شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
القصّ على ألسنة الحيوانات... للهروب من عصا الرقيب أم للوصول إلى جمهور أوسع؟

القصّ على ألسنة الحيوانات... للهروب من عصا الرقيب أم للوصول إلى جمهور أوسع؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والنساء نحن والتنوّع

الاثنين 23 أكتوبر 202312:25 م

يزخر التراث الأدبي العربي والعالمي بالمرويات التي تتخذ من الحيوانات أبطالاً لها، وقد اختار الإنسان القديم تقديم فكرته بهذا الأسلوب لأنه ينسجم مع حياته البسيطة، التي يشكّل الحيوان جزءاً أساسياً منها. وقد انعكس هذا الترابط حتى في العالم الروحي لديه، لسهولة تقديم العِظة والعبرة بتمثيلها على كائن يعيش في مجتمعات شبيهة، ومن جهة أخرى لأنها تحتمل تركيبته الجسدية المبالغ بها التي تطلبها الحكاية في أحيان كثيرة. ولعل أقدم ما وصلنا بهذا الأسلوب هي الأمثولة أو المثل الشعبي والحكايات الشفهية المتداولة. يقول ابن قتيبة: "إن العرب كانت تضرب المثال على لسان الهوام".

ووصل ذلك إلى الغناء الشعبي أو المرويات المغنّاة والمواويل، وانتقل إلى التدوين أيضاً. وفي عصور لاحقة، ولأسباب مختلفة مولودة بتطور الأنظمة الاجتماعية والسياسية التي ذهبت إلى تقييد الإنسان وحرياته، ومارست القمع بأشكاله على جوانب الحياة، اختار الأدباء أسلوب الترميز بالكتابة على لسان الحيوان، للتخلص من رقابة تلك السلطات على أنواعها، لإيصال صوتهم وانتقاداتهم إليها دون مواجهة وقول ما لا يقال دون خوف.

ولعل أشهر ما وصلنا، كتاب "كليلة ودمنة"، الذي هو في الأصل قصص للكاتب الهندي بيدبا، قام عبد الله بن المقفع بترجمتها والإضافة إليها حتى نُسبت إليه، وما زالت تتميز بالمتعة الطازجة حتى الوقت الحاضر، وهناك رسالة "الصاهل والشاحج" لأبي العلاء المعري، التي تُعدّ كنزاً لغوياً وفلسفياً استخدم فيها المعري الأسلوب الساخر والأحاجي اللغوية، وهناك قصيدة النابغة الذبياني عن الحية ذات الصفا.

تقوم بدمج الواقع السياسي بالجندري لتقدّم لنا مجتمعاً تحكمه الإناث ممثلات في القطة الحاكمة وما تقوم به من تضييق على الحريات والاضطهاد الذي يلحق بالعامة والأقليات، والتمييز على أساس الدين واللون والجنس حيث تعيش القطط الذكور في ظروف لا إنسانية (لا قططية)

والكتابة على لسان الحيوان غالباً ما تنقذ الكاتب من مغبة الارتباط بالجغرافيا، أو التاريخ المحدد الذي تتغير معطياته السياسية والاجتماعية وأيضاً الفنية والجمالية، فتبقى متعة التواصل مع القارئ على مر الزمان وتغيّر المكان.

وفي ظل استمرار سلطات القمع والأنظمة الشمولية التي تضع خطوطاً حمراء للإبداع، ما زال الأدباء يهربون إلى هذا الأسلوب في محاولة للإفلات من عصا الرقيب. فهل ينجحون؟

هذا ما يخطر في بالنا، ونحن نقرأ رواية الكاتبة المصرية منى البرنس (1970)، بعنوان "القط المنتظر"، المصنّفة بالنوفيلا، والتي نالت هذا العام جائزة الرواية الوطنية في الصين.

والبرنس روائية ودكتورة جامعية مُنعت من مزاولة مهنة التدريس الجامعي بعد مثولها أمام القضاء المصري إثر ظهورها في مقطع فيديو على صفحتها الشخصية في فيسبوك، عدّه القضاء غير لائق.

غلاف رواية "القط المنتظر"

تقدّم البرنس لروايتها بعبارة تفيد بأن الأحداث غير حقيقية، وهي محض خيال لقطّ حالم، وأن أي تشابه مع الواقع ليس إلا توارد خواطر بين القطط، وهي بهذا التقديم إنما تشتبك مع الواقع في إشارة ساخرة واضحة الدلالة لما تريده من تناول للواقع ومدى الإيحاء أو التشابه غير المعلن بينه وبين عالم الحكاية المتروكة للقارئ موازاته والوصول إلى التقاطعات معه.

منذ البداية، تحاول الكاتبة صنع المفارقة، ليس بتناول مجتمع قططي يعيش في جزيرة أو جزر متقاربة في إشارة واضحة الدلالة إلى الانعزال والانغلاق، بل أيضاً حين تعاكس واقع المجتمعات البشرية وتحديداً في البلدان العربية.

منذ البداية، تحاول صنع المفارقة، ليس بتناول مجتمع قططي يعيش في جزيرة أو جزر متقاربة في إشارة واضحة الدلالة إلى الانعزال والانغلاق، بل أيضاً حين تعاكس واقع المجتمعات البشرية وتحديداً في البلدان العربية، إذ تقوم بدمج الواقع السياسي بالجندري لتقدّم لنا مجتمعاً تحكمه الإناث ممثلات في القطة الحاكمة وما تقوم به من تضييق على الحريات والاضطهاد الذي يلحق بالعامة والأقليات، والتمييز على أساس الدين واللون والجنس حيث تعيش القطط الذكور في ظروف لا إنسانية (لا قططية)، واضحة ويصل اضطهادها إلى حد الاغتصاب من قبل القطط الإناث، وتعاني من التحرش في وسائل النقل والأماكن العامة، في محاولة صارخة لتبادل المواقع في ما يجري في المجتمع المصري والمجتمعات العربية كافة بحق المرأة.

يقف القانون بجانب القطط الإناث، ويحميها بسبب قلة المواليد الذكور في الجزيرة، ولكن هذا لا يمنح الإناث كما الذكور من القطط، حياةً أفضل بل كلها تعاني من الظروف الحياتية السيئة تحت سلطة القطة الحاكمة التي تحكم إلى الأبد، إذ لا أحد ينافسها في الانتخابات. لكنها وبعد عمر مديد من الحكم، تعلن عن رغبتها في إجراء انتخابات حقيقية. يثير ذلك تفكير القط البطل راجي بالترشح للانتخابات فهو الذي عاش سبعة أرواح لم يعد لديه ما يخسره وهو المثقف الذي يريد أن يكسر هذا الظلم الواقع على أبناء جنسه عامةً، وما يضاف إليه من ظلم أخواتها خاصةً، معللاً رغبته في التغيير وحتى في حال الفشل بالرغبة في فتح باب الأمل لدى الأجيال القادمة، فيقرر أن يتجول في جزيرة القطط للتعرف إلى سكانها واللقاء بشعبه وأخذ توكيلات منه تسمح له بخوض التجربة. وتشكل هذه الجولة فرصتنا للاطلاع على هذه الدولة وظروفها حيث يستعرض القط راجي واقع الجزيرة والجزر التابعة لها، وما تعانيه تحت سلطة القطة الحاكمة، وما لحق من ظلم بأفراد هذا الشعب وتاريخه من الاستبداد الممارس من قبل الحاكمة وأعوانها وخدمها، فنرى كيف تم التفريط بثروات الجزيرة وبتاريخها وآثارها، وكيف تطبَّق القوانين بأكثر من مكيال وحسب ما يراه أعوان الحاكمة دون أدنى انتباه أو مراعاة لاحتياجات الشعب والعامة كما تفعل كل الديكتاتوريات على أرض الواقع.

نشاهد في أثناء ذلك تفاوت ردود فعل أقرانه تجاه خطوته، بين الخوف والدعم والتأييد، فمنها من يخاف تأييد راجي، ومنها من يصفق له ويعلن وقوفه بجانبه، ومنها من يتمنى ويشجع ويعلن عن مساندته له. وكلما اجتاز مقاطعةً نتعرف أكثر على نماذج معيشية لشعوب أو فصائل مختلفة، تسكن جزيرة القطط والجزر التابعة لها وكأننا أمام جغرافيا تمتد أبعد من وطن واحد إلى أوطان عدة تعيش ضمن دائرة هذا الحكم ونموذجه في الانغلاق والرضوخ.

كانت القطة الحاكمة ذكيةً فلم تعتقل راجي كما فعلت مع إناث أردن الترشح للانتخابات، بل تركته يجوب الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها، وفي الوقت الذي تلاحقه خطوةً بخطوة لترهيب الأفراد والضغط عليهم لسحب البساط من تحت قدمي راجي المأخوذ بالتعرف على واقع ناسه ومذاهبهم وعباداتهم وآثارهم وأحلامهم وتجاربهم، حتى إذا حان وقت الجد اكتشف أنها أخذت توكيلات من المقاطعة التي يعتمد عليها، وأن الوقت داهمه، إذ قامت الحاكمة بتقديم موعد الانتخابات، ولم يعد لديه وقت لاستيفاء الشروط، كالفحص الطبي وجمع التوكيلات وغير ذلك. وأمام ترهيب السلطة يتخلى عنه الجميع بمن فيهم عائلته التي تلومه على هذا التهور، خشية ما يمكن أن يتخذه نظام القطة الحاكمة بحقها، فتتركه وحيداً وتغيّر سكنها حتى لا يلحق بها الأذى وتسوء حالة راجي الصحية فيدخل في غيبوبة وكأن حياته الثامنة تنبئه بالدخول في عجز شامل لا يفتح عينيه إلا على صورة حبيبته، وهي تضع بين يديه المولود الصغير وتقول له: إنها بذرتك.

فشل راجي في خوض الانتخابات، لكن الأمل يأتي في بذرته التي يمثلها المولود الصغير في إشارة إلى الأفكار التي زرعها في ذهن شعبه، خاصةً الجيل الفتي في إمكانية التغيير وطلبه.

يثير التساؤل حول اختيار الكاتبة للقطط نموذجاً هل لأنها تعيش بين البشر مما جعلها تتشبه بعالمهم؟

عنوان الرواية "القط المنتظر"، عنوان ذو وجهين؛ فمن جهة يحمل الأمل في تغيير الواقع عبر خوضه الانتخابات، ولكن فشله يجعل الأمل فكرةً للقادم ويجعل التغيير منتظراً عبر أحد الأبناء من سلالته، مما يأخذنا إلى الوجه الآخر لرمزية العنوان

ولعل هذا ما منح الكاتبة تلك الحيوية في وصف عالم القطط بمهارة عالية والتمييز بين أنواعها، سواء حركاتها أو أصواتها والتمييز بين هذه الأصوات وتوظيفها حسب الحالة، إلى المهارة في تخيّل عالمها الروحي وابتكار عبادات تخصها وطريقة أدائها ورموزها عبر خيال الكاتبة الغزير واستخدام وتوظيف التنوع بالصفات الخارجية كاللون والسلوك والنشاط والذكاء والقدرة على الاحتيال وطريقة المداعبة والقدرة على التحمل أو طريقة تناول الطعام ونوعه وغيرها.

كما يبدو اللعب على موضوع الأرواح السبعة التي يتمتع بها القط حسب ما هو متداول فكرةً ذكيةً، فهذه الأرواح تبقى ترافق القط، وتشير إليه، وحين يكون ساكناً إنما هو يتأمل أرواحه السابقة، وكأنها إشارة إلى تاريخ طويل، مستمر ومتتابع يحمل عبء الواقع نفسه ويحتفظ بتأثيره على الفرد مع اختلاف الظروف والزمن.

نجحت منى البرنس في التجول في عالم حكايتها بمهارة، في سرد سلس رشيق ولغة سهلة ممتعة تشدّ القارئ إلى الحكاية بصفحاتها دون توقّف، وفي اختيار الفكرة التي أدارت تشابكها في عالم غير بشري مقدمةً واقعاً مرمّزاً ساخراً ساحبةً ذلك حتى النهاية في اختيارها عنوان الرواية "القط المنتظر"، وهو عنوان ذو وجهين؛ فمن جهة يحمل الأمل في تغيير الواقع عبر خوضه الانتخابات، ولكن فشله يجعل الأمل فكرةً للقادم ويجعل التغيير منتظراً عبر أحد الأبناء من سلالته، مما يأخذنا إلى الوجه الآخر لرمزية العنوان، فالقط المنتظر يقابل ما زخر به التراث الروحي للإنسان منذ القديم في انتظاره الطويل للخلاص عبر ابتكار فكرة تجليات المنقذ المنتظر حامل الأمل بالنجاة والخلاص.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

نرفض أن نكون نسخاً مكررةً ومتشابهة. مجتمعاتنا فسيفسائية وتحتضن جماعات كثيرةً متنوّعةً إثنياً ولغوياً ودينياً، ناهيك عن التنوّعات الكثيرة داخل كل واحدة من هذه الجماعات، ولذلك لا سبيل إلى الاستقرار من دون الانطلاق من احترام كل الثقافات والخصوصيات وتقبّل الآخر كما هو! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، فكل تجربة جديرة بأن تُروى. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image