شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"خطوات إلى شنغهاي، في معنى المسافة بين مصر والصين"... رحلة في الزمان قبل المكان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والتاريخ

الأربعاء 17 يناير 202411:15 ص

حسب تعريفها اللافت للمدن، تقسم الكاتبة منصورة عز الدين المدن إلى نوعين "مدن تقهر المخيلة، تستنزفها تحولها إلى خرقة، ومدن أخرى تثريها وتشحذها لدرجة تحيلها إلى سيف مسنون، تقع شنغهاي في المسافة بين النوعين السابقين".

في كتابها الفائز بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات "خطوات إلى شنغهاي... في معنى المسافة بين مصر والصين" تشتبك الكاتبة منصورة عز الدين مع الكتابة عن المدينة الصينية التي تعد مركزاً اقتصادياً هاماً، لكن ببعد إنساني ونظرة أدبية نسوية، تحاول تعريف الآخر الذي يبدو دائماً موغلاً في الغرابة وعجائبياً بالنسبة للمواطن العربي، إذ تبدو الصين في مخيلتنا بلداً غرائبياً، نسقط عليه خيالاتنا، ونسمع عنه لا منه. فهو مرتع لكل خيال، من بينها السياسي والسلطوي، والاقتصادي الذي شهد طفرة غير مسبوقة، وبالقطع الأدبي، وكذلك تشتبك مع مفهوم الرحالة العصري، المختلف عن الرحالة القدامى كابن بطوطة وماركو بولو.

رحّالة 

رحالة هي في الأساس امرأة من مدينة من العالم الثالث، تجابه هموم الأمومة ومشاعر الذنب. نص تظهر فيه القاهرة وذات الكاتبة منعكسة في كتابتها عن شنغهاي، فتبدو شنغهاي أيضاً مرآة لاكتشاف القاهرة.

تعني شنغهاي "مدينة البحر" أو مدينة فوق البحر" وهو اسم تصفه الكاتبة والروائية منصورة عز الدين بأنه يصلح عنواناً لرواية غرائبية، أكثر منه لمدينة، يجعل منها أشبه بالمدن الطائرة، كلوحات البولندي ياسيك يركا الغرائبية، تضمر أيضاً مسافة ينبغي قطعها بين مصر والصين.  

حسب تعريفها اللافت للمدن، تقسم الكاتبة منصورة عز الدين المدن إلى نوعين، مدن تقهر المخيلة، تستنزفها تحولها إلى خرقة، ومدن أخرى تثريها وتشحذها لدرجة تحيلها إلى سيف مسنون، تقع شنغهاي في المسافة بين النوعين السابقين

كانت الصين أبعد نقطة بلغها الرحالة العربي الشهير ابن بطوطة، تبدو كأنها نهاية العالم وحدوده، رغم ذلك ستكون رحلة منصورة هي أقرب لأن تكون مرآة للنفس لا لشنغهاي أحد المراكز الاقتصادية والثقافية الهامة في الصين، أو بالأحرى نسخة منصورة عن شنغهاي مطعمة بخيالاتها، إذ تبدو المدينة التي تطأها للمرة الأولى مراوغة، كما أنها تقر أنها ترى شنغهاي بعين بها رواسب مدينتان، القاهرة موطنها الحالي وميونيخ، البلد التي ظلت راسخة في مخيلتها؛ لأنها حملت ذكرى المرة الأولى التي تسافر فيها خارج مصر في رحلة ثقافية، ومعهما تستحضر مدناً كبرلين وبراغ، المدن التي ارتبطت في ذهنها بقدرتها على الكتابة فيها رغم حاجز المكان.

المسافة بين البلدين هي محور الكتاب، وحيث السفر هو حالة انتقال وتحول بين عالمين، الطائرة فيه هي "برزخ زمكاني" يطل بعين الطائر على الكون، والتحول الذي ينبهنا إليه السفر، هو دستور الحياة وقانونها الأول، والسفر إذ هو " اقتطاع عن الماضي وأمل في المستقبل" قادر على ردنا إلى حالة من الطفولة، والأمل في السكينة. أما الماضي الذي تخلقه المسافة هو الانقطاع المؤقت عن العائلة، والطفل الذي يشهد سفر أمه للمرة الأولى، يترك غصة ومشاعر ذنب، حتى إن أول من تقابلها في رحلتها. أما مثلها بل أن حوار تلك الأم معها يكون عن مشاعر الذنب وعن الأمومة الخطرة.

لكنها ستجد الروابط الأولى التي تروض المكان الغريب عبر شيئين متضادين أحدهما روحي وعقلي والثاني روحي وحسي، الأول هو الكتابة، والثاني هو الطعام.

العثور على الألفة

فالكتابة تحررت مع الوقت من ضرورة أن تكون فعلاً يمارس داخل مكان أليف، كبيت الأب أو العائلة، إلى أن تكون في حد ذاتها هي المكان الأليف، لذا ما أن تنجح في الكتابة في غرفة الفندق الذي بدا لها مصمتاً وغريباً، حتى تدرك أنها خطت الخطوة الأولى في ترويض المكان. 

أما الخطوة الثانية التي تروض بها المكان هي قدرتها على أن تطهو في الغرفة، اكتشاف بديهي، لكن ألا يكمن سر السفر فرصتنا لاكتشاف كل بداهة، حيث عمى الغريب هو عينه المبصرة بحدة للتفاصيل، بينما عين المقيم المبصرة، قد تكون هي مكمن عماه، فكل عمى يحجب خلفه بداهة منسية. 

أن تنجح في الكتابة في غرفة الفندق الذي بدا لها مصمتاً وغريباً، هي الخطوة الأولى في ترويض المكان. أما الخطوة الثانية فهي قدرتها على أن تطهو في الغرفة. 

المكان الذي يعني البحر، لكنه يضمر البحر كسِر فلا يظهر إلا بعد ساعتين على الأقل من السير في المدينة، ينفتح ببطء من خلال كوة صغيرة، تبدأ بتكثيف العالم بكتاب من جنسيات مختلفة في قاعة محاضرات، ثم الخطوات الصغيرة معهم كأصدقاء، وفي التيه، يردون كأطفال وبدائيين أول ما يصير رهيفاً وحاداً هو الحواس والغريزة والفطرة في ظل الجهل باللغة والمكان، وحيث يعاد اكتشاف التيه، الذي لا يكون سيئاً بالضرورة ولكن فرصة كي "نخلق طرقنا ومساراتنا البديلة، ونكتشف ما لم يكن بالإمكان اكتشافه"

هكذا يكون التفاعل الأول والحقيقي في المدينة من خلال التيه داخل أسواقها، يستعين الأعمى بحاسة الرائحة، وعند الوصول يصير تناول الطعام وسط غرباء، انتصاراً ملموساً، وذوباناً ما، رسمته الصدفة. 

نزعة تغليف "الآخر" بالغرابة  

تشتبك منصورة مع الرحالة القدامى، تنتبه إلى أن المسافة المقطوعة كانت التحدي الأبرز، إذ عليهم أن يمروا عبر النقاط كلها كي يصلوا إلى وجهتهم، لذا قد يتسامح الناس مع تقاريرهم الجافة إذا ما منحتهم حكايات غريبة، عن المدن الموغلة في البعد، ولا يهم حتى إذا كانت حكايات ملفقة، ففي أعماقنا نزوع غريزي لتغليف الآخر بالغرابة.

على العكس، تنتبه منصورة إلى أن الرحالة العصري لا يمكنه في ظل وجود إنترنت أن يكتب معلومات جافة وعادية بأسلوب تقريري، ما تقر به منصورة من البداية، هو ظلال وانعكاسات للذات عبر المدينة التي قد تَحَمَّلُ إذا ما تأملتها من غرفتها في راحة اليد، وفي اكتشافها للروابط المشتركة بينها وبين الآخر، تؤكد حدود ذاتها عبر نفي ما عداه، ثم تخوض رحلة معكوسة، فتفهم ما لا يجمعها بالآخر، فتجد فيها تأكيداً له ولذاتها، تتضاعف الذات وتمتلئ، رحلة لا يهمها التوسع في المكان، قدر أن تبدأ بتحديد أماكنها الخاصة داخل شنغهاي، كحديقة وأشجار خوخ ومراقبة طقوس التاي شي، كأنها تخترق ما يكمن تحت حجب المدنية الصاخبة، المهووسة بحركة لا تهدأ مع تحديثها الرأسمالي، لترى خلف هذا أساس الثقافة الصينية الذي يميل إلى الحكمة والتأمل والهدوء.

وشنغهاي، بحسب تعبير منصورة، تبدو كأنها مدن عدة داخل مدينة واحدة من الصعب تلمسها، لكنها مع ذلك تضمر مدينة موازية تحت الأرض، في محطات مترو الأنفاق التي تبدو فيها تلك المدينة الموازية كعالم مستقل بذاته، بمجمعاته التجارية الضخمة والماركات العالمية، لكن ما تدركه أيضاُ هنا هو الحيوية والتنظيم لشيء معقد كمدينة تحت الأرض.

في المدينة المائية "تشو جياجياو" التي تقع على حدود شنغهاي، والتي يعود تاريخها إلى أكثر من 1700 عام، تجد منصورة رابطاً قسرياً بين المدينة وإيثاكا الأوديسة وقصيدة كفافيس الشهيرة، وإذ تتورط في أكل اللوتس، تزيد تعميق تلك الرابطة بينها وبين أوديسيوس الذي كانت تكفيه تلك الزهرة ليشعر بالخدر والسكينة والاسترخاء وكذلك التخلي عن فكرة العودة إلى الوطن، كما أن المدينة بطابعها المختلف عن حداثة شنغهاي بقلة سكانها وآثارها ومساحات الأشجار والطبيعة الهادئة والسكينة، تؤكد ما تبحث عنه منصورة، الوجه الحقيقي للصين، المختبئ خلف ناطحات السحاب العملاقة.

كانت الصين بالنسبة للرحالة العرب محلاً للحكمة وإيقاظ الخيال والغموض والحر، كما ورد عند الجاحظ وفريد الدين العطار وابن بطوطة وأبي حيان التوحيدي. 

اللوتس... ألفة أخرى 

تُدهش من وفرة زهرة اللوتس في الصين على العكس من مصر، رغم رمزية تلك الزهرة في الحضارة المصرية. مصر أيضاً تنقطع عن ماضيها، لكنها لا تصنع وجهاً جديداً عصرياً، بل ممسوخاً إلى حد ما، وعلى عكس الصين التي تمد، رغم حداثتها، جسوراً متينة مع الماضي، حتى وإن حاولت التمرد عليه في أوقات الثورة الثقافية، فحضارتها القديمة هي الدافع والمحرك لفلسفة حضارتها الحالية، والدولتان مصر والصين تعرفان في ماضيهما مجداً. على عكس مصر لا تبكي الصين على الأطلال، بل يتحول ذلك الفهم لمكانها ومكانتها إلى سعي دؤوب لاستعادته.

لا تبهرها أضواء المدينة المبالغة فيها في النهار والليل، هي بالنسبة لها تخفي إرادة في التعتيم على شيء ما عبر الأضواء الباهرة والمتناسقة كأنما أشرف على تآلفها فنان. 

تُدهش منصورة من وفرة زهرة اللوتس في الصين على العكس من مصر، رغم رمزية تلك الزهرة في الحضارة المصرية. مصر أيضاً تنقطع عن ماضيها، لكنها لا تصنع وجهاً جديداً عصرياً، بل ممسوخاً إلى حد ما، على عكس الصين التي تمد، رغم حداثتها، جسوراً متينة مع الماضي

كأنها تخفي جرحاً يذكرها بجرح في الوطن مصر، إذ إن مصر والصين لا تشتركان في الحاضر، وإنما في عراقة الماضي، وما الأدب إلا نكأ للجراح المسكوت عنها في أوطانها، وعندما تسير في دروب جامعة فودان العريقة، في شنغهاي حيث اندلع للمرة الأولى أدب الندبة، الذي كان نكأ جراح ما خلفته الثورة الثقافية من وصم وتشهير، حيث يشهر المجروحون آلامهم، ويحولونها إلى كلمات.

المدينة ترى لا من خلال نشرها، بل من خلال الطبيعة، استنطاق الصمت، الزهور، الأشجار، الأسواق، أنواع الطعام، التراث، الرابط المشترك بين حضارتين، أضواء الحداثة وأخيراً الفن الصيني التقليدي بما يميزه من اقتصاد يميل إلى التجريد والبساطة البليغة، ويعتبر الألوان والظلال – على عكس الفن التشكيلي الغربي- مجرد تشتيت، وأن الزخارف والصخب فائضة عن حاجة الفن، منساباً بلا حواف تمثيلاً وترجمة بليغة للفلسفة الطاوية "كن ماء، يا صديقي. كن ماء".

وفي اللحظة التي تقطعها في الزمان لا المكان، حيث كل شيء يحيل إلى خبرة شخصية في الماء، تستعيد أيضاً طفولتها، فما تبحث عنه في صخب شنغهاي، كأن الفردوس، الذي خبأته الذاكرة أو اختلقته، كبذرة، كل ما تحتاج إلى الري هو ماء الاقتلاع من المكان والنظرة الطازجة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard