شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أكثر من مجرد رائحة... البخور بين السحر واستحضار الجن والاسترخاء

أكثر من مجرد رائحة... البخور بين السحر واستحضار الجن والاسترخاء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والحريات الشخصية

الخميس 1 فبراير 202412:21 م

للروائح تأثير سحري على الجهاز العصبي للبشر، وقدرة عجيبة على ضبط الحالة المزاجية، والاسترخاء، للهروب من نوبات القلق وضغوط الحياة اليومية، كذلك تثبيت الذكريات وأرشفتها، سواء كانت سعيدةً أو حزينةً، فبمجرد استنشاق رائحة ما نعرفها، يمكن استدعاء كل الصور والذكريات التي عشناها على وقع تلك الرائحة.

يمتلك البخور، لما له من مكانة في الثقافة العربية، قدرةً فاعلةً على تعزيز المشاعر الإيجابية، حتى وإن كان دخان البخور يصيب البعض بالاختناق، لكن استنشاق تلك الأبخرة المعبأة بالروائح المميزة، يصل إلى حدّ الإدمان أحياناً.

الخالة نوسة

اعتادت داليا، وهي ربة بيت مصرية، في عقدها الرابع، أن تجعل من بيتها ملاذاً آمناً، برغم الخلافات مع زوجها؛ تغلق النوافذ جيداً بعد تنظيف البيت، ثم تستريح على مقعد لتشم رائحة البخور الذي أشعلته للتو. شيئاً فشيئاً تنتشر الرائحة المنتقاة بعناية، لتسري في جسدها سكينة لا تعرف مبعثها.

تقول داليا لرصيف22: "أداوم على إشعال البخور في البيت، وزوجي يطلق عليّ لقب 'الخالة نوسة'، نسبةً إلى الدجالة التي جسّدها محمد هنيدي في فيلم 'يا أنا يا خالتي'. لكن غضب زوجي أهون، لأن بعض الجيران والأقارب يعتقدون أن لي علاقةً بالسحر والشعوذة، لكنني لا أكترث، فحياتي مستحيلة من دون استنشاق تلك الرائحة".

بمجرد استنشاق رائحة ما نعرفها، يمكن استدعاء كل الصور والذكريات التي عشناها على وقع تلك الرائحة

من رحلة البحث عن الاسترخاء والهدوء والمزاج الجيّد بين خيوط دخان البخور، يتولد حب من نوع آخر للبخور، وقعت فيه ميرفت نصير، وهي خريجة جامعية وربة منزل، إذ تعتقد أنه يحمي البيت من أي أرواح شريرة ويبارك العائلة، لكن زوجها لم يستطع التأقلم مع طقوسها.

تقول ميرفت لرصيف22: "زوجي يكره البخور، وكان يتظاهر بعكس ذلك في بداية زواجنا، حتى تسبب عود بخور مشتعل في إحراق إحدى ستائر المنزل، وهنا انفجر مهدداً بالطلاق، قبل أن نتفق على أن أقوم بممارسة طقسي في أثناء وجوده في العمل ووجود الأولاد في المدرسة أو خارج المنزل. أما الجيران، فلم يقتنعوا بأن الأمر مجرد طقس، وظلت نظراتهم إليّ تحمل اتهامات وشكوكاً كثيرةً".

ترى ياسمين سامي، وهي طالبة في كلية الحقوق في جامعة القاهرة، أن دخان البخور بمثابة آلة الزمن التي تأخذنا إلى الماضي، وفق ما تشرح لرصيف22: "كأن أمي ما زالت حيةً ولم تفارقني، وكأن أنفاسها ما زالت تدفئ منزلنا، ما يعطيني إحساساً بالراحة والأمان ويعوّضني قليلاً عن ألم الاشتياق إليها. أكون سعيدةً وممتنةً لدخان أعواد البخور في ليالي الجمعة، فأمي كانت تفضّل رائحة المسك".

وتتابع: "أخصص ميزانيةً شهريةً لشراء البخور مهما كانت الظروف المادية صعبةً، استحضار لحظات وجود أمي معي وإحياء ذكراها أسبوعياً لا يكتملان إلا بإشعال البخور".

وفي محاولة منها لاستحضار دفء بيت العائلة، الكائن في أحد أحياء العاصمة السودانية الخرطوم، والذي اضطرت إلى تركه بسبب الحرب، وقدمت إلى القاهرة، تقول منار، التي تعمل في إحدى شركات الاستيراد والتصدير: "برغم الحرب والخروج في ظروف صعبة، حرصت على جلب كمية مناسبة من البخور. يرتبط البخور بالفأل والبركة، والمباخر من أساسيات البيت السوداني، خاصةً أن البخور السوداني له سمعة ذائعة الصيت، بسبب إضافة بعد المواد والمستحضرات العطرية إليه، وأشهر الأنواع 'الطلح'، أما 'الصندل' فهو الأغلى، ويصل سعر الكيلو منه إلى 35 ألف جنيه، وبرغم ذلك فهو من ضرورات الأعراس في السودان".

البخور على مرّ العصور

في كتاب "المباخر والبخور في مصر القديمة"، توضح الدكتورة ماجدة أحمد عبد الله، أستاذة تاريخ وآثار مصر والشرق الأدنى القديم، في جامعة كفر الشيخ، كيفية استخدام البخور في الحضارة الفرعونية.

وتؤكد في دراستها، أن حرق البخور كان سائداً في المعابد الفرعونية، في كثير من الطقوس الدينية، وفي السحر والطب أيضاً، وأن المصريين القدماء استوردوا البخور في أثناء حكم ساحورع، ثاني ملوك الأسرة الخامسة، وكذلك زراعة النباتات التي تُستخدم كبخور في المعابد.

ورصدت الدراسة العديد من أنواع البخور في مصر القديمة، مثل المر والكندر والأدن و"الأصطراك" والقنة، ومواد مثل الكاسيا والقرفة، وقالت إن المواد النفاذة التي كانت تخرج من المقابر الفرعونية عند اكتشافها، كانت بخوراً وُضع بجانب الموتى في أثناء دفنهم ليطرد الأرواح الشريرة.

"أداوم على إشعال البخور في البيت، وزوجي يطلق عليّ لقب 'الخالة نوسة'، نسبةً إلى الدجالة التي جسّدها محمد هنيدي في فيلم 'يا أنا يا خالتي'. لكن غضب زوجي أهون، لأن بعض الجيران والأقارب يعتقدون أن لي علاقةً بالسحر والشعوذة"

وتضيف أستاذة التاريخ، أن المصريين القدماء استخدموا البخور في التطييب الشخصي وتعطير الملابس والمنازل، وأيضاً بهدف الحماية من الأرواح الشريرة، إلى جانب الاعتقاد بأن له قوةً خارقةً تساعد على استمرار الحياة في رحلة البعث من جديد.

من عصر الفراعنة إلى العصرين المملوكي والأيوبي، ظل البخور محافظاً على مكانته في الثقافة الشعبية في ظل عدم وجود أي نص ديني يمنعه، ففي رسالة دكتوراه للدكتورة مني بدر، صادرة عن جامعة القاهرة عام 1995، تحت عنوان "أثر الفن السلجوقي على الحضارة والفن في العصرين الأيوبي والمملوكي"، أن البخور اتخذ أشكالاً أكثر تطوراً في الحضارة الإسلامية، ففي عصر الدولة المملوكية مثلاً (1250-1517)، ظهرت مهنة "المبخّر"، كما استُخدمت المباخر في مناسبات الزواج والجنائز واستقبال الضيوف والاحتفالات العائلية وإضفاء أجواء روحانية خلال شهر رمضان الكريم.

البخور في اليوغا

في العصر الحديث، أخذت المباخر شكلاً مختلفاً تماماً، وبدأ بعض مدرّبي اليوغا باستخدامها بجانب المواد العطرية والشموع والإضاءة الخافتة، لتوفير أجواء هادئة تساعد على الاسترخاء وجلب الطاقة الإيجابية.

تقول مدربة اليوغا منى غانم، لرصيف22: "إن البخور أصبح الآن من طقوس جلسات اليوغا والتأمل، وبقدر الاهتمام بتهوية المكان ونظافته بالمنظفات العادية، نهتم بتهيئة أجواء هادئة ومريحة لمحبي اليوغا. أصبح البخور إلى جانب الزيوت العطرية النقية عنصراً أساسياً، فالبخور يطهّر المكان وينقّيه، خصوصاً أن أثره يبقى في المكان لساعات طويلة".

وتضيف غانم: "هناك أنواع معينة من البخور لها طاقات روحانية وعلاجية؛ مثلاً البخور برائحة الياسمين يساعد على الهدوء، وثمة أنواع أخرى لها روائح تساعد على استحضار حالة السكون كما تجذب أعلى ذبذبات الطاقة".

وعن تفضيلات محبّي جلسات اليوغا، تقول غانم: "الروائح أذواق، بعض الزبائن يحبون رائحة البخور بشكل عام، والبعض الآخر تسبب لهم اختناقاً أو حساسيةً، وفي الغالب نلجأ إلى إشعال بخور برائحة خفيفة، مثل العنبر والياسمين أو المسك وخشب الصندل".

البخور والجن والأرواح الشريرة

برغم الاستخدامات المتنوعة من جيل إلى جيل وعصر إلى عصر، إلا أن ثمة أفكاراً أخرى ارتبطت بالبخور.

بحسب مسعود شومان، الشاعر المصري والباحث المهتم بالتراث، فإن الشعوب الإفريقية ربطت بين البخور والجن، ومارست طقوس استحضاره أو صرفه، مثل "الزار" أو "الكدية"، ومن هنا بدأ الارتباط في مصر والعالم العربي بالبخور، وأبرز الأمثلة بعض الفرق الصوفية التي لا تمارس طقوسها إلا بحضور المباخر.

ويضيف شومان في حديثه إلى رصيف22، أن هناك بعض الأنواع مثل "البخور الجاوي" الذي صار مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً باستحضار الجن أو طرد الأرواح الشريرة للشفاء من الأمراض، وفي أفلامنا المصرية تجد كلمة "بخور جاوه" في معظم المشاهد التي يظهر فيها الدجّالون.

"كأن أمي ما زالت حيةً ولم تفارقني، وكأن أنفاسها ما زالت تدفئ منزلنا، ما يعطيني إحساساً بالراحة والأمان ويعوّضني قليلاً عن ألم الاشتياق إليها. أكون سعيدةً وممتنةً لدخان أعواد البخور في ليالي الجمعة، فأمي كانت تفضّل رائحة المسك"

ومن جانبه، يقول عطية لاشين، أستاذ الفقه في كلية الشريعة في جامعة الأزهر، لرصيف22، إن السنّة النبوية أشارت كثيراً إلى أعواد البخور، خاصةً في المساجد، لأنها تعطي روائح طيبةً، "كما أن لها أثراً على الشياطين التي تسكن الأماكن القذرة ذات الروائح الكريهة وتهرب من الأماكن النظيفة المبخرة"، وفق قوله.

ما هي أشهر أنواع البخور الشائع استخدامها في البلاد العربية؟

البخور الأزرق: يُعدّ من أفخر أنواع البخور، ويكون على هيئة قطع سوداء ثقيلة الوزن، يستخدمه الأثرياء، وله قدرة ملحوظة على تحقيق الاسترخاء وتخفيف التوتر وتهدئة الأعصاب.

البخور اللاوسي: من أندر أنواع البخور وأغلاها، وهو حكر على الأغنياء لارتفاع سعره وصعوبة الحصول عليه، وموطنه دولة لاوس الآسيوية.

البخور المروكي: من أنقى أنواع البخور وأغلاها، يُستخرج من أخشاب الأشجار المعمرة في الغابات الاستوائية ويمتاز بكثافة دخانه وله وزن ثقيل.

البخور الكمبودي: يُستورد من كمبوديا، ويتميز بالجودة العالية، لونه يميل إلى البني، ويُعرف برائحته الزكية التي تستمر لفترة طويلة.

وهناك أنواع أخرى مثل البخور الماليزي والهندي والسيلاني.

يبقى الدخان المنبعث من أعواد البخور المشتعلة أو من جوف المباخر النحاسية، هو نفسه، لكن تأثيره مختلف حسب سعره وجودته والطقس أو المناسبة التي يشعل فيها، فهو راحة وسكينة واسترخاء لمن يعانون من القلق والضغوط، وسلوى لمن فقد الوطن أو رحل عنه شخص عزيز، كما أنه حماية لمن تحاصرهم مشاعر الخوف من الأرواح الشريرة ووسيلة لاستحضار الجن للمشعوذين وزبائنهم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image