف سابقة، منحت إسرائيل ما لا تستحق، وأهدرت حقوق الإنسان الفلسطيني. فلطالما وضع العالم للفلسطينيين سُلّما دون درجات، وطالبهم بصعوده"، يقول النازح مؤمن حسن (45 عاماً). ولعل الأصوات التي رصدناها في هذا التقرير، والتي نسمعها على مواقع التواصل الاجتماعي لغزيين وغزيات، تتشارك هذه الخيبة.
أنا لا أقتنع بمحكمة لاهاي ولا الأمم المتحدة، أليست هذه المنظمة من منحتنا دولة؟ فأين هي الدولة؟
صمت العالم منذ النكبة، فهل ينطق اليوم؟
بمجرد إعلان المحكمة قرارها، انطلقت في الشارع الغزي الأحاديث والحوارات وقد اتسمت بالخيبة، التي كانت متوقعة عند كثيرين. إذ لطالما رأى الفلسطينيون بأن هذه المؤسسات الدولية تنظر بأكثر من عين إلى القضايا الدولية وتكيل بمكيالين. يرى أحمد سالم (40 عاماً)، النازح من جباليا إلى رفح، بأن "القرارات جاءت متوقعة، محبطة وملطخة بدماء الأبرياء الفلسطينيين. وقد أثبتت اعتقاداً راسخاً لدينا حول هدر دم الفلسطيني، وضياع حقه في مؤسسات تتحكم فيها أمريكا وإسرائيل والدول الغربية النافذة". هذه الغصة بدت عالقة في ذهن الفلسطيني منذ مواقف سابقة، أهمها وأولها سرقة الأرض وطرد وتهجير الفلسطينيين من أرضهم عام 1948، ومنح الأرض للغرباء الطارئين عليها، ومن ثم إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين.
هذا ما أشارت إليه الحاجة نعيمة شرف (66 عاماً) من سكان رفح، قائلة: "أشعر بالحزن على ما يحدث لنا من قتل وتهجير ومشقة في الحياة. وأستغرب كيف يصمت العالم على الإبادة المرتكبة بحقنا". وتردف: "إذا لم تحرك النكبة الفلسطينية عام 1948 مشاعر العالم، حين سُرقت أرضنا وطردنا منها، فهل نتوقع منهم اليوم إنصافنا؟".
تضيف: "الحق الفلسطيني واضح، والقتل والتهجير والمجازر بحق الأطفال والنساء يشاهدها الجميع كل يوم. وأنا لا أقتنع بمحكمة لاهاي ولا الأمم المتحدة، أليست هذه المنظمة من منحتنا دولة؟ فأين هي الدولة؟ تجاربنا السابقة مع هؤلاء تخبرنا بأنهم خاضعون للتعليمات ويجاملون إسرائيل، (واللي ما بشوف من الغربال بكون أعمى)". ترى الحاجة نعيمة بأن القوي هو من يتحكم بهذا العالم. وقد ضاع الحق الفلسطيني منذ ثمانين عاماً، فلن يعود اليوم من خلال محاكمات دولية لا تمتلك النزاهة، وتتحكم بها أمريكا، التي تقود الحرب علنا ضد الفلسطينيين.
مؤسسات إنسانية مفرغة من إنسانيتها
وكأن الأسئلة الصحفية، حينما تلقى أمام الناس، تتحول إلى شظايا تعيد فتح جراحهم القديمة، وتزيد من ألمهم الحالي خلال الحرب. لكن هل يتعلق الغزيون والغزيات بأمل ما وسط هذا الخراب؟ هل لاح أمامهم طوق نجاة بعد دعوى جنوب أفريقيا؟ تقول أمينة: "لا شيء في هذا العالم يدعو للأمل. لقد خسرنا كل ما نملك؛ بيوتنا، أولادنا، حياتنا، الرغبة في الحياة. تمت إبادتنا جماعياً، طردنا من منازلنا تحت القصف الحيواني. خرجنا مثل المجانين نجري في الشوارع في ظلام الليل، لقد سقطت الصواريخ على البيوت الآمنة وهدمتها على رؤوس الناس، حتى شممنا رائحة الأجساد محترقة. جثث أخرى تحللت في شوارع غزة لم تجد أحداً يدفنها، لأكثر من مائة يوم. يحدث كل هذا، بينما لم يتحرك العالم لإنقاذنا، بينما يدّعون الإنسانية المفرطة من خلال إقامة جمعيات الرفق بالحيوان".
لا تختلف صرخة سالم في وجه العالم الصامت، فيقول: "في كثير من المواقف السابقة شعرنا بالقهر من صمت العالم على سرقة أرضنا وقتلنا المستمر على يد الاحتلال الإسرائيلي. لكن هذه المرة، وخلال هذه الحرب، شعرت بعجز العالم الحقيقي. وتأتي قرارات لاهاي لتؤكد ما كنت أشعر به، فأتساءل: بأي عين يرى العالم الكبير الحقيقة؟". يريد أحمد القول بأن هذا العالم فارغ المضمون، فاقداً للمعنى، يقدم الأفكار ويدفع المال، ويؤسس الأطر والتجمعات الثقافية، المدعومة بكل أشكال التواصل البشري، ليجسد خدعة كبيرة اسمها الحضارة. فقد صعد القضاة إلى منصات المحكمة، بكامل الأناقة الممكنة، بعد أن غادروا منازلهم، تاركين وراءهم قطة أليفة أو كلباً وفياً، يصعدون ليقدموا حكماً يبيح استمرار قتل بشر على يد بشر آخرين".
إن الحراك العربي والعالمي، وكل ما يكتب على مواقع التواصل الاجتماعي، هي خطوات تشعرنا بأن هناك من يصرخ معنا من بعيد
مؤمن، بدوره، يشعر بظلم كبير، وبأن المحكمة غير عادلة. فقد كان عليها أن تحكم أولاً بوقف فوري للحرب على غزة. "هذا فقط ما يوقف الإبادة الجماعية بحقنا"، يقول، مضيفاً: "أما القرارات المائعة هذه فهي تفتح الباب أمام الإسرائيلي للاستمرار في قتلنا وتدمير حياتنا. ولن تستطيع أن تمسك بأي دليل ضد الجيش الإسرائيلي. فإسرائيل تعرف تماماً كيف تكذب، وتتقن الهروب من الجنحة". ويختم حسن كلامه قائلاً: "لم أكن أتوقع المزيد من المحكمة. لقد أصبح لدينا خبرة كبيرة حول مراوغات المجتمع الدولي وطريقته في إضاعة حق، وخذلان الفلسطيني. لكن، أقل القليل، كان يجب على المحكمة أن تأمر بعودتنا إلى بيوتنا في مدينة غزة، أليس أبسط الحقوق أن يعود الإنسان إلى منزله المهجر منه بالقوة المفرطة؟".
لكن، هل وصل صوت الشعوب إلى غزة؟
من جهة أخرى، وأمام صمت الحكومات والمؤسسات الدولية وتخاذلها، لم يتوقف الحراك الشعبي في العالم عن تنظيم التظاهرات والأنشطة المطالبة بوقف الحرب. قد يكبر العدد وقد يصغر، قد يعلو ويخفت، لكنه يبقى متواجداً. كما حضرت أصوات كثيرة مواقع التواصل الاجتماعي، منذ اندلاع الحرب وحتى اللحظة، كي تنادي بوقف الإبادة الجماعية بحق الأبرياء الفلسطينيين، وتفضح المحارق الإسرائيلية بحقهم. لكن هذا لم يضغط على الحكومات الغربية والعربية لفرض وقف الحرب في غزة.
يقول خالد الكحلوت (29 عاماً)، النازح من شمال مدينة غزة إلى رفح: "إن الحراك العربي والعالمي، وكل ما يكتب على مواقع التواصل الاجتماعي، هي خطوات تشعرنا بأن هناك من يصرخ معنا من بعيد. لكن تبقى الإشكالية في المؤسسات الرسمية التي يتحكم بها الفاسدون، وهو ما تجلى في نطق حكم محكمة لاهاي، فراح الحق الفلسطيني، وبقيت الهمجية الإسرائيلية دون مساءلة". يضيف خالد: "لقد شعرت للحظة ما بأن كلمة المحكمة الدولية في لاهاي تبدو مثل كلمة للبيت الأبيض. فلم يختلف الكلام عن مطالبة أمريكا بحماية المدنيين، مع أنها هي ذاتها من تمول الحرب على غزة، بل هي من تقودها وتشارك فيها بعتادها وجنودها. وقد أرسلت فعلاً جنودها للمشاركة في إبادة الفلسطينيين خلال الحرب البرية والجوية".
بات الفلسطيني يعي تماماً بأن صوته مختنق بفعل يد غير منصفة، يد تعمل في العلن والخفاء لقرصنة حقوقه وإباحة قتله وتشريده من أرضه. وباتت نظرته للعالم محملة باليأس، مهما فعلت المؤسسات الدولية التي تدعي إنصاف حقوقه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 6 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت