رحل في باريس في 1 يناير/كانون الثاني 2024، المناضل السوري رياض الترك، الملقب بمانديلا سوريا.
هل يمكن اختصار مناضل بهذه القامة في كلمات محدودة؟ لا.
هل يمكن اختصار تجربته النضالية وآرائه السياسية وخلافاته مع خصومه كما مع حلفائه؟ بالطبع لا.
لكن، يمكننا أن نتأمل قليلاً حقيقة أن الراحل قضى سنوات طوالاً من عمره في الزنازين، ولم يتزحزح، ولم يغير موقفه يوماً، وكان حاداً صلباً في موقفه من الاستبداد حتى آخر يوم في حياته.
أتذكر في طفولتي البعيدة التي قضيتها في الأوساط المثقفة اليسارية في سوريا، كم كان يتردد اسمه، كم كان يحكى عنه في غيابه. وأتذكر عندما خرج كم سمعت من حكايات عن ستة عشر عاماً قضاها في زنزانة منفردة.
تخيلت مراراً مشاهد ومقتطفات من سجنه إلى درجة أنني أراها، ولا أعلم هل هي حقيقة أم من نسج الخيال؟ هل رواها أحد لي أم بنتها مخيلتي؟
المشهد الأول: يعكف رياض الترك في زنزانته الانفرادية على رسم لوحة ببذور الزيتون التي جمعها بكل صبر من وجباته، يرسم أشكالاً ثم يخرب لوحته بنفسه كي يعيد تشكيلها، عل الوقت يمر.
المشهد الثاني: يلعب رياض الترك الرياضة في زنزانته كل يوم، فيما السجان يراقبه من فتحة صغيرة في المنفردة هي منفذ الهواء. يقاوم الترك بالحركة ترهل الذهن، يلعب الرياضة ويعد بصوت عال: واحد، اثنان، ثلاثة، إذ كيف يمكن أن يبقى إنسان ستة عشر عاماً صامتاً؟
المشهد الثالث: يتخيل رياض الترك مغمضاً عينيه في زنزانته الانفرادية العالم، يرى الأشجار والعصافير والسماء الزرقاء، يتذكر الشعور الذي يصيبنا حين تلفح وجوهنا الشمس، يشعر بدفئها على وجهه، يتنفس الحرية التي يحلم بها في السجن وخارجه.
يتخيل رياض الترك، مغمضاً عينيه في زنزانته الانفرادية العالم، يرى الأشجار والعصافير والسماء الزرقاء، يتذكر الشعور الذي يصيبنا حين تلفح وجوهنا الشمس، يتنفس الحرية التي يحلم بها في السجن وخارجه
المشهد الرابع: زوجة رياض الترك ورفيقة دربه أسماء الفيصل تسأل عنه في كل مكان لسنوات، وتلتقي بالخارجين من السجن السياسي علها تعرف أخباره، لكن عبثاً.
المشهد الخامس: تحلم بنتا رياض الترك بيوم لقاء والدهما، تسجلان اللحظات التي مرت في غيابه لإخباره عنها، وتحققان الإنجازات فقط كي يكون لديهن ما يخبرنه به عند خروجه.
المشهد السادس: بعد ثمانية عشر عاماً من الاعتقال، يخرج رياض الترك من السجن، يعود إلى بيته، تكاد الفرحة أن تكون قاتلة فقد عاد الأب والزوج، عاد من زنازين الموت حياً يرزق، وراغباً في الاستمرار.
كل الأمل، هو أن تطوى صفحة الاعتقال السياسي من بلادنا إلى الأبد، وأن لا يضطر أحد لأن يكون بطلاً بعد اليوم
أما المشهد السابع فأنا أعلم أنه ليس متخيلاً فهو عالق في ذاكرتي وذاكرة كثير من السوريين، كانت الصحون الفضائية (أو الستالايتات كما كنا نسميها) قد بدأت تنتشر على أسطح العاصمة دمشق، وبدأت تدخل بيوتنا القنوات الفضائية التي خلصتنا من حكم الأسد الإعلامي وتحكم قنواته المملة والمتحجرة بنا، يظهر رياض الترك في برنامج حواري في قناة الجزيرة ويقول: "الديكتاتور مات". معلناً بذلك موت حافظ الأسد، وأشهق أنا من الخوف، وأراقب إن كانت جدران البيت سمعت كما سمعت أنا.
المشهد الثامن: يعتقل رياض الترك ويؤخذ من منزله من بين بناته وزوجته ثانية إلى اعتقال جديد في عهد الابن، لا يعلمن حينها كم سيطول غيابه ولا إلى أين يقتادونه وهو الرجل السبعيني.
المشهد التاسع: بعد عام وبضعة أشهر، يعود رياض الترك إلى عائلته، ويحتفلون ثانية بالدموع والعناق.
المشهد العاشر: تندلع المظاهرات في درعا، رياض الترك يراقب مشاهد إطلاق النار على المتظاهرين في الثامن عشر من آذار 2011، ويعلم بخبرته وتجربته أن الثورة اندلعت وأن النظام لن يرد إلا بالعنف.
"نجري نحو الرصاص لأننا نحب الحياة، وندخل السجن لأننا نحب الحرية". علاء عبدالفتاح، من كتاب شبح الربيع.
المشهد ما قبل الأخير: يضطر الترك، إلى مغادرة سوريا بطريقة غير شرعية بعد منع سفر أبدي، وبعد أن توفيت رفيقة دربه خارج البلد عند ابنتها في كندا. ويصل إلى فرنسا عند ابنته الثانية وهو في أواخر ثمانينياته.
وصلني خبر وفاة رياض الترك وأنا اقرأ كتاب (شبح الربيع) لعلاء عبد الفتاح، الذي ما زال أحبته يبحثون عن وسيلة لإخراجه من سجون الظلم.
في الكتاب جملة توقفت عندها كثيراً بعد سماعي الخبر: "نجري نحو الرصاص لأننا نحب الحياة، وندخل السجن لأننا نحب الحرية". فكرة عصية على فهم السجان، لا أحد يهوى أن يكون بطلاً، كل المعتقلين يفضلون أن يكونوا مع عائلاتهم في بيوتهم، لكن ما لا يفهمه الطغاة هو أن السعي من أجل الحرية والحياة، ليس خياراً للشجعان، وإنما مسار لا بد من السير فيه حتى لو أدى بهم إلى السجن، كي يكونوا منسجمين مع ضميرهم وأفكارهم وكي يؤدوا حق الناس عليهم ويكونوا بحق جزءاً من الشعب الذي ينتمون إليه.
ينظر كثيرون إلى المناضل البطل بعين التقدير والاحترام وربما الذنب، لأن السجان جعله يدفع كل هذا الثمن الباهظ لكي يكون درساً لنا جميعاً، وقد ينظر إليه الجبناء نظرة إشفاق، فهو في نظرهم يرمي نفسه في التهلكة دون حساب للعواقب، ولكن ما ينساه كثيرون هو أن ينظروا إليه كإنسان مثلهم، يحتاج أن يتحدث مع محب في آخر النهار، يحتاج أحياناً إلى جلسة نميمة مع الأصدقاء، يحتاج للحظات حنان وعاطفة، يحتاج أن يضمه حبيب إلى صدره، ويحتاج إلى من يكفكف دموع حزنه.
ننسى أحياناً أن رياض الترك، المناضل الذي دفع ثمناً من حياته من أجل حرية كل السوريين كان إنساناً، له ابنتان وزوجة وأصدقاء ورفاق درب وأنه غاب عنهم بما مجموعه تسعة عشر عاماً ونيف في الاعتقال
ننسى أحياناً أن رياض الترك المناضل الكبير الذي دفع ثمناً من حياته من أجل حرية كل السوريين كان إنساناً، له ابنتان وزوجة وأصدقاء ورفاق درب وأنه غاب عنهم بما مجموعه تسعة عشر عاماً ونيف، عدا فترة اعتقاله في زمن الوحدة قبل ذلك، وأن هذا الإنسان الجبار الذي تروى الحكايات عن قدرته الأسطورية على الحفاظ على عقله في المعتقل، لابد كان يمر بلحظات ضعف وحزن مذهلين، أعتقد أن تعاطفنا مع الإنسان يجعلنا نقدر ونثمن أكثر حجم التضحية التي قدمها خدمة لسوريا والسوريين.
مدينون ومدينات كلنا لرياض الترك وكل المعتقلين السياسيين لأنهم كانوا الشجعان الذين لم يخنعوا ولم يهادنوا، وسيبقى تاريخهم الناصع ذكرى في حكاية بلادنا القاسية، ولكن الأمل، كل الأمل، هو أن تطوى صفحة الاعتقال السياسي من بلادنا إلى الأبد، وأن لا يضطر أحد لأن يكون بطلاً بعد اليوم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم