شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
حكم

حكم "العدل الدولية" الذي يُقرأ في كلّ اتجاه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحقوق الأساسية

الأربعاء 31 يناير 202402:01 م

"تشير المحكمة إلى السياق المباشر الذي عُرضت فيه هذه القضية أمامها. في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، نفّذت حركة حماس وغيرها من الجماعات المسلحة الموجودة في قطاع غزة، هجوماً في إسرائيل، مما أسفر عن مقتل أكثر من 1،200 شخص وإصابة الآلاف واختطاف نحو 240 شخصاً، ولا يزال العديد منهم محتجزين كرهائن"؛ ما سبق، مقتطف من مقدمة قرار محكمة العدل الدولية في ما يتعلق بالشقّ العاجل من دعوة جنوب إفريقيا ضد إسرائيل، والتي تتهمها فيه بارتكاب جرائم إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة.

الحكايات كاذبة إذا ما بدأت من "ثانياً"

بتلك المقدمة المشار إليها أعلاه، رسمت محكمة العدل الدولية مساراً محدداً للقضية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل، حين رسمت نقطة البدء للقضية بأحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، فبدت الأحداث كما لو كانت قادمةً من العدم. وفقاً لهذه المقدمة، تبدو الحكاية وكأنها قد بدأت من "ثانياً" وتجاهلت "أولاً"، وتُظهر أن جماعات فلسطينيةً مسلحةً خرجت من فراغ لتقتل وتصيب وتخطف في حدود دولة مسالمة لم تبادرها بالشرّ.

لذا، فإن المحكمة لم تصدر أي قرار فوري بإجراء محدد، باستثناء طلبها من الفصائل الفلسطينية إطلاق سراح "الرهائن" الذين اختُطفوا خلال الهجوم، واحتُجِزوا من قبل حماس والجماعات المسلحة الأخرى منذ ذلك الحين، وإطلاق سراحهم فوراً دون قيد أو شرط.

تبدو رواية المحكمة عن الأحداث ناقصةً، لذا كان حكمها ناقصاً. يظهر النقص في الحكاية في سياقها الزماني والمكاني. فالمحكمة أخلّت برواية مكان الحدث، كما أخلّت بسياقه الزمني... كيف؟

تبدو رواية المحكمة عن الأحداث ناقصةً، لذا كان حكمها ناقصاً. يظهر النقص في الحكاية في سياقها الزماني والمكاني. فالمحكمة أخلّت برواية مكان الحدث، كما أخلّت بسياقه الزمني.

النقص في السياق الزماني

لم تبدأ حكاية الإبادة الجماعية للفلسطينيين من 7 تشرين الأول/ أكتوبر، فالمحكمة التابعة للأمم المتحدة، ظهرت كما لو كانت على يمين الأمين العام للأمم المتحدة نفسها أنطونيو غوتيريش، الذي بدأ الحكاية من سياقها الزمني الطبيعي، إذ أكد أن هجمات الفصائل الفلسطينية لم تأتِ من فراغ، لكنها نتيجة 56 سنةً من الاحتلال الإسرائيلي والحصار والاستيطان، ما يخنق أي فرصة لإقامة دولة فلسطينية.

لم تحاول المحكمة توسيع النطاق الزمني قليلاً حتى إلى بداية عام 2023، الذي بدأت فيه الأحداث. فوفقاً لمؤسسة" أصوات يهودية من أجل السلام"، فإن عام 2023 كان الأكثر دمويةً للفلسطينيين حتى قبل أحداث تشرين الأول/ أكتوبر، حيث أطلقت حكومة اليمين المتطرف يد عصابات المستوطنين وأجهزة الأمن والجيش الإسرائيلي في استهداف الفلسطينيين بغرض تهجيرهم بالقوة من قراهم أو بغرض القتل. وأحصت الأمم المتحدة مقتل 200 فلسطيني حتى آب/ أغسطس 2023، نتيجة هجمات المستوطنين أو القوات الإسرائيلية النظامية.

حصرت المحكمة روايتها للأحداث في سياق مضلل وضيق، يبدأ من بداية هجوم الفصائل الفلسطينية، فتصبح إسرائيل نفسها هي الضحية، ولها الحق في الدفاع عن نفسها، بما يستتبع ذلك من تحويل نطاق النقاش من حق الفلسطينيين في العيش الآمن والدفاع عن أنفسهم، إلى النقاش حول هل رد فعل إسرائيل كضحية ملائم أم أنه بحاجة إلى ضبط حدّته وتخفيضها؟

النقص في السياق المكاني

برغم أن دوافع الفصائل الفلسطينية في هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر، أدت إليها بدرجة كبيرة اعتداءات إسرائيلية في الضفة الغربية والقدس كدافع أول، بالإضافة إلى الحصار المفروض على غزة كدافع ثانٍ، إلا أن المحكمة ساقت روايةً مضللةً للسياق المكاني، حيث عزلت بين الفلسطينيين في غزة من ناحية، والضفة والقدس من ناحية أخرى، وحصرت الصراع في أنه صراع بين غزة وإسرائيل. وهي الرؤية التي تتبناها إسرائيل ذاتها التي تدفع في اتجاه الفصل بين الفلسطينيين في الضفة والذين في غزة، وهي الرؤية التي تقاومها الفصائل الفلسطينية حتى في شنّها هجمات السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، والتي أرادت أن ترسل فيها رسالةً بأنها قوة مقاومة تدافع عن كل فلسطين.

حصرت المحكمة روايتها للأحداث في سياق مضلل وضيق، يبدأ من بداية هجوم الفصائل الفلسطينية، فتصبح إسرائيل نفسها هي الضحية، ولها الحق في الدفاع عن نفسها

اختفت فلسطين ودولتها تماماً من رؤية المحكمة للصراع، وأصبح الصراع محصوراً في مساحة جغرافية ضيّقة وإجراءات التعامل معه محصورة في هذه المساحة. وهو ما يفرغ القضية من بعدها السياسي المهم ويحوّلها إلى صراع محدود يستوجب إجراءات محدودةً. ويمكن من خلال ذلك المساواة بين الأطراف المتصارعة ويمكن إعادة تصوير الصراع على أنه فصيل عنيف اعتدى على سيادة دولة، وربما تجاوزت هذه الدولة في رد فعلها. وليس كصراع بين قوة احتلال وحركات مقاومة. قلبت المحكمة وفقاً لهذا السياق الصورة، فأصبحت المقاومة هي الفاعل الأصلي، وأصبحت قوة الاحتلال هي رد الفعل.

خلق الحكم مقارنات موضوعيةً بين تردد المحكمة في هذه الحالة وحزمها في حالة أوكرانيا. ففي حين جاء منطوق الحكم ضد روسيا بعد غزوها للأراضي الأوكرانية بكلمات قاطعة مفادها أنه "يجب على روسيا أن تعلّق فوراً العمليات العسكرية"، لم تطالب المحكمة إسرائيل بوقف إطلاق النار أو وقف العمليات العسكرية.

وفي هذا السياق، يبدو إسقاط المحكمة لطلب جنوب إفريقيا في طلبها العاجل، إلزام إسرائيل بوقف فوري لإطلاق النار، إقراراً بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد عدوان "لا مبرر له" من فصائل فلسطينية. وهو ما دفع الناطق باسم الحكومة الإسرائيلية إيلون ليفي، للترحيب بالحكم باعتبار أن المحكمة "رفضت طلب جنوب إفريقيا السخيف بأن تطلب من إسرائيل التوقف عن الدفاع عن شعبها والقتال من أجل الرهائن."

خطوة مترددة لكن في الاتجاه الصحيح

برغم ذلك كله، لا يمكن عدّ حكم محكمة العدل الدولية حكماً سيئاً بشكل كامل ولا حكماً جيداً بشكل كامل. لكنه يُعدّ خطوةً مترددةً لكن في الاتجاه الصحيح. فالقضية تحمل مفارقةً ربما تنتقص من شرعية الدولة اليهودية نفسها التي أسست جزءاً من شرعية وجودها على أساس تعرّض اليهود للإبادة وأحقيتهم في دولة يساعدهم الغرب في إقامتها واستمرارها كتعويض عادل عن تلك المظلومية. وتأتي القضية كسابقة تاريخية لمحاكمة تلك الدولة اليهودية نفسها، وفقاً لاتفاقية الأمم المتحدة المناهضة للإبادة التي صدرت سنة 1948، مدفوعة بجرائم ارتكبتها ألمانيا النازية ضد عدد من الشعوب من ضمنها اليهود. فالحكم أقرّ بموضوعية الاتهام واحتمال تورط إسرائيل في جرائم إبادة ضد الفلسطينيين، بما دفع المحكمة إلى قبول الولاية القضائية على القضية، وهو ما يُعدّ اتهاماً سيظل معلقاً لسنوات ضد إسرائيل وحكومتها. وهو ما دفع نتنياهو إلى وصف قبول الاتهام بأنه "وصمة عار لن تمحى لأجيال".

يؤسَّس القرار على سياق زماني ومكاني مضلل، يحوّل الجاني إلى ضحية في جزء منه، لكنه في الوقت نفسه يقرّ ضمناً بتجاوز "الضحية" في الانتقام، تجاوزات ربما ترقى إلى الإبادة

يظهر قرار محكمة العدل الدولية كما لو كان قابلاً للقراءة في كل اتجاه. فمن ناحية لم يزل القانون الدولي متردداً تجاه إسرائيل ويعاملها كدولة لها حصانة خاصة، ويعفيها من إجراءات عاجلة في الوقت الذي يسارع فيه إلى إصدار الأوامر لغيرها. فبرغم اعتراف المحكمة بأن هناك أساساً للاتهام ضد إسرائيل، لكنها لا تطالبها بوقف العنف أو الاعتراف بحقوق الفلسطينيين. يؤسَّس القرار على سياق زماني ومكاني مضلل، يحوّل الجاني إلى ضحية في جزء منه، لكنه في الوقت نفسه يقرّ ضمناً بتجاوز "الضحية" في الانتقام، تجاوزات ربما ترقى إلى الإبادة. تجاهلت المحكمة تاريخاً طويلاً للصراع والظلم والمقاومة، كما تجاهلت أيضاً السياق السياسي والقانوني والأخلاقي للقضية وبدأت من لحظة مضللة جداً، وهي السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. لكن الخبر الجيد أن العالم أقرّ أخيراً بأن إسرائيل قابلة، ولو قليلاً، للحساب.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard