كيف تأثّر سكان المناطق الجبلية في المغرب بتغيّر المناخ؟ وكيف يكافح المزارعون للحفاظ على مهنتهم وثرواتهم في ظل التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم، اليوم؟
سؤالان حملتهما إلى مدينة تاليوين، عاصمة الذهب الأحمر، في إقليم تارودانت بجهة سوس ماسة في جنوب المغرب. وهي تعد من دون منازع منشأ الزعفران منذ عقود خلت. ولهذه الزراعة أهمية اجتماعية واقتصادية بالغة، نظراً لدورها الاقتصادي وما تدره من دخل إضافي بالنسبة للساكنة القروية.
انطلقت رحلتي باتجاه قرية إيهوكارن التي تقع على بعد 40 كيلومتراً من تاليوين. كان الجو بارداً جداً على عكس دفء ضيافة سكان تاليوين، وأبهرني منظر السماء بسحرها وألوانها التي تشكلت مع شروق الشمس.
بدأت رحلتي قرابة السابعة صباحاً، وكنت منبهرة جداً بمدى روعة الجبال التي كانت تحيط بي من كل جانب. لم يكن الطريق سهلاً لهذه القرية، لكن الهدف كان يشكل دافعاً لتحمل مشقة السفر. وصلت إلى إيهوكارن لأجد نفسي مذهولة بكرم سكان هذه المنطقة، فرغم التحديات التي يواجهونها جراء الجفاف والتغيرات المناخية، لا تفارق الابتسامة وجوههم.
لكل منهم قصة، وعلى الرغم من اختلافاتهم، كان هناك خيط مشترك يوحدهم جميعاً: إنسانيتهم المشتركة، وفي المقام الأول، ارتباطهم العميق بالأرض.
إيهوكارن: هنا يُزرع الزعفران، الذهب الأحمر الذي يحتل مكانة خاصة في سلاسل الإنتاج الفلاحي في الإقليم، والذي يكتسي حلّة بنفسجية اللون خلال موسم الإزهار، وقد نجح إلى حد ما في تحسين أوضاع العديد من النساء القرويات في المغرب، فأصبحت لديهن استقلالية مالية، وصرن أكثر اندماجاً في المجتمعات المحلية بفضل عائداته.
تقول فضمة وينخير التي يتجاوز عمرها السبعين عاماً: "التغير المناخي دمر كل شيء، الوضع الحالي مختلف عن السابق، وبسبب الجفاف الحالي أصبحت زراعة الزعفران تُعد تحدياً كبيراً بالنسبة لنا".
تبتسم ابتسامة تنشر الدفء، وتتابع: " أبنائي غادروا القرية، ليس هنا ثمة ما يفعلونه، كل منهم ذهب ليبحث عن رزقه. الوضع صعب، والفلاحة لم تعد كما كانت، فحتى الزعفران الذي كان مصدر رزقي قل بسبب التغير المناخي الذي دمر كل شيء ودمرنا معه".
تضع الخبز في الفرن التقليدي الأمازيغي، وتسألني: "ما الذي تودين أن أشاركه أيضاً يا ابنتي؟" وتدير الخبز إلى الجهة الأخرى وتقول: "عدم انتظام تساقط الأمطار خلال السنوات الأخيرة ألحق أضراراً بالمحاصيل. وقد اعتدنا الذهاب إلى الحقول حاملين سلالاً كبيرة. اليوم تغير كل شيء، وقد أثر ذلك بشكل كبير في حياتنا، فأصبحت صعبة للغاية ولا نملك المال الكافي للعيش."
وتضيف بحزن: "التربة أصبحت مريضة، ينقصها الماء، والسبب مرتبط بنقص التساقطات المطرية. في الماضي حينما كنا نذهب للزرع، كان البرد قارساً جداً، كانت الدموع تنهمر من أعيننا وتسيل أنوفنا بسبب البرد القارس، ولكن للأسف الآن الجفاف غير كل شيء. المطر لا يتساقط، مما يجعل التربة تفقد حيويتها لأنها ببساطة تفتقر إلى المياه".
عدم انتظام تساقط الأمطار خلال السنوات الأخيرة ألحق أضراراً بالمحاصيل. وقد اعتدنا الذهاب إلى الحقول حاملين سلالاً كبيرة. اليوم تغير كل شيء، وقد أثر ذلك بشكل كبير في حياتنا، فأصبحت صعبة للغاية ولا نملك المال الكافي للعيش
"العيون والحقول أصبحت قاحلة"
وفي نفس السياق تقول صفية الصنهاجية وهي مزارعة تبلغ من العمر سبعين عاماً: "نلمس تحولات كبيرة بفعل التغير المناخي، ويمكن ملاحظتها في العيون التي أصبحت قاحلة، وكذلك في الحقول الزراعية".
تواصل صفية باللغة الأمازيغية، وفي عينيها حزن واضح، وتعبر عن استيائها من الوضع في قريتها حيث نشأت وعاشت وتزوجت: "حينما أتذكر كيف كانت الأمور في الماضي، أشعر بألم في قلبي. أصبحت الزراعة لا تأتي بما كانت تقدمه لنا في السابق. حتى المواسم تغيرت بالنسبة لي، صار الشتاء صيفاً والصيف شتاءً، وهذا أمر محزن".
إلى ذلك، تشعر صفية بنقص الحشائش والأعشاب في الربيع وتأثير ذلك على الماشية، كما أن الزعفران أصبح قليلاً جداً مقارنة بالماضي، وكذلك اللوز والزيت. "كل هذا أثر بشكل كبير علينا، على أرواحنا وعقولنا وقلوبنا".
جو حار وأمطار قليلة
أثناء توجهي للقاء الفلاحين، لاحظ يوسف، الشاب الذي كان يرافقني في هذه الرحلة، أنني أشعر بالبرد. فقال: "هذا ليس ببرد، عادة يكون هنا برد شديد جداً، وكانت النساء يضطررن إلى ارتداء طبقات متعددة من الملابس عندما يذهبن لقطف الزعفران. كان عليهن تسخين أيديهن في النار بين الحين والآخر ليتمكنّ من جمع الزعفران، لأن استخراج الجزء العلوي من الزهرة يتطلب دقّة كبيرة باليد، وهن يتبادلن الأغاني مع نساء أخريات. أما اليوم، فقد تغير كل شيء. رأيت رجالاً يزرعون الزعفران بملابس خفيفة، وهو أمر لم يكن ممكناً في الماضي، وهذا كله بسبب التغير الكبير في المناخ بسبب التلوث والمصانع التي تلوث أرضنا".
وأضاف: "هذا أمر محزن حقاً، فزراعة الزعفران تعتمد على الجو البارد، وهو ما يساعد في نموه. لكن للأسف اليوم تضررت هذه الزراعة، إذ أصبح الجو حاراً جداً، وفي السنوات الأخيرة لم يكن هطول الأمطار منتظماً، وهو أمر ليس في مصلحة الزعفران".
وتشير تقارير إلى أن التغيرات المناخية أثرت على القطاع الزراعي في المغرب، مما أدى إلى تراجع إنتاج المحاصيل الرئيسية. وبحسب التوقعات المستقبلية، هناك احتمال زيادة في درجات الحرارة ما بين 1.1 إلى 1.6 درجة مئوية بحلول عام 2023، إلى جانب انخفاض كميات الأمطار بنسبة تصل إلى 14% وزيادة في تقلبها، مما ينذر بتواتر حالات الجفاف وتناقص غلات المحاصيل.
الزعفران الذي كان مصدر رزقي قل بسبب التغير المناخي الذي دمر كل شيء ودمرنا معه.
"الأرض تشبه الأم"
أواصل في اليوم التالي في رحلة الاستكشاف نحو دوار آيت تكة التابع لجماعة سيروا تازناخت، وهو واحدٌ من الوجهات النائية التي تقع على بُعد حوالي 135 كيلومتراً، في سيارة أجرة كبيرة عبر الطرق الوعرة والجبال التي تشكلت خلال هذا المسافة البعيدة.
وعندما وصلت إلى آيت تكة، انتقلت على الفور إلى متابعة رحلتي على متن باص صغير لمسافة 4 كيلومترات للوصول إلى مكزار. كانت هذه الجولة القصيرة تجربة فريدة من نوعها، فأحاطت بي الجبال من جميع الجهات، وكأنني كنت جزءاً من لوحة فنية تمزج بين جمال الطبيعة وتحديات الطرق.
وفي هذا المكان، التقيت محمد شكيرو، وهو فلاح وأب لأربعة أبناء، رجلٌ أسره العمل الزراعي والتفاني فيه. وبالرغم من تحديات الحياة النائية، يعيش بروح إيجابية وطموح لتحسين أوضاع عائلته.
استقبلني في بيته المتواضع بفرح، فقدم لي شاياً ساخناً مصحوباً بالخبز والزيت المحلي. روحه مرحة ومستعد لمشاركتي تجربته وتحدياته.
لم يكن لدي استغراب حيال سبب اختيار هذا الرجل للبقاء في هذا المكان الذي انطلق فيه مشروعه البيئي بعيداً عن صخب الحياة، إذ كان حبه للتربة والزراعة يتسم بالعمق. "الأرض تشبه الأم، يجب أن نعتني بها"، هكذا قال وهو يبتسم.
عادة يكون هنا برد شديد جداً، وكانت النساء يضطررن إلى ارتداء طبقات متعددة من الملابس عندما يذهبن لقطف الزعفران. كان عليهن تسخين أيديهن في النار بين الحين والآخر ليتمكنّ من جمعه، أما اليوم، أرى رجالاً يزرعون الزعفران بملابس خفيفة، وهو أمر لم يكن ممكناً في الماضي
وتابع: "تأثير التغير المناخي واضح للغاية على حياتنا. فالأمطار لم تعد تهطل في مواعيدها المعتادة، بل أصبحت غير منتظمة، وحينما تأتي تكون غزيرة لدرجة تدمر الحقول ومحاصيل الفلاحين. هذا الوضع يسبب انجراف التربة، خاصة في منطقة سيروا، حيث الأرض منحدرة ومعرضة للانجراف. وحينما تسقط الأمطار، ينجرف كل شيء باستثناء الصخور".
ويكمل: "بالإضافة إلى ذلك، كانت الثلوج ترتفع نحو مترين، الآن كل شيء تغير تماماً. الزعفران كان من المفروض أن ينمو في أيلول/ سبتمبر مع البرودة، ولكن للأسف ارتفعت الحرارة في هذا الشهر، والمشكلة الأخرى هي الأمطار التي لا تتساقط كي تستفيد منها التربة. حتى الأشجار تعاني عندما لا يأتي الشتاء الذي يعتبر علاجاً لها. بعض الأوراق تتعرض للإصابة بالبكتيريا نتيجة لتراكم الغبار عليها، ولذلك يكون الشتاء موسماً حيوياً تُغسل وتتنقى الأشجار فيه".
تابع وهو يشير الى جبل بعيد: "في الماضي في منطقة سيروا، التي تُعد أعلى نقطة في الأطلس الصغير بارتفاع يصل إلى 3304 أمتار، كان الثلج حاضراً حتى في فصل الصيف، وكان يشكل خزاناً لمياه للمنطقة. ولكن مع التغير المناخي، تغير هذا الواقع، وأصبح الثلج نادراً حتى لفترات قصيرة".
ولفت إلى أنه إذا لم يأتِ فصل الشتاء، ينقص حجم الفرشة المائية أي المياه الجوفية، وهو في الماضي كان يحفر ستة أمتار عمقاً للعثور على الماء، ولكن اليوم يتعين حفر مئات الأمتار للحصول على نفس الكمية. "الفارق كبير، والزمن لا يُبشر بالخير. يجب على الناس أن يكونوا واعين ويتخذوا إجراءات، مثل إقامة مدارج للحفاظ على المياه".
تخفيف هدر المياه
تتحدث لرصيف22 أميمة خليل الفن، وهي باحثة مختصة في الهندسة البيئية والتنمية المستدامة، وتبيّن أن زراعة الزعفران هي من الزراعات البديلة اليوم، خصوصاً أن المغرب في السنوات الأخيرة ضاعف بنسبة مهمة نسبة الأراضي المزروعة والإنتاج، فهو يُعتبر من أهم المصدّرين العالميين لهذا الذهب الأحمر".
وتواصل:" بالنسبة للحلول التي يمكن للفلاح الاستعانة بها خصوصاً في هذه الظروف الطارئة، أولاً يجب اعتماد طريقة السقي بالتنقيط من أجل تقليل المياه المستهلكة ومكافحة هدرها، خصوصاً أن مياه الري نابعة من الفرش المائية".
تضيف الخبيرة أيضاً حول أنظمة كانت معتمدة في المغرب قديماً لكن تم التخلي عنها، كنظام الخطارات من أجل تجميع مياه الأمطار، وتقول: "حتى لو كان المغرب يعاني من شح كبير على مستوى سقوط المطر، لكن هذا لا يمنع إعداد أنظمة تستطيع أن تخزن منسوباً مهماً من الماء، كي لا يهدر عن طريق التبخر أو الانجراف. ولا مفر من التوجه نحو زراعات غير مستهلكة للمياه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.