شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
حوار مع الشاعرة لينة عطفة... موهبة كادت أن تخنق في سوريا

حوار مع الشاعرة لينة عطفة... موهبة كادت أن تخنق في سوريا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والمهاجرون العرب

الجمعة 19 يناير 202403:47 م

كرس كتاب الشاعرة لينة عطفة "كفن من أجنحة الفراشات" الصادر باللغتين العربية والألمانية، وجودها في الساحة الأدبية الألمانية، مع ترشيحها ومترجمي كتابها عثمان يوسفي وبريغيته أولشينكي، هذا العام أولاً لجائزة معرض لايبزغ للكتاب، ثم فوزها بجائزة منطقة الرور للأدب، ليصبح ديوانها أول كتاب مترجم من لغة أجنبية ينال الجائزة، التي مُنحت لأول مرة في العام 1986.

ورأت لجنة تحكيم الجائزة منطقة الرور، غرب ألمانيا، وقيمتها المادية 15 ألف يورو، أن لينة تخلق بشعرها عالماً ملموساً ومحسوساً وفي نفس الوقت عالمياً ومتسماً بالغموض.

ووصف مورات كاي، العضوة في لجنة التحكيم، أعمال لينة، المقيمة في بلدة فانا-ايكل، بأنها ذات أثر شبيه بشكل جميل خاص من التنويم الإيحائي. فيما قالت زميلتها كاترين براكمان أن قصائد لينة حسية وجميلة وجزئياً: "مزعجة ومفزعة"، ومع ذلك لمستها لينة في كل قصيدة قرأتها لها في الكتاب، الذي تغطي عبره طيفاً واسعاً من المواضيع.

"كفن من أجنحة الفراشات" الصادر باللغتين العربية والألمانية للشاعرة السورية لينة عطفة، يفوز بجائزة منطقة الرور الألمانية للأدب، ليصبح أول كتاب مترجم من لغة أجنبية ينال الجائزة

ويقدم الشاعر الألماني يان فاغنر للكتاب بالقول: "لكن عند الأخذ بعين الاعتبار بأن الفراشة تعتبر منذ العصور القديمة تجسيداً للروح، التي تتسم بالقدرة على التشرنق والعودة إلى الحياة، يحمل هذا الكفن في الوقت نفسه بعض المواساة، لأنه يبعث الأمل في صحوة جديدة، وإن كان ذلك في شكل آخر".

التقى رصيف22 لينة، وكان هذا الحوار عن الهوية وتجربة الترجمة المشتركة، وكيف راحت تختبر بمرارة وهي ما زالت مراهقة، قمع ديكتاتورية وجدت في شعرها خطراً على أمنه.

في ندوة شعرية نُظمت مؤخراً في دار الأدب في برلين، قدم مدير الندوة هيربرت فيسنر، على أنك كاتبة ألمانية ناطقة بالعربية. إلى أي حد تتفقين مع هذا التوصيف؟

لينة: أعتبر توصيفه دقيقاً إلى حد ما. سبق أن قدمت نفسي على أنني كاتبة ألمانية تكتب بالعربية، رغم تأخري في الحصول على الجنسية لأسباب بيروقراطية.

لأوضح ما أقصده، علي العودة إلى حياتي في سوريا، وتحديداً للعام 2006. استدعاني حينها جهاز الأمن السوري وحقق معي وأنا في السابعة عشرة بسبب قصيدة قرأتها في المركز الثقافي في مدينتي السلمية. خضعت للتحقيق لعدة ساعات بحضور والدي، الذي لم يسمحوا له بالنطق بحرف خلاله، وحذروني ألا أتكلم بالسياسة لأن لا مصلحة لي في إغضابهم، وألا أحكي بالدين لأن الشارع "متدين" وهم لا يستطيعون حمايتي، وألا أكتب كلمات "بذيئة"، لأنني أخاطر بذلك، كابنة عائلة محافظة ومحترمة بألا أجد رجلاً يقبل بي زوجة مستقبلاً! مع ذلك، حرموني من القراءات والنشر منذ العام 2006 وكان لذلك أثرٌ سيئٌ عليّ لأن مدينتي كانت حافلة بالفعاليات الثقافية. لكن في نفس الوقت كنت سعيدة لقدرتي على قول لا للنظام.

استدعاني جهاز الأمن السوري وحقق معي وأنا في السابعة عشرة بسبب قصيدة قرأتها في المركز الثقافي في مدينتي السلمية. وحذروني ألا أتكلم بالسياسة لأن لا مصلحة لي في إغضابهم.

كنت متأثرة بخال والدي، عبد الكريم الضحاك، الذي كان مديراً للمركز الثقافي في السلمية، قبل أن يعتقل مدة 12 عاماً. هو من دفعني لأكون شاعرة وأن أكتب الشعر. منذ صغري كنت أشعر ولا أفهم تماماً أثر النظام سلباً في كل مناحي الحياة، لكن هذه الحادثة جعلتني أدرك ذلك، فما هو ذاك الخطر المتوقع من قصيدة تقرؤها طالبة ثانوية، حتى يتم حظر نشاطي، ويتم استدعائي للتحقيق.

في 2016 كانت أول أمسية وتواصل مع الجمهور لي هنا في ألمانيا، حينما نُظم مهرجان القصيدة السورية في كولونيا. نشر تلفزيون في دي إر مقتطفاً لي وأنا ألقي قصيدة. ثم اقترحت المترجمة ساندرا هيتزل اسمي على ناشر ألماني يدعى يواخيم فون تزيبلن، كان قد قرأ قصيدتي على "هامش النجاة"، وضمها إلى أول انطولوجيا للشعراء اللاجئين، اسمها "أن تكون بعيداً.. أن تكون هنا". بعدها تواصلت مع مشروع فايتر شرايبن، الذي يعني "مواصلة الكتابة". وتوالت الفرص وانخرطت في الوسط الثقافي الألماني، وبدأت بالتواصل مع الجمهور أكبر.

وعندما شعرت في إحدى المرات بأن لدى المترجم موقفاً سياسياً مغايراً لموقفي ويغير ترجمة كلامي، قررت أن أتكلم بنفسي مهما ارتكبت من أخطاء. هي ليست لغتي الأم في النهاية، لكنني قادرة على التعبير عن نفسي.

لذا وصفي بكاتبة ألمانية تتكلم بالعربية صحيح، لأن اللغة الألمانية هي التي قدمتني للجمهور وأوصلت صوتي، وجعلتني قادرة على الظهور ومكنتني من إيجاد صوتي الشعري. في المقابل، كان الأفق في وطني مسدوداً في وجهي، ويا للأسف، لأن الطغاة هم حجر عثرة يجعلون التاريخ واقفاً. الألمان هم الذين منحوني الفرصة وهذا ما لا أنكره، بل أنا ممتنة لذلك.

في البداية دعموني، لكوني لاجئة، في وقت كانوا بصدد دعم اللاجئين. وعانيت قليلاً لتجاوز وجوب كتابتي عن الموضوع لكوني لاجئة، رغم أنه مهما كتب المرء لن يفي الشأن السوري حقه. لكنني امرأة وأم وهناك حياة تطحنني أريد الكتابة عنها. المجال الثقافي في ألمانيا أعطاني المجال لأكتب بعيداً عن هذه الهوية المحدودة.

هذا كتابك الثاني الصادر بالألمانية بعد "سفر الوصول المفقود". هل تتصورين نفسك يوماً تكتبين باللغة الألمانية؟

لينة: أتمنى أن أستطيع كتابة الشعر بالألمانية، لكونها لغة جميلة وتعني لي الكثير، ولدي العديد من الأفكار التي أحب مشاركتها مباشرة بالألمانية. لكنها في الوقت نفسه صعبة التعلم. أنت بحاجة للغة الأم حصراً لكتابة الشعر، شأنه شأن التواصل خلال العلاج النفسي. الشاعر/ة بحاجة لمعرفة أسرار اللغة والأمثال الشعبية والقصص الموروثة لتستطيع الكتابة. البدء بتعلم اللغة تأخر للغاية بعد وصولي لألمانيا، إذ أمضيت وقتاً طويلاً حتى تقبلت بأنني خسرت كل شيء.

هناك الكثير من القصائد المتعلقة بالأمومة في ذهني لكنني أشعر بأنه لم يحن الوقت لكتابتها.

هذه جائزة مشتركة لك وللمترجمين. كيف يمكننا تخيل طريقة عملك مع زوجك عثمان الذي يترجم عملك؟ هل يلعب دور وسيط أدبي، ينقل الكلام إلى الألمانية ثم تقوم المترجمة الألمانية الأخرى بريغته أوليشينسكي، بإعادة الصياغة بالألمانية؟

لينة: أعدَّ عثمان الترجمة الأولية. الترجمة الحرفية للشعر ثم كانت هناك حاجة للتكثيف أو الترجمة الشعرية، وهو ما قامت به الشاعرة بريجيت أوليشينسكي، التي أجدها حاذقة وذات موهبة فريدة. أعتقد أن الترجمة لفتت الأنظار لأنها وصلت بذات الروح التي كتبت بها بالعربية، مع كافة "الألعاب" اللغوية واستخدام تعبيرات مقابلة باللغة الألمانية. لذا يصل النص للجمهور وكأنه مكتوب باللغة الألمانية. أجد هذه الطريقة الأجدى في الترجمة الشعرية. أجد على سبيل المثال أن الترجمة الألمانية لأعمال شاعر عظيم كمحمود درويش ظالمة له، وتبخس حقه.

فيما يتعلق بسبب عدم الاستعانة بترجمة مباشرة للألمانية، سبق أن تعاملت مع مترجمين/ات، وكانت العملية متعبة لي، ولم يكن النص النهائي مرضياً تماماً على النحو الذي كان عليه الحال مع عثمان وبريجيت. بالإضافة إلى الملكة اللغوية، يعرفني عثمان جيداً، باعتباره زوجي وصديقي، ويكون موجوداً وأنا أكتب. يفهم روح النص تماماً ويعرف كل أفكاري والخامة الأولى للنص. عندما جلست مع المترجمة بريغيته، شرحت لها خلفيات كتابة كل قصيدة، وأرى أنني استفدت من ذلك، إذ نقلت روح نصوصي للألمانية.

تتنوع موضوعات قصائدك في مجموعتك الجديدة، من الحياة في وقت وباء "كورونا" إلى توصيف ما مر به طفل ناج من مجزرة، وقصيدة رافضة لاعتذار بائس لا معنى له من زوج معنف، و "أمرؤ القيس في برلين" الذي تتخيلينه لاجئاً ثملاً في ملهى بيرغهاين. هل تضعين في ذهنك مواضيع معينة ستكتبين عنها في مجموعتك القادمة أم أن المجموعة هي مرآة لحياتك في الفترة السابقة للظهور؟

لينة: لا أضع في ذهني مواضيع معينة لأكتب عنها، بل تكون الكتابة عفوية، ومزاجية، أترك الأمور تأخذ مجراها. عندما سألني الناشر عن موعد نشر كتابي التالي، فوجئت عند العودة للقصائد التي كتبتها، بأن لدي كتاباً مكتملاً.

يختلف الوضع في الحالات التي أحصل ضمنها على منح، كتلك التي أخدتها لأكتب قصائد مستلهمة من لوحات الفنان النمساوي غوستاف كليمت، أو الفنانة كاترينا غروسه.

هناك الكثير من القصائد المتعلقة بالأمومة في ذهني لكنني أشعر بأنه لم يحن الوقت لكتابتها. لا أستطيع أن أجبر نفسي على الكتابة في شأن ما، رغم امتلاكي طقس كتابة واستطاعتي استحضار روح الكتابة.

وأنت تشيرين إلى طقس الكتابة، كيف يبدو بالنسبة لك؟

لينة: يروقني تبادل الحديث مع الشاعرات والشعراء الذين ألتقيهم عادة، حول طقس الكتابة. وأجد أغلبيتهم مثلي يكتبون وهم نصف مستلقين. إلى الآن أستخدم الورقة والقلم. لم أستطع التأقلم مع الحداثة والكتابة على الكمبيوتر المحمول أو الموبايل. يحفزني الليل على الكتابة.

 من اللافت إشارة منظمي الأمسيات إلى طريقة ألقائك للشعر. كيف تجدين انطباع الجمهور الألماني حيال إلقاء الشعر بلغة لا يفهمونها؟

لينة: أجده يتأثر بطريقة إلقائي. في أمسية لي في معرض لايبزغ للكتابة، كنت أقف على منبر، وعندما بدأت بإلقاء الشعر امتلأت الممرات بالجمهور، وقالت طالبة في مقال حينها إن لينة تغلق الممرات في معرض لايبزغ، ما أثر فيَّ عميقاً.

لفتني أن التعاطي مع ذلك يختلف بين الجمهور العربي والألماني. أرى أن الإلقاء مرتبط بالشعر العربي منذ العصر الجاهلي، ولا يقلل من قيمته، بل على العكس.

اللغة العربية موسيقية وذات إيقاعات. هذا ما تلتقطه الأذن الأجنبية وتتأثر به. إذ أسمع الجمهور يقول لي بعد الأمسيات إن القشعريرة انتابتهم، رغم عدم فهمهم الكلام. أجد الإلقاء جزءاً من النص وإكمالاً له. ولا يقلل من قيمة النص. ولا أجد ضيراً في أن يكون الشعر نخبوياً وجماهيرياً.

يخبرني الجمهور الناطق بالعربية أيضاً بأنه تأثر بالنص أكثر بعد استماعه للإلقاء، رغم قراءته له سابقاً.

تستند قصيدة "الإرث" إلى قصة حقيقية في سوريا، عن فتى ناج من مجزرة. هل لك أن تحدثينا عنها؟

لينة: استوحيتها من قصة فتى ناج من مجزرة ارتكبها تنظيم داعش في ريف حماة، بالتواطؤ مع النظام. بعد عدة سنوات حاول شخص مقرب من النظام، التغرير به، بعد أن بات مراهقاً، للذهاب معه إلى “التعفيش" في إحدى القرى في ريف حماة. تأثرت بقصته، وكيف سُلبت منه إنسانيته مرتين، مرة بقتل أهله أمام عينيه وتدمير منزله، ثم مرة أخرى بمحاولة تجنيده ليصبح لصاً.

أرى أن كل سوري يخوض معركة مع نفسه كي لا يصبح النسخة التي يريد أن يحولنا النظام السوري إليها. كل سوري يخوض معركة كي لا يتحول إلى مرآة للمستبد

أرى أن كل سوري يخوض معركة مع نفسه كي لا يصبح النسخة التي يريد أن يحولنا النظام السوري إليها. كل سوري يخوض معركة كي لا يتحول إلى مرآة للمستبد، أو  قل إلى حافظ الأسد. ما نعانيه كسوريين ليس اضطراب ما بعد الصدمة بسبب العنف والحرب فقط، بل بسبب اكتشاف أننا انعكاس لصورة المستبد. هنا يأتي التساؤل كيف سأنزع وجه قاتلي عن وجهي وأستعيد وجهي الإنساني. أعتقد أن الثورة السورية أثرت وساهمت باستعادة الوجه الإنساني للسوريين، وأن التغيير حدث وانتهى، طالما حدثت تلك المواجهة مع إجرام هذا النظام، وتم ذاك التواصل مع ذواتنا وهويتنا الإنسانية.

عندما نبذل جهوداً كبيرة ومضنية في سبيل أي شيء فإننا نصل إليه مرهقين تماماً، حتى أننا نفقد لذة الحصول عليه

تبدأين مجموعتك بقصيدة "العودة". لم ذلك في ظل عدم قدرتك على العودة لأسباب سياسية؟

لينة: تحتمل القصيدة عنوانين "العودة" أو "الوصول"، لأنني عندما كتبتها كنت أفكر إن تمكنت من العودة فكيف سيكون حالي. وكيف ستكون عواطفي. أفكر أيضاً بعلاقتي مع المكان الجديد ألمانيا. أعتبر أنني وصلت إليها مرتين، أولاً مع الصدمة الأولى، المنفى والخسارة، ثم عندما قبلت واستسلمت وتصالحت مع كل خسارتي ومع المكان الجديد، الذي بتّ أحبه.

لكن في كلتا الحالتين كنت مرهقة تماماً. عندما نبذل جهوداً كبيرة ومضنية في سبيل أي شيء فإننا نصل إليه مرهقين تماماً، حتى أننا نفقد لذة الحصول عليه ونفقد أيضاً الغضب والرغبة في الانتقام.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard