شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
مهنة نفخ الزجاج الدمشقي... دخول قائمة التراث الإنساني بورشة واحدة

مهنة نفخ الزجاج الدمشقي... دخول قائمة التراث الإنساني بورشة واحدة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتنوّع نحن والتاريخ

الاثنين 8 يناير 202403:24 م

ورشة واحدة في دمشق لنفخ الزجاج، هي كلّ ما بقي من هذه الحرفة التي مرّت بتحولات عدة منذ أيام الفينيقيين إلى اليوم. غرفة صغيرة وإبداعك، وفرن يكادُ يذيب وجهك من شدّة الحرارة، هما كلّ ما تحتاجه لتكوّن من الجماد إبداعات حيّة وتنفخ الروح فيها ومن ثم تُنسى لأجيال، لتعود هذه المهنة إلى الواجهة مرة أخرى بعناوين تفخّم الصنعة.

ففي بداية كانون الثاني/ ديسمبر 2023 أدخلت منظمة اليونيسكو عنصر نفخ الزجاج يدوياً على قائمة التراث الثقافي اللامادي الذي يحتاج إلى صونٍ عاجل، وبهذا يعتبر العنصر السادس على القائمة بعد الصقارة، والقنص، ومسرح خيال الظل، والوردة الشامية، والقدود الحلبية، وصناعة الأعواد والعزف عليها، لتعجّ الحياة مجدداً في هذه الورشة، ليس بالزوار أو السياح، وإنما بالصحافيين بعد إدراج حرفة نفخ الزجاج على لائحة التراث الإنساني في سوريا، وكأن الجميع يترقّب وصيةً من عميد أسرة ما. 

أن تورث الجمال عوضاً عن الملك

يقول شيخ كار نفخ الزجاج أحمد الحلاق لرصيف22: "ورّثني والدي هذا المعمل بعد ما اشتغل فيه لمدة 50 سنة، وكان أساساً ورشة استمر العمل فيها 150 سنة".

ويتابع: "ابني صار خمسين سنة، حاولت علمه شوي بس ما حب يكمل، عم حاول حبب أحفادي وجيبن عالمصنع، لأنو صناعة الزجاج متل الدراسة، لازم تبدأ فيها بعمر صغير ويكون عندك رغبة لتكمل، إذا ما عندك رغبة ممكن تشتغل بالتغليف والتعبئة، بس مو بعملية النفخ". 

ورشة واحدة في دمشق لنفخ الزجاج يدوياً، هي كلّ ما بقي من هذه الحرفة منذ أيام الفينيقيين، وفي كانون الثاني 2023 أدخلتها اليونيسكو إلى قائمة التراث الثقافي اللامادي الذي يحتاج إلى صون عاجل. 

أمّا سمير النجار أحد المهنيين في مصنع الأخوين حلّاق والذي ورث المهنة عن أبيه فيقول: "عندي ولدين أعمارهن 15 و17 سنة، بحبوا هي المهنة، بيجوا بس بدن يقعدوا، وحابين يتعلموا والخيار إلهن أكيد بس مع دراستهن، ولازم يتعلموها لأنها إرث العيلة وبنحافظ عليها من الانقراض، لأنو اللي بيشتغلوا فيها بينعدوا على الأصابع".

يتحدث نجار عن شغفه لتوريث صنعة نفخ الزجاج لأبنائه، ربما هذه الرغبة في توريث جزء من وجه دمشق المهني للأولاد هي خوف على التراث من الاندثار، على الرغم من أن النجار سبق حديثه بجملة: "إذا ما غنت بتستر" عن المهنة التي لم تعد كافية اليوم لتجعل المهني يعيش بما يليق لندرة العاملين في مجاله الفنّي.

يذكر أن الأخوين أحمد ومحمد الحلاق وسمير النجار هم آخر المهنيين العاملين في مهنة نفخ الزجاج، ويديرون الورشة الأخيرة لنفخ الزجاج في دمشق في "خان الزجاج"، وهو المشغل الأخير لأحد الفنون الأصيلة والذي لا يتسع إلا لمن تبقى من المهنيين فيه، على الرغم من محاولاتهم الحثيثة لإعادة إحياء الصنعة عن طريق أولادهم وأحفادهم.

أقسام فرن الزجاج

يقسم فرن الزجاج إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول تبلغ الحرارة فيه حوالى 1200 درجة وهو مكان صهر الزجاج، حيث تُوضع قطع الزجاج المكسورة حتى تذوب. أمّا القسم الثاني فيكون الزجاج فيه كالعجينة وذلك ليستحكم العامل بتشكيل العجينة، والقسم الثالث هو للتبريد ولكن بالحرارة.

يشرح محمد الحلاق أنه عند الانتهاء من صناعة قطعة لا توضع على الأرض أو في أي منطقة باردة، إنما في "المشواية" التي تبلغ درجة الحرارة فيها حوالى 500 درجة، ويوجد فيها سكة وعربة، ويضيف "نضع قطع الزجاج في العربية ومنصير ندفشها ونطلعها، وكل ما ندفشها لقدام بتنزل درجة الحرارة للـ100 فبتاخد تخمير وبعدين تبريد بطيء". 

يقول شيخ الكار أحمد الحلاق: "ورّثني والدي هذا المعمل بعد ما اشتغل فيه لمدة 50 سنة، وكان أساساً ورشة استمر العمل فيها 150 سنة 

ويتابع: "نعتمد كل شهر على لون محدد في صناعة الزجاج، فبعد أن نجلب الزجاج المكسر نفرز كل لون على حدة، ثم نبدأ بالألوان الفاتحة كالأبيض ويليه الفيميه، ثم العسلي والأخضر وبعدها نضع الألوان الغامقة، كالزيتي والتركواز وآخرها الكحلي"، وبعد هذه العمليات كلها ينتهي العمر الافتراضي للفرن ويضطرون لهدمه وبناء فرن جديد يستغرق 20 يوماً. 

عاد للمهنة التي لم يتركها يوماً

يقول سمير النجّار الذي تعود أصوله لبلدة أرمناز في إدلب :"وعيت على هالدنيا وانا بعرف حرفة نفخ الزجاج"، يشير بيده ليرسم تفاصيل المكان ويضيف: "كان عنا فرن بالبيت ما صدق أرجع من المدرسة لشوف أبي كيف عم يشتغل لاتفرج عليه واشتغل معه، بس بالحرب راح البيت وراح الفرن وراح شغلنا".

لكنه انتقل من المهنة التي ورثها للعمل بأي مجال كفيل ليسد لقمة العيش مثل معامل السكر والرز، ليترك مهنته لعدّة سنوات مجبراً بسبب الحرب.

أثرت الحرب على التراث السوري كتأثيرها على المجتمع، فتناقص عدد ورشات عمل الزجاج اليدوي، كورشة سمير النجار التي تدمرت في منطقة الكباس الواقعة على أطراف العاصمة دمشق، وبحسب شيخ كار المهنة أحمد الحلاق، كانت توجد العديد من الورشات في سوريا، خاصة في حلب وإدلب، ومنها 4 في دمشق، أما اليوم، فلم يبقَ سوى معمل واحد، وحالياً تتمسك المهنة كلّها بما يتوفر من محروقات لتشغيل الفرن، ورغم التمسك الشديد بالمهنة من قبل الأخوين الحلاق، وسعي سمير النجار لافتتاح مشغل خاص للزجاج، إلّا أن نقص المحروقات والكهرباء اللازمة لتشغيل الورشة يقفل الباب على إحياء الصنعة مرّة أخرى. 

كان لهذا المعمل يوماً روح

لم يمر الكثير من الوقت على الحديث مع شيخ الكار عن المهنة حتى بدأ بالحديث عمّا كان عليه المعمل يوماً، وكيف أن الحياة تذهب منه شيئاً فشيئاً بسبب الظروف الحالية. يقول أبو محمود الحلاق: "كان عنا 20 حرفي ونشتغل 24 ساعة والفرن عليه 3 عمال يشتغلوا سوا، هلا صغرنا الفرن بيشتغل بس عامل واحد، عنا نقص عمال وحرفيين". 

تناقص عدد ورشات عمل الزجاج اليدوي بعد الحرب، كورشة سمير النجار التي تدمرت في منطقة الكباس الواقعة على أطراف العاصمة دمشق، وبحسب الحلاق، كانت توجد العديد من الورشات في سوريا، خاصة في حلب وإدلب، ومنها 4 في دمشق، أما اليوم، فلم يبقَ سوى معمل واحد

فعمل المصنع لم يتأثر فقط بنقص المحروقات (حيث يحتاج الفرن لأكثر من 180 لتر مازوت يومياً)، وإنما نقص الحرفيين والطلب على المصنوعات الزجاجية أصبحا اليوم عائقاً لا يمكن تجاوزه، كما أن الطلب تناقص حتّى بالنسبة للعملاء خارج سوريا، لافتاً إلى التحديات التي تواجه سوق هذه المصنوعات، وعدم امكانية عودة الأحوال لما كانت عليه سابقاً، بسبب الصعوبات الاقتصادية لدى المستوردين، ونقص اليد العاملة والمواد التشغيلية.

نبيع تراثنا ولا نشتريه

من أكثر التفاصيل إثارة للاهتمام في الحديث مع الأخوين الحلاق وسمير النجار، هو أن الإقبال على الشراء تراجع في السنوات الأخيرة بسبب عدم وجود طلب عالٍ على الزجاج اليدوي، والسبب الأول لذلك هو نقص السياحة، والتي كانت المعامل تعتمد عليها بشكل كبير لبيع القطع الفنيّة المشكلة يدوياً، فكان السياح هم الأكثر اهتماماً بالصنعة، كما أن أكبر المستوردين للزجاج اليدوي المصنوع في ورشة الحلاق سابقاً كانوا من فرنسا والتي تضاءلت الكميات المصدرة اليهم في الفترات الأخيرة، فخلال سنوات الحرب، فاقتصرت طلبيات الزجاج اليدوي على ندرة من محبي هذا الفن، أو لمن يحتاج قطعاً معينة غير موجودة في السوق، حيث أن نسبة التصدير للسوق الداخلية محدد من قبل وزارة السياحة بـ 30% من الإنتاج، أما الدول المجاورة، فلم يعد لها تأثير يذكر، فيبلغ استيرادها لهذه القطع أقل من 1% من عمل الورشة، ومع توفر الزجاج التجاري في الأسواق، وضعف القيمة الشرائية لدى الأغلبية، فلم تعد هذه المصنوعات تشكل سلعة رائجة في الداخل ليكون جمال إرثنا الثقافي سلعة للغريب.

وتبدأ أسعار القطع من 15 ألف ليرة سورية أي حوالى دولار واحد، وبعضها يصل 50 أو 60 ألفاً أي نحو 4 دولارات، ولا يتم تقدير السعر بالحجم، إنما بالمدة والجهد الذي احتاجته القطعة لتصل لشكلها النهائي. 

تحديات الحرب 

5000 لتر مازوت هي حاجة المعمل ليعمل بطاقته الافتراضية بحسب الحلّاق، ولكنهم لا يحصلون إلّا على 100 لتر فقط شهرياً، وهي كميّة لا تكفي ليوم عمل واحد، يذكر الحلّاق أن زيارة محافظ دمشق للمعمل أثرت على كمية المحروقات ورفعتها إلى 1600 لتر شهرياً، وهي أيضاً كميّة لا تكفي لنصف الشهر، إذ يضطر المعمل لشراء المحروقات بالسعر الحر لبقيّة الوقت، خاصةً أن الفرن يجب أن يبقى ساخناً لاستمرار العمل، ولا يجب إطفاؤه لعدة مرات متتالية. 

الإقبال على الشراء تراجع في السنوات الأخيرة بسبب عدم وجود طلب عالٍ على الزجاج اليدوي، والسبب الأول لذلك هو نقص السياحة بعد الحرب.  

ناهيك عن الحرارة الشديدة داخل ورشة صنع الزجاج، فالعمل عن قرب شديد من فرن صهر الزجاج أيضاً يجعل العمل خطراً في حال الحوادث، إضافة إلى الحرارة العالية التي يتعرض لها الفم أثناء النفخ ما يهدد صحة اللثة والأسنان، هو ثمن يجب أن تدفعه لتكون حرفياً في هذه المهنة، ولكن النقص يكون بانعدام وسائل الحماية تقريباً في هذه الصنعة، بسبب نقص الاهتمام فيها من جهة، وبسبب العمل التقليدي الذي من الصعب أن يراعي متطلبات السلامة في الوقت الحالي.

ما لم تمحه آلاف السنين، قد تمحوه أزمات صغرى، في عصور التوثيق، أكثر من 3000 عام مرت ولا تزال صنعة نفخ الزجاج تورث من أب لابنه داخل العائلة الواحدة، ولكن هذه الحرفة أصبحت من ضمن ما يجب علينا صونه تجنباً لاندثاره، فلربما قد يكون إدراجها على لائحة التراث العالمي فرصة لإعادة إحيائها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ماضينا كما يُقدَّم لنا ليس أحداثاً وَقَعَت في زمنٍ انقضى، بل هو مجموعة عناصر تجمّعت من أزمنة فائتة ولا تزال حيّةًً وتتحكم بحاضرنا وتعيقنا أحياناً عن التطلّع إلى مستقبل مختلف. نسعى باستمرار، كأكبر مؤسسة إعلامية مستقلة في المنطقة، إلى كسر حلقة هيمنة الأسلاف وتقديم تاريخنا وتراثنا بعين لا تخاف من نقد ما اختُلِق من روايات و"وقائع". لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. ساعدونا. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image