السينما وصناعة الأفلام، ليست طريقة بطيئة للانتحار، لا هي دين، ولا مارد سحري، ولا بديل عن حياة سليمة مستقرة، وبالتأكيد لن أموت بدونها. للأسف في مرحلة سابقة، كنت متأثراً بأفكار آخرين من صنّاع أفلام، عن الشغف والهوس بالفن وصناعة الأفلام، جعلتني أغفل عن قدراتي وظروفي المناسبة، صناعة الأفلام أكثر فن مرهق كلياً في ظروفه المعتدلة، أما أن تحول إلى ذلك الهلاك والذل، فهو غير أخلاقي.
ربما أكبر سبب خارجي دفعني أن أستغنى عن هدف احتراف العمل السينمائي، وأركّز في عملي ككاتب، خاصة في المرحلة الحالية، هو رفضي، من حيث المبدأ، أن أعمل في ظروف عمل غير إنسانية يفرضها الإنتاج في أغلب الأعمال المصرية، من قبل حتى بداية الانخراط أو وجود فرصة جيدة، ربما من يرشحني لها، يعتقد أنه يمنّ علي بها، لأنني مبتدئ وشغوف بالأفلام، وأسعى للتعلم والعمل بأي طريقة.
ممتن لذاتي على ذلك القرار الذي اتخذته وأنا بكامل الرضا والقناعة بالتعويض، لا أقول ذلك من أجل أن أشتكي وأسخط على المجال الطارد للموهوبين أمثالي، فالموهبة وحدها لا تكفي، وشطارتي ليس هنا مكان إثباتها، بغض النظر عن قدراتي الفنية والمهنية. أحترم نفسي وأقدرني كإنسان أولاً، كرّمه الله ولا يذله عبد.
الفيلم الذي سأصنعه أو أكون ضمن فريق عمله، إذا كان يحقق لي شغفي بالفن وتأثيره/ حاجتي للنجاح والمال/ رغبتي في الشهرة والنفوذ. كل ذلك لن يعوضني عن صحة وسلامة جسدي ونفسيتي وعلاقاتي، حياتي المعرّض لخسرانها بسببه.
أخذت قراراً بالتفرّغ لأتعلم وأعمل في الكتابة وصناعة الأفلام، بعد أن انتهيت من دراستي ثم خدمتي العسكرية، شعرت أنني تحرّرت، حتى أنني كتبت: "علي أن أذكّر نفسي أن بعض الطيور لا تنتمي إلى القفص، ريشها زاهٍ جداً..."
خدعة هوية الشغف والإنجاز العملي
منذ ثلاثة أعوام، عندما أخذت قراراً بالتفرّغ لأتعلم وأعمل في الكتابة وصناعة الأفلام، بعد أن انتهيت من دراستي ثم خدمتي العسكرية، والتي كانت تجارب جبرية لم أخترها، شعرت أنني تحرّرت، حتى أنني كتبت: "علي أن أذكر نفسي أن بعض الطيور لا تنتمي إلى القفص، ريشها زاهٍ جداً...".
لقد مررت بفترات من البحث والتخبط، وسأكمل في صنع ذاتي التي اخترتها، ولن أفعل سوى ما أثق به ويرضيني، حتى إذا كان الاختيار الأصعب، فأمامي طريق ذهاب بلا عودة، انتصار أو موت. لي مقياسي الخاص في النجاح، ولا أقارن نفسي بأحد، لأنني أعرف ما أمتلك، مركزاً على أهدافي الشخصية، سائراً في طريقي مثل القطار الذي له وجهة ومسار محدّد لا يحيد عنهما، لا مثل سائق التاكس الذي يحدّد مساره حسب من يشير له، وأقول "لا" لأي حاجة أو شخص سيعطلني أو يعكر صفوي.
حياتي القادمة بالتأكيد ستأخذ شكلاً أبسط على الجانب العملي والاجتماعي، لكن هذا الكلام الحاد، كنت أحتاج أن أخرجه لتوثيقه ومشاركته وتذكره.
ثم بدأت بالفعل لأول مرة أتكسّب من الكتابة من خلال عملي المستقل، حصلت على ثلاث منح: منحة تطوير سيناريو فيلمي القصير الأول، منحة تبادلية لدراسة كورس سينمائي في مقابل تقديم ورشة كتابة، ومنحة دعم بمعدات لعمل فيلمي القصير الأول، وكنت أستعد للدراسة في معهد أو مدرسة سينما، بعد أن انتقلت من محل إقامتي بالإسكندرية إلى العاصمة القاهرة، وبرغم أنني كنت قنوعاً جداً بخطواتي الصغيرة، وآمل أن أتقدم لفرص أكبر على مستوى طموحاتي الكبيرة.
ما حدث بعد ذلك، أن طاردني مرة أخرى شبح الاكتئاب، وجعلني أفقد شغفي واستمتاعي. رسبت في اختبارات معهد السينما، توقفت عن تطوير فيلمي، وحدث لي مشكلات منعتني من استكماله، لأنني أعدت التفكير في جدوى عمله أصلاً. لم أستفيد من المنحة الدراسية المتبادلة لأني لم ألتزم بالمواعيد، بعد أن فتر حماسي بعد الرسوب. تشتت وعطلت عن عملي الصحفي المستقل لفترات، فقدت تماماً رغبتي بما كنت أفعل وعدت لنقطة الصفر، لأسأل نفسي: هل تلك الحاجات والأشياء التي اخترتها بإرادتي الحرة المستقلة كما كنت أظن، سوف تجعلني سعيداً؟! لماذا لم أستغلّ تلك الفرص الصغيرة التي كنت أحلم بها وأسعى لها؟! أين ذهب الشخص الشغوف المتحمس الذي كنت عليه منذ شهور؟!
زادت تلك الأسئلة وعجزي عن الإجابة من اكتئابي وإفراطي في سلوكيات وأفكار إدمانية مسيئة، فقدت ثقتي بنفسي وصرت أقارن فشلي بنجاح الآخرين.
التعافي من الفشل باتباع البساطة في النجاح
بعد أن استمريت لمدة عامين في التقلب بين الاستمتاع والاكتئاب، رفضت الاستمرار بعد الوصول للقاع مرة أخرى، قرّرت أن أعطى أولوية لصحتي النفسية، أعيد تقييم وتأهيل ذاتي وتصحيح وتبسيط حياتي، أركز أولاً على سير رحلتي في التعافي.
ربما لم أصر صانع أفلام ناجحاً بعد، لكنني تعلمت مبادئ حياتية إيجابية، من فلسفة صناعة الأفلام: ألا أندم على فيلم سيء صنعته، لكن أندم على الأفلام السيئة التي لم أصنعها
تردّدت وخفت في البداية، ثم لجأت للعلاج النفسي، وتم تشخيصي باضطراب الاكتئاب ثنائي القطب، الذي تظهر أعراضه في حالة تأرجح بين الحماس واليأس. اكتشفت أن أفعالي في فترات الحماس، من أكبر أسباب دفعي للاكتئاب مرة أخرى، الرغبة المشتعلة للإنجاز والنجاح، هي ما دفعني إلى الكثير من الالتزامات الأكبر من وقتي وجهدي وقدراتي حينها، لكن الحماس دفعني للقفز فيها، متصوراً أنني أريد تعويض ما فاتني، وليس هناك وقت للراحة بعد الآن، خصوصاً أن هذه الأعمال هي شغفي الذي من المفترض أن أستمتع به، وهو ما أدى إلى زيادة قلقي وضغطي وتوتري بشأن الغد والمستقبل، وأفقدني استمتاعي بالحاضر، إذ لا يوجد لدي وقت لعيش اليوم بتأمل وانبساط بما أحقق، حتى أنني لم أستطع إكمال تحقيقه.
من المفارقات التي تدلل على ما أقوله، أنني كتبت حينها في مذكراتي: "الشعر ماضي والصحافة حاضر والسينما مستقبل". بينما بعد المراجعة، اكتشفت أنني كنت أهرب من الماضي الذي شكلني، وكان ينبغي أن أمتنّ له وأرعاه لأحصد ثماره، ولم أركز في الحاضر، الذي كنت قادراً أن أصنع المستقبل من خلال تطويره والنجاح فيه، انشغلت بالمستقبل فأهملت الماضي، ونسيت حاضري ولم أنجز في مستقبلي كما كنت أطمح.
ربما لم أصر صانع أفلام ناجحاً بعد، لكنني تعلمت مبادئ حياتية إيجابية، من فلسفة صناعة الأفلام: ألا أندم على فيلم سيء صنعته، لكن أندم على الأفلام السيئة التي لم أصنعها.
أتعامل مع حياتي كفيلم طويل أقوم بصناعته، أعرف أن كلما كانت الأحلام والأهداف عظيمة، دائماً ما يقابلها عقبات هائلة يكون تخطيها بمثابة المكافأة والاستحقاق، وربما محاولات فاشلة كثيرة تثمّن قيمة النجاح العظيم وتجعل الحكاية ذاتها أكثر إثارة من نجاح سهل أو عادي، هذه الضدية هي ما تخلق قصة قوية لها معنى.
أتعامل في علاقتي بالآخرين والمجتمع، بتطبيق قاعدة السيناريو التي تنصح السيناريست، بألا يتكلم البطل عن نفسه أو عما يفعله بشكل مباشر، بل يقوم بفعل يعبر عن ذلك بدون كلام، لا أقول للآخرين ماذا سأفعل وأتحدث عن النجاح الذي سأحققه، بل أجعلهم يشاهدونني عند الوصول.
أتقبل حدودي الممكنة وعدم الكمال عند تصوير مشاهد، المرور بتجارب غير مثالية كما أطمح، وأتحرك للتالي لكيلا أضيع وقت تصوير مشاهدي التالية، فأفسد بقية يومي وحياتي. فالعمل على المتاح أفضل من خسارة كل شيء، والاتقان المتوسط مع الإنجاز، أفضل من الاتقان الكامل بدون إنجاز.
أوازن بين طموحي وإمكانياتي، كموازنة مخرج في مرحلة السيناريو مع إمكانياته الإنتاجية، أركز على التحديات الأكبر التي تجعلني أتقدم، لكن بدرجة معقولة مع مستوى قدراتي الحالي، وليس الأكبر من مستواى قدراتي بدرجة هائلة، لدرجة سيكون الفشل فيها حتمياً، فيحبطني ويعجزني عن استمرار التحدي، وليس الأقل أو بذات مستوى قدراتي الحالية، سأنجح فيها لكن سأظل واقفاً بذات مستوى قدراتي ونجاحي أو أتدنى منها. أبحث عن جمهور يشبهني وأحاول التوفيق بين الفن والصناعة والتجارة.
هناك من يعارضني ربما ليس كرهاً في، لكن لديه أهداف غيري، فالمنتج يبحث عن المكسب أو التحقق حتى لا يخسر أمواله وسمعته، وربما لا يعنيه فني وحكايتي، ومدير التصوير يبحث عن صورة جميلة تظهر إمكاناته لكنها لا تخدم الدراما، والممثل يريد أن ينفذ رؤيته للشخصية، أو ينتصر لشخصيته الحقيقية على حساب رؤيتي للأداء، والجمهور يريد أن يستمتع بالفيلم، بغض النظر عن المجهود الذي بذلته من أجل صناعة فيلمي.
خلاصات جديدة عن السعادة بالإنجاز
في هذه السنة، بدأت أختار نفسي وأهدافي المهمة التي حدّدتها أنا فقط، بعد أن قللتها قدر الإمكان ووضعت أولوية الكيف بدل الكم، متخلصاً من إلهاءات أي ضغوط وأعباء خارجية، أو معايير وآراء من الآخرين، وبذلك احترمت وقتي وروتيني اليومي، لأتخلص من العادات السلبية وأنمي العادات الإيجابية.
وبرغم تقصيري وتشتتي وعطلي عملياً، الذي كان يجعلني أجلد ذاتي، سلمت وتصالحت أخيراً، أن قيمتي ليست في إنتاجيتي، وأن هويتي ليست في عملي وممتلكاتي، يكفي أن يمرّ يومي بصحة سليمة واستقرار في بيتي ولدي قوت يومي.
اكتشفت أن سعادتي لا تكمن في أن أكون صانع أفلام أو كاتباً أو شاعراً ناجحاً ومشهوراً، أو أن أمتلك أغلى وأثمن الأشياء المادية، لكن أحتاج أن أكون نفسي، أن أحبها بدون شروط للإنجاز، أن أعيش هنا والآن، غير متألم من الماضي أو قلق من المستقبل، الذي يفسد علي لحظتي بالهموم ويجعلني أتأخر أكثر.
اكتشفت أن سعادتي لا تكمن في أن أكون صانع أفلام أو كاتباً أو شاعراً ناجحاً ومشهوراً، أو أن أمتلك أغلى وأثمن الأشياء المادية، لكن أحتاج أن أكون نفسي، أن أحبها بدون شروط للإنجاز، أن أعيش هنا والآن
عندما فعلت ذلك، وتصالحت مع أخطائي في الماضي، واكتسبت منها خبرات وصورة ذاتية إيجابية جديدة، بدأت أستقر نفسياً وأنمو شخصياً، وعاد لي نشاطي الإنتاجي. في مقالات ذاتية من ضمنها هذا المقال، غير منشغل بمن سيقرؤها أو سيحكم عليها أو علي من خلالها، أو كيف وأين سأنشرها وأتكسّب منها، يكفي أنني أريد مشاركتها بصدق وأستمتع بكتابتها.
ربما يبدو كلامي عن البساطة، محاولة لتمثيل القناعة والرضا والامتنان، خاصة وأنني أقول ذلك في بداية الطريق وقبل تحقيق إنجاز كبير. لكن يهمني شخص انتابه ذلك الشك والقلق الذي انتابني شخصياً في مرحلة ما قبل الاستقرار، ولكني أشعر بالتصالح والامتنان للتجربة. ربما هذا الفشل كان إشارة تنبيه، قبل أن أحقق تلك الإنجازات الكبيرة، وأصدم أنها لم تحقق لي السعادة، كما حدث مع الكثير من الأثرياء والناجحين والمشاهير، الذين لم يجدوا السعادة في كل ذلك، وهزمهم وحش الاكتئاب ولجأوا للإدمان ثم انتحروا.
لا أعني أن تلك الحاجات والأشياء هي ما تجلب التعاسة، بالعكس، فمن (يمتلكها ولا تمتلكه) ستساعده وتسهل حياته حين (يستخدمها ولا تستخدمه)، ولكن من لم يستطع امتلاكها ولم يرض ويمتن ببساطة، فسيكون الهم مصيره، ولهاثه وراء متعها السريعة، هو ما يسبب له أكبر الآلام المدمرة لذاته وفطرته الحقيقية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...