بدلاً من توزيعها على من يستحقونها في معسكرات اللجوء التي تنتشر على الأراضي السودانية كافة، قام مسؤولون حكوميون بالاستيلاء على العديد من المساعدات الإغاثية التي وصلت إلى البلاد عبر ميناء بورتسودان خلال الأشهر الماضية. بدأت القصة برصد بضائع عليها شعار الصليب الأحمر ومنظمات إغاثية دولية، تُباع في أسواق تجارية في ولاية الجزيرة في وسط البلاد وولاية نهر النيل في الشمال، بعد تسلم الولايتين حصتيهما من الحكومة التي تعمل من مدينة بورتسودان.
كيف سُرقت المساعدات؟
أخبر تاجر في ولاية نهر النيل، يدعى محمد العباسي، رصيف22، بأنّ المساعدات الإنسانية تسربت إلى الأسواق بشكل كبير، وذكر أنّه تلقّى عرضاً لشراء مواد غذائية من المساعدات الإنسانية التي تحمل شعار الصليب الأحمر، استولى عليها مسؤول حكومي.
أخبر تاجر في ولاية نهر النيل، رصيف22، بأنّ المساعدات الإنسانية تسربت إلى الأسواق بشكل كبير، وذكر أنّه تلقّى عرضاً لشراء مواد غذائية من المساعدات الإنسانية التي تحمل شعار الصليب الأحمر، استولى عليها مسؤول حكومي
كما ضبطت الشرطة في ولاية الجزيرة مواد إغاثيةً لدى أحد التجار. يقول سالم الجاك سالم، وهو مساعد شرطة في قسم ود الحداد، لرصيف22، إنّ الشرطة ألقت القبض على تاجر ضُبطت لديه العديد من مواد الإغاثة، وهي مواد غذائية وصلت إلى البلاد من منظمة الأغذية العالمية. ويذكر أنّ التاجر قام بإعادة تعبئة المواد الغذائية في أكياس تغليف لإخفاء شعار المنظمة الدولية، وباع جزءاً منها في السوق التجاري، فتمّ تحرير محضر "خيانة الأمانة".
من بين المتهمين في تلك القضية، أحد المسؤولين الحكوميين، الذي قام بتهريب جزء من المساعدات إلى تاجر، واحتفظ بآخر في منزله، بحسب حديث الشرطة إلى رصيف22. تلك المساعدات التي استولى عليها المسؤول الحكومي كانت مخصصةً لآلاف عدة من النازحين في معسكرات منطقة ود الحداد، نظّموا وقفات احتجاجيةً عدة لعدم حصولهم على مساعدات إنسانية وصحية، في وقت تشهد فيه معسكرات النزوح أوضاعاً مأسويةً، ويعاني العديد من النازحين من الجوع.
من جانبه، صرّح مشرف الطوارئ في مفوضية العون الإنساني في ولاية البحر الأحمر، محمد سليمان، بأنّ الإغاثات تصل إلى ولاية البحر الأحمر، ثم تُسلَّم إلى مسؤولي كل ولاية، لتوزيعها على المواطنين. وبحسب الرصد، فإن معظم المساعدات التي بيعت في الأسواق سبق أن تسلمها مسؤولون من الولايات. أضاف سليمان، أنّ المفوضية تعاني من غياب الرقابة على توزيع المساعدات الإنسانية نتيجة غياب دور الجهات المنوطة بها تلك المهام بسبب ظروف الحرب، ما أدى إلى عدم وصول حصص كاملة في ولايات عدة إلى المستحقين، نتيجة الاستيلاء عليها من مسؤولي تلك الولايات.
اتهامات لمسؤولين عسكريين
شهدت مدينة بورتسودان، عاصمة ولاية البحر، اشتباكات مسلحةً بين قوة تتبع للجيش السوداني ومسلحين من حزب البجا القومي، بقيادة شيبة ضرار، بعد توقيف مسلحي الحزب عدداً من الشاحنات تحمل مواد غذائيةً وطبيةً من المساعدات الإنسانية حملتها من ميناء المدينة، في شهر أيلول/ سبتمبر الماضي.
يقول شيبة ضرار، لرصيف22، إنّ طابوراً خامساً في الجيش يقوم بتهريب المساعدات الإنسانية التي تصل إلى ميناء مدينة بورتسودان، إلى قوات الدعم السريع والأسواق التجارية. وعن الاشتباكات يوضح أنّ قوات البجا المسلحة التابعة له، أقامت ارتكازات في الشوارع الرئيسية لتفتيش عدد من السيارات التي تحمل مساعدات إنسانيةً، بطريقة غير رسمية ودون مستندات حول الجهة التي تنقلها لصالحها، وحين تم إيقاف تلك الشاحنات حدثت الاشتباكات مع القوة العسكرية التي ترافقها.
ويشير رئيس حزب البجا القومي، إلى أنّهم رصدوا عملية استيلاء على مساعدات غذائية تُقدّر بنحو 700 جوال من السكر وكميات كبيرة من المستلزمات الطبية، من المساعدات الإنسانية، من قبل مسؤولين عسكريين في بورتسودان.
من جانبه، يقول الخبير الاقتصادي، محمد الناير، إنّ ما حدث من سرقات للمساعدات الإنسانية يعود إلى بطء في أداء الجهاز التنفيذي في السودان، ما أثّر سلباً على مجمل الأوضاع الاقتصادية، وسبب في تراجع كفاءة العديد من المسؤولين في المناصب الحكومية، وغياب النزاهة والأمانة الشخصية، فضلاً عن غياب الأجهزة الرقابية. ونبّه في حديثه إلى رصيف22، إلى أنّه في ظل حالة السيولة في أداء مؤسسات الدولة بسبب الحرب وسوء الأوضاع الاقتصادية التي طالت الجميع، من الممكن أنّ تتكرر سرقة المساعدات الإنسانية التي تصل إلى البلاد، خاصةً مع غياب مبدأ المحاسبة وترسخ ثقافة الإفلات من العقاب.
وكانت مساعدات إغاثية قد وصلت إلى ميناء بورتسودان، بعد أشهر من اندلاع الحرب في 15 نيسان/ أبريل الماضي، من مركز الملك سلمان في السعودية، كما من جامعة الدول العربية ومصر والصندوق الكويتي للتنمية، ومنظمات الأمم المتحدة، وجهات أخرى، فضلاً عن مساعدات جمعتها وزارة التضامن الاجتماعي السودانية من الخارج.
منذ اندلاع الحرب، فقدت المنظمات الإنسانية الدولية عشرات الآلاف من الأطنان من المساعدات الإغاثية من مخازنها، بعد استيلاء الدعم السريع على جزء منها، وتعرّض الجزء الآخر للنهب، ما أدى إلى عجزها عن الالتزام ببرامجها
منذ اندلاع الحرب، فقدت المنظمات الإنسانية الدولية عشرات الآلاف من الأطنان من المساعدات الإغاثية من مخازنها، بعد استيلاء الدعم السريع على جزء منها وتعرّض الجزء الآخر للنهب، ما أدى إلى عجزها عن الالتزام ببرامجها، التي توفر مساعدات غذائيةً لملايين، خصوصاً في معسكرات النزوح في إقليم دارفور. في ظل واقع الحرب الذي يغذي الفساد، يواجه العمل الإنساني العديد من التحديات في ضمان إيصال المساعدات إلى المستحقين. وبحسب اللجنة المتخصصة للطوارئ الإنسانية التابعة لوزارة التنمية الاجتماعية، فإن توزيع المساعدات على المستوى القاعدي ما زال ضعيفاً، في ظل تزايد أعداد النازحين وازدياد المعاناة الإنسانية.
تحقيقات رسمية
وكان تقرير للأمم المتحدة قد كشف عن وصول نسبة 26% فقط من المساعدات الإنسانية التي قدّمتها العديد من الدول إلى السودان. لم تحصل ولايات دارفور الخمسة في غرب البلاد، وولاية جنوب كردفان، على أي مساعدات. وحذّر والي ولاية وسط دارفور، من نذر مجاعة في ولايتي وسط دارفور وغربها، نتيجةً لتفشي سوء التغذية وضعف الأمن الغذائي، مطالباً الأمم المتحدة بتوصيل المساعدات إلى دارفور عبر دولة تشاد، إن كانت تواجه عوائق في إيصالها إلى دارفور عبر مدينة بورتسودان.
وبرغم التكتم من الجهات المسؤولة في بادئ الأمر، بخصوص سرقة المساعدات، إلا أنّ وجودها في الأسواق كان سبباً في الكثير من التساؤلات والاتهامات التي طالت مسؤولين ومنظمات، ما أدى إلى إقالة المفوض العام لمفوضية العون الإنساني، وهي هيئة حكومية تتبع لوزارة الضمان والتنمية الاجتماعية، وتعيين مفوض جديد بدلاً منه، بقرار من وزير شؤون مجلس الوزراء ورئيس الوزراء المكلف في السودان عثمان حسين عثمان. وكانت وزارة التضامن قد نفت وجود صلة بين إقالة المفوض العام، والحديث عن تسرّب المساعدات إلى الأسواق التجارية.
في تصريح لرصيف22، يقول وكيل وزارة الضمان والتنمية الاجتماعية، جمال النيل عبد الله، إنّ هذه المساعدات مراقبة من وزارة الصحة وزارة التنمية الاجتماعية ومفوضية العون الإنساني بالتعاون مع جميع الأجهزة النظامية، ومع ذلك وقعت عمليات سرقة، ولذلك فتحت اللجنة العليا للمساعدات تحقيقات عدة لمعرفة كيف تمت السرقة وكيف تسربت إلى الأسواق.
ويقرّ مستشار وزارة التنمية والضمان الاجتماعي، محمد يوسف، لرصيف22، بأنّ هناك سرقات عدة للمساعدات الإنسانية قام بها مسؤولون، يصفهم بضعاف النفوس والمختلسين. ويلقي المسؤول السوداني، باللوم على مسؤولي الولايات، قائلاً إنّ اللجنة العليا للمساعدات تقوم بدورها من بورتسودان، في توزيع المساعدات وتسليم كل ولاية حصتها، لتوزيعها بمعرفتها على المستحقين، وبهذا يصبح كل والٍ هو المسؤول عن توزيع تلك المساعدات. ويفيد بأنّ المشكلة تكمن في غياب الرقابة في الولايات، على الرغم من وجود لجنة أمنية مسؤولة كان عليها ضبط المخالفات.
في ظل تبادل الاتهامات بين المسؤولين الاتحاديين والولائيين حول سرقة المساعدات الإنسانية، تعاني معسكرات النزوح من أوضاع إنسانية صعبة للغاية، تزداد كل يوم، وهو ما يتطلب تدخلاً من أعلى مراكز صنع القرار لوضع آلية واضحة تمنع استيلاء مسؤولين على المساعدات، وتقديم المتهمين في السرقات التي حدثت للمحاكمة، لزجر من تسوّل له نفسه استغلال ظروف الحرب في الاستيلاء على المساعدات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...