بالتزامن من مهنتي، أنا أجمع الكتب النفسية والنادرة المتعلقة بتاريخ مدينة دمشق. وكلما اقتنيت مكتبة قديمة، وجدت بين رفوفها نسخة من كتاب البديري الحلّاق "حوادث دمشق اليومية"، المطبوع في القاهرة أيام الوحدة مع مصر. الكتاب غني عن التعريف طبعاً، وهو عبارة عن مذكرات حلّاق دمشقي من القرن الثامن عشر، عاش في حارة التعديل بالقنوات وعمل حلاقاً في باب بريد، حيث سمع أخبار الناس وقام بتدوينها.
المذكرات تحكي قصة دمشق في زمن آل العظم، وفيها تفاصيل دقيقة عن الوفيات والجرائم، جنون أسعار المواد التموينية ومظالم الحكام.
وبالرغم من انتقاداته اللاسعة لكثير من الأخطاء والممارسات، يبقى البديري وفيّاً لدمشق حتى الصفحة الأخيرة من كتابه، مدافعاً عنها وعن أهلها، وتحديداً البسطاء منهم.
مخطوط مذكرات الحلاق
تنتشر الكثير من أوراقنا ومخطوطاتنا العربية في كبرى مكتبات ومتاحف إسطنبول وباريس ولندن وغيرها من المُدن، ولو نظرنا إلى الموضوع من منطلق علمي بعيداً عن العواطف، فقد تكون تلك المخطوطات أكثر سلامة في هذه المكتبات العالمية، حيث وسائل الحفظ الحديثة متوفرة
تنتهي مذكرات البديري الحلاق عام 1761، ولا نعرف إن كان ذلك بسبب وفاة المؤلف أو توقفه عن الكتابة. هناك روايتان عن مصير المخطوط من بعده، وكيف وصل إلى يد الشيخ محمد سعيد القاسمي، الذي قام بتحقيقه بعد قرابة المئة عام على غياب البديري. الرواية الأولى تقول إن القاسمي وجد المخطوط في دكان أحد بائعي العطورات، حيث كانت أوراقه تُستخدم للصرّ، فقام بشرائها وأخذها إلى منزله. والرواية الثانية تفيد بأنه حصل عليها من صديقه الشيخ طاهر الجزائري، الذي اقتناها من مزاد مخطوطات قديمة في الجامع الأموي، بقيمة 300 قرش.
كلا الروايتين تفتقدان إلى إثبات، ولكن المؤكد أن القاسمي قام بتحقيق النص قبل وفاته سنة 1900، وظلّت مسودة البديري طيّ النسيان حتى قيام جمهورية الوحدة، عندما قام المؤرخ المصري أحمد عزت عبد الكريم، بتحقيقها مرة ثانية ونشرها سنة 1959.
ولكن ومنذ سنوات قليلة، صدر بحث بالغ الأهمية للباحثة دانا سجدي، من كلية بوستون الأميركية، فيه تحليل عميق لمذكرات البديري وإشارة إلى أن النسخة المطبوعة (نسخة القاسمي) تختلف عن المخطوط الأصلي الذي وضعه البديري. تقول الدكتورة سجدي في كتابها إن القاسمي أنزل نفسه مكان المؤلف، وأدخل مفردات وعبارات لم تكن موجودة في النص الأصلي، كما أنه غيّر اسم المؤلف، من "ابن بدير" إلى "البديري"، وهو الاسم الشائع اليوم.
وتشير سجدي إلى أن نسخة من مذكرات البديري، أو ابن بدير، موجودة اليوم في مدينة دبلن الإيرلندية.
الكثير من أوراقنا ومخطوطاتنا منتشرة في كبرى مكتبات ومتاحف إسطنبول وباريس ولندن وغيرها من المُدن... هنا نتابع رحلة مخطوط مذكرات الحلاق البديري، التي بدأت في دمشق وانتهت بعيداً عنها
الطريق إلى دبلن
ولكوني فضولي ومهتم بتاريخ مدينتي، تواصلت مع المكتبة الإيرلندية، وبالفعل وجدت فيها مخطوط البديري تحت الرقم Ar 3551، تبين أن ملكية المخطوط تعود إلى صاحب المكتبة، وهو رجل أعمال أميركي يدعى ألفرد شستر بيتي، أحد أهم جامعي النفائس العالمية، الذي عاش سنواته الأخيرة في دبلن، وكانت مقتنياته تضم، إضافة لأوراق البديري، مفروشات الملكة ماري أنطوانيت، ونسخاً نادرة جداً من القرآن الكريم، وتبين في سجلات المكتبة أنه اقتنى مخطوط البديري من القاهرة سنة 1928.
تعمقت أكثر بالبحث، وتبين أن هذا الرجل الأميركي قام بشراء مخطوط البديري من تاجر يهودي يدعى ابراهيم شلومو يهوذا، الذي كان يملك محلاً لبيع الكتب القديمة في القاهرة، بالقرب من جامع الأزهر. ولمن لا يعرف يهوذا، فهو أكبر جامع مخطوطات في العصر الحديث، درس في ستراسبورغ وعاش بين مصر، فلسطين، بريطانيا والولايات المتحدة، وقد باع الكثير من المخطوطات الإسلامية إلى الجيش الأميركي، إضافة إلى أكثر من 5300 مخطوط إلى جامعة برنستون. وقد وصل القاهرة سنة 1906، أي أن المخطوط جاء معه من دمشق في نفس تلك الفترة.
يبقى السؤال: كيف وصل مخطوط حلّاق باب بريد إلى يد ابراهيم يهوذا؟ كيف خرج من دمشق إلى القاهرة؟ هل سُرق أم أن أحد الدمشقيين باعه لليهودي الذي قام بدوره ببيعه إلى الرجل الأميركي؟ ويبدو من هوامش النص الموجود في إيرلندا أن نسخة دبلن هي نسخة القاسمي المنسوخة عن الأصل، وليست نسخة البديري الموجودة حتى اليوم في مكتبة الأسد، وقد يكون القاسمي نسخ المخطوط بيده عندما قام بتحقيقه، وأعاد الأصل إلى طاهر الجزائري الذي قام بوضعه في المكتبة الظاهرية، قبل سنوات طويلة من نقل معظم محتوياتها إلى مكتبة الأسد.
كيف وصل مخطوط حلّاق باب بريد إلى يد ابراهيم يهوذا؟ كيف خرج من دمشق إلى القاهرة؟ هل سُرق أم أن أحد الدمشقيين باعه لليهودي الذي قام بدوره ببيعه إلى الرجل الأميركي؟
هذا التسلسل جعلني أفكر بمصير آلاف المخطوطات الدمشقية المبعثرة حول العالم. ومن المخطوطات المفقودة مثلاً، مذكرات أبو سعود الحسيبي، نقيب أشراف دمشق في مطلع القرن العشرين، وأحد الشهود العيان على أحداث عام 1860. المؤرخ اللبناني الدكتور كمال صليبي، حقق أوراق الحسيبي داخل المكتبة الظاهرية سنة 1968، حيث كانت موجودة تحت الرقم 4668، وجاء بعده الدكتور سهيل زكار ليعيد نشرها في كتاب صادر سنة 1982، ولكن أين هو المخطوط الأصلي؟ الجواب ببساطة: غير موجود، لأنه دُمّر يوم انهيار أحد جدران المكتبة العادلية بدمشق قبل ثلاثة عقود، والله أعلم.
الثابت الوحيد هو أن الكثير من أوراقنا ومخطوطاتنا منتشرة في كبرى مكتبات ومتاحف إسطنبول وباريس ولندن وغيرها من المُدن، فلو تعاملنا مع الموضوع من منطلق وطني، فيجب استعادة كل تلك المخطوطات لأنها مُلك للشعب السوري، ولكن لو نظرنا إلى الموضوع من منطلق علمي بعيداً عن العواطف، فقد تكون تلك المخطوطات أكثر سلامة وأمان في هذه المكتبات العالمية، حيث وسائل الحفظ الحديثة متوفرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com