ماذا سنفعل الآن، أقصد ماذا سنفعل بعد الآن؟ وكيف سنكمل أيامنا؟
لأننا لا يمكن أن نكمل ما كنا نفعله، على الأقل ليس بالطريقة نفسها. طبعاً بعضنا، أقصد معظمنا، سيكمل، أما نحن الذين نعرف أنه لا يمكننا أن نكمل عيش حياتنا كما كنا نفعل، فماذا سنفعل الآن، وكيف سنكمل؟
إذ كيف يستأنف البشر حياتهم بعد القيامة؟ بعد وقوع أحداث نهاية العالم دون أن ينتهي بعد؟
لكنّ هذه الأحداث يبدو أنها حدثت لكُثُر من قبل، في بقع كثيرة على الكوكب وفي أزمنة مختلفة، ولم ينته العالم، أي لم تكن أحداث نهاية العالم كافية حينها لتنهي العالم ولا ليتوقف البشر عن العيش والاستيقاظ، فما الذي سيجعل هذه المرة مختلفة؟ لم ينته العالم قبل ولن ينتهي الآن.
كيف يستأنف البشر حياتهم بعد القيامة؟ بعد وقوع أحداث نهاية العالم دون أن ينتهي بعد؟
لقد أدركنا متأخرين أن العالم قذر، وأن الطيبين لا يمكنهم تغيير شيء، وأننا لا يمكننا تغيير هذا العالم القذر لأننا الطيبون.
لم ينته العالم لأن هذه الأحداث التي ظننا أنها أبوكالبسية ليست كذلك. لن ينتهي هذا العالم بهذه الطريقة. أحداث نهايته مختلفة. ما انتهى الآن هو عالم الذين ماتوا وعالم الذين خسروا؛ انتهى عالم الضحايا... عالم الطيبين فقط، وعالم الضحايا المؤجلين؛ ضحايا الغد سينتهي في الغد، بعد غد على أبعد تقدير، دون أن ينتهي العالم فعلاً.
مجزرة بعد مجزرة سنألف المشهد والعجز، وسنتوقف شيئاً فشيئاً عن الشعور بالمظلومية وانتظار سوبر مان، ومن ثم خيبة أمل عدم طيرانه صوبنا... إذ سنتذكر بسرعة أن سوبر مان هو شخصية خيالية وإن ما يحصل لنا حقيقي جداً.
سننضج أخيراً، رغم أننا كنا نظن أننا نضجنا منذ عقود، وسنفهم أن الأكوان الموازية التي سحرنا باكتشاف نظرياتها موجودة فعلاً، ولكن مرئية وضمن كوكبنا.
وبما أننا أدركنا، ولو متأخرين، حقيقة العالم ومكانتنا فيه، وأن لا علاقة بين نهاية عالمنا بنهاية العالم فعلياً، وبما أن ما يحصل حصل مسبقاً وحصل كثيراً ومستمر بالحصول، سيتحتّم علينا بعد أن يخفّ إعياؤنا وذهولنا أن نختار كيف نكمل بحال قرّرنا أن نكمل؛ كيف نكمل بعد معرفتنا أن ما يحصل لن يتوقف إلا توقفاً مؤقتاً، لينتقل من جغرافيا إلى أخرى، فما حصل ويحصل هو الخامة التي يتشكل منها عالم الطيبين.
بعد اكتشاف سذاجتنا سيكون علينا أن نكمل حياتنا بسذاجة أقل، سنتخلى عنها تدريجياً كما يتخلّى الأطفال عن أصدقائهم المتخيلين، سنطلق سراحها، سندعها تفلُت من يدنا كما يفلِت طفلٌ بالوناً أحمراً من يده مرغماً، ويراقبه يسبح بعيداً في الهواء.
بعد اكتشاف سذاجتنا سيكون علينا أن نكمل حياتنا بسذاجة أقل، سنتخلى عنها تدريجياً كما يتخلّى الأطفال عن أصدقائهم المتخيلين، سنطلق سراحها، سندعها تفلُت من يدنا كما يفلِت طفلٌ بالوناً أحمراً من يده مرغماً، ويراقبه يسبح بعيداً في الهواء
ولكن بعد هذا النضج المتأخر، وبينما نعود لنمارس يومياتنا وطقوسنا وأعمالنا -كونوا أكيدين أننا سنعود لنمارس يومياتنا وطقوسنا وأعمالنا - فإن صوت ضحكاتنا سيكون مختلفاً؛ لن يتمكن الجميع من تمييز هذا الاختلاف ولكن نحن سنميزه. سنضحك – كونوا أكيدين أننا سنضحك – ولكن سيكون لجزءٍ من ضحكتنا سبب آخر غير الذي ندّعي الضحك لأجله، لن يكون ضحكاً بالفعل، إنما صوت استولى على هذا الجزء من الضحكة وتنكر بها... سيكون صوت ذاكرتنا.
سنتذكر ونحن نضحك، ومن ثم سنضحك ونحن نتذكر كم كنا نظن أننا ساخرون ولا نبالي، وكم كنا نظنّ أننا أذكياء وغير معنيين بالآخرين قبل أن نكتشف سذاجتنا ثم نتخلى عنها مكرهين.
هذا الجزء من الضحكة؛ من صوت الذاكرة المتنكر بضحكة سيكون بسبب البالونات الحمراء الهائمة في السماء فوقنا، وللذكرى في الأصابع الطرية التي لم تنس كيف أطلقتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...