شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
القطط والنساء: حلمت امرأة أنها قطة...

القطط والنساء: حلمت امرأة أنها قطة...

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الثلاثاء 16 يناير 202411:38 ص

عندما اشتكى الإنسان الأول من وحدته للرب قائلاً: يا رب، ماذا أصنع بهذا الكون الفسيح، وأنا بالكاد أعرف جزءاً ضئيلاً مما بداخلي؟ فأرسل الرب له قطاً (اسمه جمعة) ليعلّمه كيف يكون الكسل ممتعاً، وكيف ينتقل، بنفس اللباس، من المطبخ إلى السجّادة الحمراء في مهرجان "كان"، دون أن يشعر بالاضطراب أبداً.

امرأة أليفة

كنت دائماً ومنذ طفولتي أفكر في حقيقة انجذاب القطط بشكل خاص، والحيوانات الأليفة بشكل عام، لرفقتي، بهذا الشكل الملحوظ الذي جعل بعض أصدقائي ينعتونني بـ "سندريلا"، فكلما مررت بجوار قطط أو مجموعة من كلاب الشوارع، لا أعدم وجود واحد يرغب في التقرّب مني أو مرافقتي. لا أذكر أنني تعرّضت للأذى يوماً على يد أي حيوان أليف كان، بل غالباً ما جاني الأذى من  بشر، أصدقاء أو أقرباء، لذلك وعندما قررت اختيار صديق يكون بمثابة رفيق الروح، كان هذا الصديق هو "جمعة" بطل هذه المقالة والذي سأروي رحلتي معه بالتفصيل في السطور التالية.

عندما اشتكى الإنسان الأول من وحدته للرب قائلاً: يا رب، ماذا أصنع بهذا الكون الفسيح، وأنا بالكاد أعرف جزءاً ضئيلاً مما بداخلي؟ فأرسل الرب له قطاً ليعلّمه كيف يكون الكسل ممتعاً

قبل أن أتحدث عن جمعة أود أن أتحدث عن كيف كانت رحلتي في الوصول إليه، فاختيار قط ليكون رفيقاً بدلاً من البشر جعلني لم أسلم من الانتقادات، فكان البعض يعلق بأن البشر لم ينقرضوا بعد، وآخرون يقولون إن الكلاب أوفى والقطط تحتل مركز ما بعد العقرب في الغدر والنكران، (وهم غالباً ينسون البشر في ذلك)، ولكن هذا لم يجعلني أتراجع عن الحب والانجذاب غير المشروط، وغير المفهوم أيضاً، للقطط،  حتى جاء لي تفسير روحاني من شخص لا يعلم عني شيئاً، ووجدت في هذا التفسير راحة لروحي وسكوناً لعقلي، فأثناء كتابة مقال تاريخي، قمت بالاستعانة بمصدر، وهو عالم مصريات، لتزويدي ببعض المعلومات، وبعد حديث قصير دار بيننا، قال لي نصاً: "هل تعرفين أنك تشبهين باستت بشدة، وكأن روحها انتقلت عبر الأجيال لتستقر في جسدك".

سألته مهتمة: "ومن هي باستت؟"، فأجاب: "باستت هي إلهة الحنان والخصوبة والحب لدى قدماء المصريين، تكوينها قطة ممزوجة بجسد فتاة".

سألته مسرعة: "وهل يمكن أن يكون هذا سبب تعلقي الشديد بالقطط؟"،  فأجاب: "بالتأكيد، وأعتقد أنك تلاحظين كذلك انجذاب القطط لك بشكل غير عادي، بل وأكاد أجزم إنك تفهمين لغتهم بقلبك".

من هو جمعة؟

كل من يعرفني، سواء على المستوي المهني أو الشخصي، أو حتى من يتابعني على منصات التواصل الاجتماعي يعرف جمعة جيداً، صديقي الصدوق و رفيقي في بلاد الهند والسند. لم يسمع أحد اسمه إلا وأصابته الدهشة أو نوبة ضحك أو سخرية تحمل في طياتها تساؤلاً عن سبب هذا الاسم غير التقليدي، فالغالبية يتوقعون أن يروا جمعة بلباس الصعايدة التقليدي، ولم أجب يوماً عن سبب اختياري لهذا الاسم بالتحديد، و لكنني قرّرت الإفصاح عن هذا السر الآن.

في عام 1719، وتحديداً شهر نيسان/أبريل، صدرت رواية تعتبر من أهم أعمال الكاتب العظيم دانييل ديفوي. كانت تحمل اسم "روبنسون كروزو"، وتدور أحداثها حول شاب قضى ما يقرب من 30 عاماً وحيداً في جزيرة معزولة، حتى ظهر له من العدم شخص بدائي أصبح أنيس وحدته، وبما أنه ظهر في يوم جمعة فقرّر أن يطلق عليه الاسم ذاته.

وجدت العديد من أوجه الشبه بين تلك الرواية وروايتي، خاصة و أن جمعة "القط" جاء لحياتي بعد سنوات قضيتها في الغربة وحيدة، حتى أصبحت أهم عاداتي الوحدة، وأصبح الاختلاط بالبشر يصيبني بالتوتر، فصرنا اليوم، أنا والعزيز جمعة، نقف بمواجهة الوحدة، يداً بيد، أو ذيلاً بذيل.

لم يحتلّ جمعة مكانة الصديق فقط، بل جعلني اختبر شعور الأمومة عن كثب، فأصبحت اهتمّ بالنهوض مبكراً لتقديم وجبته الأولى، وأقوم بتنظيف وعاء الرمل دون تقزّز أو شعور بالضيق، لا أستسلم للنوم إلا وهو بجانبي، وأعانقه بهذا الحنان الذي لا أعلم مصدره بداخلي، أسمح له بأن يتذوّق طعامي ونلعب معاً لعبة المطاردة، ولا أطيق السفر لمدة طويلة حتى لا أبتعد عنه، بل وكنت في بعض الأوقات أطلب من مديرة منزلي أن تجري مكالمة فيديو حتى أراه و أتحدث معه، والغريب أنه يتفاعل معي وسط دهشة من حولي.

اصطحبني جمعة إلى عالم جديد صنعه لي دون دراية منه، هذا الصغير، كرة الفرو المتسخة، الذي يرافقني حتى إلى الحمام، أصبح يشاكسني ويشاركني ويشاطرني كل تفاصيل الحياة، حجز مكانته كرفيق درب دون نزاع من بشر أو كائنات أخرى، وبخلاف كل ما سبق، جعلني جمعة أخلق فلسفة جديدة أصبحت الإجابة النموذجية لكل من يصف أمامي القطط بالغدر، أو يقوم بمقارنة لامبالاتها بوفاء الكلاب.

أقبّل القط جمعة يومياً قبل النوم، ذلك أني، كأي طفلة سحرتها الحكايات، أحلم بأن يتحول جمعة، صديقي ذو الفرو المتسخ، إلى أمير أسطوري، بقبلة ما، أو أن أتحول إلى قطة، لننعم معاً بها الكسل اللذيذ

تلك الفلسفة تكمن في أن القطط تشبه كثيراً النساء، أو حتى أكون أكثر دقة، تشبه هذا الفصيل من النساء الذي أنتمي إليه، فالقطط لن تنسجم معك أو تظهر الحب لمجرد أنك تطعمها، فالطعام من وجهة نظر القطط حق بديهي وليس سبباً للحب أو أعطية من أحد، كذلك لن تثق بك القطط سريعاً، حتى لو أظهرت لها وجهاً ملائكياً وأمنت شرك، لو كان هذا الوجه زائفاً ستحتاج القطط إلى أيام وأسابيع، وربما شهور، من المراقبة بصمت حتى تنجح في الحصول على قلبها وتفوز بثقتها، وبعدها ستكون على بوابة جنتها، لأن ما ستقدمه لك القطة من حب ووفاء ودعم سيتخطى كل حدود الكرم العاطفي.

ترى، أي قباحة عاشها هذا الذي وصف القطط بأنها تأكل وتنكر؟ إلى أي سواد ينتمي وأي ألم سكن قلبه؟

الشيء الوحيد الذي يأكله وينكره جمعة هو أسراري التي يعلمها جيداً، الخطير منها والبسيط، العميق منها والسطحي. يقولون إن هناك طريقتين لنسيان الهموم: الموسيقا والقطط، وهذا ما اختبرته شخصياً في العديد من المرات، فجمعة يشعر بي كأنه يسكن روحي ويقرأ أفكاري، يعلم جيداً متى يصمت لأنني أحتاج الهدوء، ومتى يجبرني على النهوض من الفراش واللعب معه لأنني مصابة بالاكتئاب. أرى في عينيه دوماً كل الإجابات التي يتفوّه بها أحياناً على هيئة جملة واحدة متكرّرة "مياو". أرى في عينيه دموعاً لو رآني أبكي، ويظل يتبعني في أرجاء المنزل، بل ويشاهد الأفلام معي بنهم، ولكم أن تتخيلواً قطاً مغرماً بالسينما الهندية.

أقبّل جمعة يومياً قبل النوم، ذلك أني، كأي طفلة سحرتها الحكايات، أحلم بأن يتحول جمعة، صديقي ذو الفرو المتسخ، إلى أمير أسطوري، بقبلة ما، أو أن أتحول إلى قطة، لننعم معاً بها الكسل اللذيذ. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

رصيف22 من أكبر المؤسسات الإعلامية في المنطقة. كتبنا في العقد الماضي، وعلى نطاق واسع، عن قضايا المرأة من مختلف الزوايا، وعن حقوق لم تنلها، وعن قيود فُرضت عليها، وعن مشاعر يُمنَع البوح بها في مجتمعاتنا، وعن عنف نفسي وجسدي تتعرض له، لمجرد قولها "لا" أحياناً. عنفٌ يطالها في الشارع كما داخل المنزل، حيث الأمان المُفترض... ونؤمن بأن بلادنا لا يمكن أن تكون حرّةً إذا كانت النساء فيها مقموعات سياسياً واجتماعياً. ولهذا، فنحن مستمرون في نقل المسكوت عنه، والتذكير يومياً بما هو مكشوف ومتجاهَل، على أملٍ بواقع أكثر عدالةً ورضا! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، وأخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا!.

Website by WhiteBeard