شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
برعوا في تجارة الحنظل ونساؤهم ارتدين الحجاب… بعضٌ من تاريخ يهود غزة

برعوا في تجارة الحنظل ونساؤهم ارتدين الحجاب… بعضٌ من تاريخ يهود غزة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

السبت 16 ديسمبر 202302:34 م
Read in English:

Looking at the history of Jews in Gaza: Remarkable diversity and tolerance

تعيش غزة واقعاً صعباً في ظلّ حربٍ طويلة تشنّها إسرائيل على القطاع، أسفرت حتى الآن عن عملية دمار واسعة وتصاعد غير مسبوق. المؤسف أن الصورة لم تكن كذلك أبداً قبل سنوات مضت، وهي سنوات تجاور فيها الطرفان وعاشا في هدوء ترعرعت فيه المصالح التجارية والحرية الدينية حتى أتى على غزة يومٌ في غابر الزمن أقام فيه "يهود غزة" لأنفسهم كنيساً دون أن يمسّهم أحد بأذى.

يقول فكري آل هير في بحثه "نقش الحقيقة السبئية: جغرافية التوراة ليست في اليمن": "يهود الأمس كانوا عرباً منّا وفينا، ولكن يهود اليوم ليسوا كذلك ولا وطن لهم في فلسطين". فيما شدّد الشيخ عثمان الطباع، في كتابه "إتحاف الأعزة في تاريخ غزة"، على أن غزة صمدت طويلاً ضد تمدد مُلك بني إسرائيل حتى في عهدَي سليمان وحزقيا اللذين بلغت فيهما المملكةُ اليهودية أوجهاً وتوقفت عند حدود غزة بسبب الحماية المصرية/الفرعونية لها من البطش العبراني.

ويُتبع الطباع أن اليهود نجحوا في دخول غزة سنة 96 م، بعد انسحاب الجنود المصريين منها، فضربوا عليها حصاراً لمدة سنة حتى نجحوا في دخولها وأحرقوا مبانيها وقتلوا أهلها. وفي العصر الحديث، نجحت إسرائيل في إخضاع قطاع غزة لسيطرتها مرتين؛ الأولى لبضعة أشهر عام 1956، إبان العدوان الثلاثي، والثانية لفترة أطول بكثير حينما احتلّته مُجدداً عام 1967، ولم ترحل عنه إلا في 2005، تزامناً مع تنفيذ أرييل شارون لخطة الانسحاب.

بحسب كتاب "تاريخ غزة" لعارف العارف، فإن دخول الإسلام إلى فلسطين كان بركةً على اليهود، وخلال القرنين السابع والثامن عاش "يهود كثيرون" في غزة. ولما كان الإسلام قد حظر صناعة الخمر، استغل يهود غزة هذا الأمر، واحتكروا هذه التجارة لفترة طويلة

استعرض فكري آل هير، في بحثه "نقش الحقيقة السبئية: جغرافية التوراة ليست في اليمن"، واحداً من أقدم النقوش التي تحدّثت عن حياة اليهود في غزة، وهو النقش "B-L Nashq Demirjian 1" الذي اكتشفه الباحثان فرانسوا برون وأندريه لومير في منطقة الجوف اليمنية، وعليه كتابة بالأبجدية السبئية عن غزوات قوات يمنية خرجت من سبأ ومعين إلى شمال جزيرة العرب، بعدما وقع اعتداء من الأعراب على القبائل اليمنية.

بحسب النقش، فإن الحملة اليمنية خرجت لتأديب الأعراب من مملكة لحيان التي ظهرت قديماً في شمال غرب الحجاز، وهدفت الحملة أيضاً إلى معاقبة حلفاء الأعراب، وهُم بعض اليهود في غزة.

الحقبة الإسلامية: انتعاش صناعة الخمر!

بحسب كتاب "تاريخ غزة" لعارف العارف، فإن دخول الإسلام إلى فلسطين كان بركةً على اليهود، وخلال القرنين السابع والثامن عاش "يهود كثيرون" في غزة. ولما كان الإسلام قد حظر صناعة الخمر، استغل يهود غزة هذا الأمر، واحتكروا هذه التجارة لفترة طويلة.

وضرب العارف مثلاً عدداً من أبرز "يهود غزة" الذين ذاع صيتهم في هذه الحقبة مثل الشاعر يوشع يربي نانان، الذي كان عضواً في محكمة شرعية يهودية، وفي 1026 م، ألّف كتاباً يرثي فيه ابنه الذي لاقى حتفه في غزة، وكذلك الحاخام موسى هنقش الغزّي الذي كان رئيساً للطائفة اليهودية في غزة.

برغم هذا الاستعراض، يبدو أن عدد يهود غزة كان ضئيلاً للغاية فلم يسترعِ انتباه الرحالة بنيامين التطيلي، خلال زيارته فلسطين قرابة عام 1173 م/ 569 هـ، فلم يُشر إلى أي وجود يهودي في غزة ضمن الإحصائيات التي قدمها عن أعدادهم في المناطق التي زارها.

في كتابه "اليهود في شرق البحر المتوسط"، يستعرض الدكتور علي السيد، تجربة الحاخام عوبديا جاردا برتينورو، أحد اليهود الإيطاليين الذين هاجروا إلى القدس عام 1488 م/893 هـ، واستقرّ فيها حتى وفاته. خلال إقامته في فلسطين، كتب عوبديا 3 خطابات اعتنى عددٌ من المستشرقين بها كونها وثائقَ نفيسةً عن أوضاع اليهود في فلسطين خلال هذا الوقت، الذي كانت فيه هذه المنطقة خاضعةً لدولة المماليك في مصر.

حكى عوبديا، عن زيارة له إلى بعض أصدقائه اليهود في غزة، قائلاً: "أمضينا في غزة مدة 4 أيام حيث كان يقيم فيها أحد اليهود البارزين المهاجرين من ألمانيا ويُدعى الحاخام موسى أف براغ"، ثم يضيف عوبديا: "قام بدعوة جميع شيوخ اليهود لتناول الطعام معنا في بيته حيث قدّم لنا تشكيلةً من الكعكات المطهية من الكروم والفواكه وتناولنا صنوفاً من الشراب الذي أدخل علينا سروراً عظيماً".

وصف عوبديا غزة بأنها "بلدة متسعة وجميلة تشبه في حجمها حجم القدس"، مشدداً على أن غزة لم يحط بها سورٌ يحميها من الاعتداءات، ولم تخلُ انطباعاته عن غزة من قناعاته التوراتية، فكتب: "رأيتُ بأم عيني هناك أطلال الأبنية التي هدمها شمشون فوق رأس الفلسطينيين".

أيضاً في 1481 م، قام الحاخام ميشولان بن مناحم، بزيارة إلى غزة حيث أعدَّ له "شيوخ اليهود في غزة استقبالاً حافلاً" وعلى رأسهم الحاخام موسى براغ، الذي سبق أن استضاف عوبديا. تمتع الحاخام موسى بدرجة جيدة من الثراء مكّنته من شراء منزل ومزرعة في غزة. وفي العام نفسه، زار السائح ميشو لام، وهو من يهود إيطاليا، قطاعَ غزة، وسكن في أحد خاناته المزدحمة بقوافل السائحين، وفي شهادته عن زيارته أعرب عن صفاء هواء المدينة وطيب ثمارها.

بحسب شهادة عوبديا، فإن غزة ضمّت بين جنباتها من المسيحيين واليهود أكثر من الموجودين في القدس، وقُدّر عددُ يهود غزة بما بين الخمسين والستين أسرةً "يملكون معبداً صغيراً جميلاً تحيطه المنازل والحقول الخاصة به".

بحسب شهادات كلا الرحالتين، فإن يهود غزة كانوا منصهرين تماماً في المجتمع العربي الذي شهد تعايشاً لافتاً خلال هذه الحقبة؛ فالمسلمون كانوا يفرّقون أرغفة الطعام صدقةً على قبور الأنبياء إبراهيم وإسحق ويعقوب، ونساء اليهود كنّ يضعن الحجاب ويزرن الأماكن المقدسة بحرية، وشدّد الرجلان على أن يهود غزة اتّبعوا عادات المسلمين نفسها في المأكل والمشرب، وحتى في طريقة النوم.

العثمانيون

ادّعاءات عوبديا الإحصائية بشأن تفوّق عدد يهود غزة، على يهود القدس، يُمكن الاطمئنان إلى صحتها إلى حدٍّ كبير إذا ما قارنّاها بالمسح السكاني الذي أجرته السُلطات العثمانية لعدد سكان القدس عام 932 هـ/ 1525 م، والذي يثبت أن عدد اليهود فيها بلغ 115 نفراً، بعضهم جماعة من يهود غزة وفدوا إلى القدس وسكنوا فيها، وفقاً لكتاب "دراسات تاريخية شامية" لمحمد عدنان البخيت ونوفان رجا.

ووفقاً لكتاب العارف، عبّر عام 1598 م أحد يهود غزة عن المدينة فناً، فرسم لوحةً كتب عليها "غزة: بلد شمشون... مدينة جميلو". وعندما احتل نابليون غزة عام 1799 م، غادر المدينة الشطر الأكبر من اليهود. وفي عام 1911، كانوا جميعاً قد باتوا خارج غزة حتى تحوّل كنيسهم إلى مكانٍ مهجور، ولما احتلّ إبراهيم باشا غزة عام 1831 م، أمر ببناء سور عسقلان من أنقاض الكنيس اليهودي.

منذ 1880، بدأ اليهود بالسكن في غزة من جديد، وحينما زار الحاخام يحي ثيل بريل، المدينةَ بعد عامين، وجد طائفةً يهوديةً بارعةً في التجارة، خاصةً في تجارة الحنظل الذي كانوا يصنعون الأدوية من جذوره، ويصدّرونها للخارج. زار الحاخام حارة اليهود، ورأى على أبواب اليهود كلماتٍ بالعبرية تحمل دعواتٍ إيمانيةً إلى الله.

الانتداب البريطاني: أسافين الخلافات

بحسب كتاب "المشروع الصهيوني وبدايات الوعي العربي لمخاطره" للدكتورة سهيلا الشلبي، فإن عام 1908 شهد بداية نشأة النشاط الاستيطاني المُنتظم من الصهاينة على أرض فلسطين عبر التوسع في شراء الأراضي وتهيئتها لتحويلها إلى مستعمراتٍ يهودية، وهو ما أدّى إلى سخونة الأوضاع في فلسطين وتعددت المواجهات المسلحة بين العرب واليهود، ومنها واحدة جراء محاولة بعض أهالي قرية "كفر كنا" الاستيلاء على بعض الأراضي في غزة التي نجحت الجمعية الصهيونية الاستيطانية في الاستحواذ عليها.

في هذا العام نفسه، بلغ عدد يهود غزة 160 فرداً، وخلال اشتعال الحرب العالمية الأولى سكنت القطاع قرابة 30 عائلةً يهوديةً منها عائلات "آلكائيم" و"وايسمان" و"آرواس"، وكان أفرادها يعملون في تجارة الحبوب.

وفي آب/أغسطس 1911، أعدّت الخارجية البريطانية تقريراً تناول توسّعَ عمليات شراء الأراضي من قِبَل الجماعات اليهودية في غزة، ومنها قطعة أرض اشتراها اليهود في غزة من عرب الرميلات، وعلى إثر هذه الصفقة نشرت صحيفة "المقتبس"، استغاثةً بعث بها أحدُ مواطني غزة جاء فيها: "اللهيب قد اتسع عندنا وتهافت العرب على التخلُّص من أراضيهم حباً بالأصفر الرنان (يقصد الذهب)"، وختم المواطن الغزّي رسالته بنداء إلى متصرف القدس بضرورة التدخل ووقف سريان هذا اللهيب.

بحسب شهادة الحاخام عوبديا، فإن غزة ضمّت بين جنباتها من المسيحيين واليهود أكثر من الموجودين في القدس، وقُدّر عدد يهود غزة بما بين الخمسين والستين أسرةً "يملكون معبداً صغيراً جميلاً تحيطه المنازل والحقول الخاصة به"

يقول العارف: "أخذ العرب ينظرون لليهود نظرةَ بغضٍ بعدما قامت في البلاد الفلسطينية ثورات عديدة ضد اليهود اشتركت غزة فيها جميعاً، وخاصةً ثورة 1929 التي زادت من حرج موقف اليهود، فغادروا القطاع بسببها، وكان عددهم وقتها قرابة 60 عائلةً، ولم يرجع إليه منهم أحد بعد ذلك التاريخ".

لكن يبدو أن التهجير اليهودي من غزة لم يكن تاماً، بدليل استمرار الحديث عن وجودهم حتى سنوات قريبة نسبياً، فقبيل شهور من اندلاع ثورة تموز/يوليو 1952، كشف محمد نجيب في مذكراته "كنتُ رئيساً" أن حسين سرّي عامر، قائد حرس الحدود، اعتاد أن يبيع البترول والذخيرة ومخلفات الحرب العالمية الثانية في الصحراء الغربية إلى "جماعة من اليهود في غزة".

عدّ الضباط الأحرار هذه الأنشطة جريمةَ خيانة عظمى، فوضعوا خطة لاغتياله، وهي محاولة الاغتيال السياسي الوحيدة التي خطّط لها تنظيم الضباط الأحرار وسط تردّد من قادته، وعلى رأسهم عبد الناصر الذي اعترف في كتابه "فلسفة الثورة"، بأنه حمَد الله حينما قرأ في صحف اليوم التالي أن حسين عامر بخير بعدما نجا من محاولة الاغتيال.

وحتى اليوم لا تزال حارة اليهود قائمةً في غزة، بعدما سكنتها عائلات عربية بدلاً من الأسر اليهودية التي رحلت عنها، وضمّت هذه الحارة قبراً فيه عدد غير محدود من أُسر اليهود كان من الممكن جداً أن تستمر حياتهم المتناغمة مع جيرانهم المسلمين جنباً إلى جنب كما كانوا في الماضي، فقط لو لم تظهر إسرائيل!

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image