شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
جنين... لا خيار إلا المقاومة والفكاك من أوسلو

جنين... لا خيار إلا المقاومة والفكاك من أوسلو

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 23 يناير 202402:36 م

سنة ونصف من حملة الاغتيالات وعمليات اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلية المستمرة لمدينة جنين ومخميها. سبقت الحملة طوفان الأقصى واستمرت معه، وأغلب الظن أنها ستستمر بعده. لم تكن الحالة المسلحة في جنين ومخيمها المعضلة الوحيدة في هذه المواجهة المستمرة مع الاحتلال، ولا تقاس القضية بحجم الخسائر التي يتكبدها الإحتلال هناك على أية حال- رغم أنه دفع مراراً ثمن اقتحامه للمدينة ومخيمها- فاقتصار الحديث عن خسائر الاحتلال البشرية في هذه المواجهة يعد تقزيماً كبيراً للحالة برمتها وللحدث المستمر والمفتوح على الاحتمالات، وكذلك -وهو الأهم- ببعده الفلسطيني قبل بعده وآثاره على الاحتلال.

لقد اعتقد البعض أن حالة جنين المسلحة مرتبطة أساساً بطبيعة مخيم جنين وفقدان السلطة السيطرة عليه لأسباب مختلفة، ولقدرة المجموعات المقاومة على ترتيب أوضاعها، وبالتالي اتخاذهم من المخيم منطلقاً ومقراً لهم في آن، وبأن هذه الحالة مرتبطة أساساً بتكوين المخيم وموقعه الجغرافي. وفي فترة ما، ساد الإعتقاد بأن هذه المجموعات باتت مختزلة ومحاصرة كذلك في داخل المخيم، إلا أنها أثبتت أنها تقوم باستعداد دائم. وكان هذا الاستعداد يتطور مع الوقت رغم كل عمليات التجسس والمراقبة والمداهمات المستمرة. عندما شعرت تلك المجموعات أن الأثمان التي يدفعها الإحتلال قد تراجعت، خرجت هي إليه واستهدفته في معسكراته وحواجزه ونقاط تفتيشه. ليس بالأمر الجوهري تعداد تلك الهجمات التي انطلقت من جنين ومخميها، بل ملاحظة تأثيرات حالة مخيم جنين وارتداداتها المستمرة، خاصة في هدمها لفكرة السيطرة والاحتواء التي بني عليها أساساً مشروع أوسلو وما تلا الانتفاضة الثانية من تفاهمات أمنية مختلفة.

لقد قامت اتفاقية أوسلو على السيطرة والاحتواء (في مختلف المجالات، المالية والجغرافية والأمنية). أما أمنياً فسمي ذلك مجازاً بالتنسيق الأمني. فحاولت كل التفاهمات الأمنية التي تبعت الانتفاضة الثانية تعزيز فكرة السيطرة والإحتواء بأشكال مختلفة أهمها التوظيف والأحكام العالية في سجون الاحتلال بحق المقاومين، والإبعاد خارج فلسطين. ربما أكثر من انتبه لخطورة الحالة في جنين هم الإسرائيليون أنفسهم، الذين طالما أقلقتهم فكرة كرة الثلج، وامتداد الحالة، ونقل الخبرة والتجربة. ولعل ما حصل في النسة والنصف الأخيرة، أثبت أن تجربة جنين نضجت، بل امتدت، وربما ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في خلق حالات مشابهة في مدن فلسطينية أخرى، فكانت مجموعات الأسود في نابلس، وتبعتها كتيبة طولكرم، ومن ثم الخلايا في أريحا ومخيم عقبة جبر، تلتها مجموعات عزون وقلقيلية. ومن المهم أن نلاحظ أن لكل مجموعة ظروفها الخاصة، وتفاصيل جغرافيتها المختلفة عن جنين ومخيمها، وهو ما يثبت أن تشكيل هذه المجموعات لا ينبع من واقع واحد ساهم مصادفة في تشكيلها، بقدر ما تأقلمت كل مجموعة مقاومة مع ظروفها الجغرافية والأمنية المعقدة.

ربما أكثر من انتبه لخطورة الحالة في جنين هم الإسرائيليون أنفسهم، الذين طالما أقلقتهم فكرة كرة الثلج، وامتداد الحالة، ونقل الخبرة والتجربة. ولعل ما حصل في النسة والنصف الأخيرة، أثبت أن تجربة جنين نضجت، بل امتدت، وربما ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في خلق حالات مشابهة

لقد ساهمت تجربة جنين في خلق نوع مختلف من التحدي الذي تطور في أماكن مختلفة، بل أحياناً في بعض القرى الفلسطينية الصغيرة كما هو الحال في عزون شرق قلقيلية. ولم يعد بالإمكان حصر هذا الامتداد، فجنين احتضنت في حالات عديدة مقاومين مطلوبين من محافظات أخرى، ومثلت هاجساً بالنسبة لقوات الإحتلال فيما يتعلق بالعبوات الناسفة. وسواءً كانت جنين دربت على تحضير عبوات ناسفة، صدرتها، أم لم تفعل، فإن المجموعات المقاومة لم تر أي مانع في تعزيز مقاومتها بالعبوات الناسفة كما في جنين، وهذا الحال واضح في كل من نابلس وطولكرم. وبذلك، تكون جنين كسرت الحلقة المفرغة، وأثبتت أن المقاومة ليست حالة طارئة نتجت مصادفة عن وضع أمني أو جغرافي خاص، بقدر ما هي فكرة يمكن أن تمتد لتصبح حالة لا يمكن وقفها.

لقد تحقق كسر الحلقة المغلقة أكثر فأكثر بعد اغتيال مجموعة كبيرة ووازنة من قادة المجموعات المسلحة في جنين. وبدلاً من تراجع قوة وتنظيم تلك المجموعات، باتت أكثر حرصاُ وتنظيماً. بل إن عمليات الإغتيال التي تهدف إلى خلق حالة من الردع، أنتجت ظرفاً معاكساً تماماً تمثل في انضمام العشرات من الشبان لتلك المجموعات، وبات أخطر ما في ظاهرة جنين هو امتدادها. ولعل هذا هو الأثر الأكبر الذي لا يمكن التغافل عنه أو تهميشه.

ثمة مقاربات عدة يمكن استحضارها الآن في ظل استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة. فجنين، كتجربة محاصرة بكل الوسائل، بالمقار الأمنية الفلسطينية، والحواجز الإسرائيلية، وكاميرات المراقبة، وقدرة الاختراق السريعة للقوات الخاصة للمدينة، استطاعت مجموعات المقاومة أن تطور فيها أساليب لا يمكن الاستخفاف بها، على الرغم من بساطتها، من حيث الفرق الجوهري الذي أحدثته في طبيعة المواجهة. نذكر مثلاً صافرات الإنذار عبر المساجد، وتغطية أزقة المخيم لوقاية المقاومين من كاميرات الطائرات المسيرة، وبعض الأنفاق الصغيرة للتنقل، واستخدام وسائل التواصل الإجتماعي بكثافة لتصوير أماكن انتشار جيش الإحتلال وطبيعة القوات المقتحمة وأعدادها. لقد استفادت المجموعات المقاومة من أخطائها وطورت منظومة حماية وتواصل. مهما بلغت بساطة هذه المنظومة، إلا أنها أثبتت فعاليتها، وفي الوقت الذي ظن فيه البعض أن التجربة في جنين بدأت تخبو وتصبح حالة متكلسة، كانت التجربة تنضج أكثر فأكثر، لتفجر أنماطاً وأشكالاً جديدة من المقاومة، بل وتتسع في مختلف مدن الضفة. وربما كان الصبر والمثابرة والتحضير وتطوير الممكن هو أكبر مقاربة بين تجربة المقاومة في جنين من جهة، وفي غزة من جهة أخرى.

لقد نسفت تجربة المقاومة في جنين حالة الردع في الضفة، وتراجعت أمامها قبضة أجهزة الأمن الفلسطينية لدرجة أنها تكاد لا تكون موجودة

لقد نسفت تجربة المقاومة في جنين حالة الردع في الضفة، وتراجعت أمامها قبضة أجهزة الأمن الفلسطينية لدرجة أنها تكاد لا تكون موجودة في المدينة والمخيم. وعلى الرغم من مساوئ هذه الحقيقة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي أحياناً، إلا أن جوهر دوره هذه الأجهزة الأمني بات شبه معدوم. كما أن منظومة التهجين التي صيغت بعد الإنتفاضة الثانية تلاشت وتراجعت أمام إصرار شبان غالباً في منتصف العشرينات من عمرهم، بكل ما فيهم من عنفوان وتحد وشجاعة. لم تكن هذه التجربة لتصبح حالة تعم غالبية مدن شمال الضفة الغربية، إضافة إلى أريحا، لولا التضحيات الجسيمة التي قدمها هؤلاء الشبان، حتى قبل استشهاد بعضهم. لقد افترشوا الطرقات صيفاً وشتاء لسنوات عديدة، ولم يعرفوا طعم النوم ليالي متواصلة. كما أنهم ربما لم يلتقوا بعائلاتهم سوى ساعات معدودة على مدار سنوات طويلة من الملاحقة الإسرائيلية التي عجزت في كثير من الأحيان عن الوصول إليهم، حتى عادت لاستخدام الطائرات الحربية في استهدافهم.

في النتيجة، لم تكن تجربة المقاومة في جنين حالة عابرة، بقدر ما رسمت معالم طريق جديدة للمقاومة في الضفة. لقد خسر كل من راهن على إعادة صيغة الردع في الضفة، ولا يمكن إدراك نهاية صدى هذه التجربة التي تحدث الآن، خاصة أنها في حالة اتساع مستمر. لقد خلطت الأوراق، ولم يكن للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية من هاجس قبل طوفان الأقصى سوى هذه الحالة، حتى أن مسؤولين كباراً في المنظومة الأمنية الإسرائيلية اعتبروا التهديد الحقيقي قادماً من جنين، قبل غزة وقبل حزب الله في الحدود الشمالية. لقد شكلت تجربة المقاومة في جنين ما يمكن أن نسميه فك ارتباط مع مرحلة أوسلو وما تلاها من تفاهمات أمنية وصيغ للتنسيق الأمني. ولعل مستقبل الضفة الغربية برمته قد أعيد إلى الواجهة جراء هذه التجربة المصرة على المقاومة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image