شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
قصر الملك الحسن الثاني

قصر الملك الحسن الثاني "المسكون" في أغادير… أو لماذا يصدّق مغاربة الخرافات؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والحقيقة

الأربعاء 13 ديسمبر 202310:18 ص

تلف سيرة حياة الملك المغربي الراحل الحسن الثاني العديد من النوادر والخرافة. لعل من أبرزها تلك التي تتعلق بقصره الفخم في أكادير.

يتردد أن الملك الراحل أراد تشييد أحد أفخم الصروح في المملكة، بمدينة أكادير، التي تقع في جهة سوس ماسة. وقد كان بني القصر في غاية الجمال على الطراز المغربي الأصيل، وكل ما فيه من المقاعد والموائد حديث ولا يعيبه شيء، حتّى أن شكله الخارجي كان مصدر افتتان للمارة والعابرين.

لكن وكما يقول المثل الشعبي المغربي الشهير: "يا المزوق من برا، أش خبارك من الداخل"، أي أنه بديع وجميل من الخارج، لكن ماذا عن داخل الأسوار؟ 

"إذا ما زرت المدينة ومررت بجانب القصر، سيقشعر بدنك وسينقبض قلبك من شدة الخوف"، هذا ما ذكره لرصيف22 أحد ساكني المنطقة. وقال آخر: "أمور مريبة تحدث خلف الأبواب الموصدة، لا صوت يأتي منها ولا رسالة، مجرد صمت رهيب يجوب أركان القلعة... وحرس شديد مشتت حولها".

الكثير من الغرابة والمبالغة وأحياناً السذاجة تلف قصة قصر الملك الحسن الثاني "المسكون" في أكادير. فهل كانت حيلة لإبقاء اللصوص بعيداً عنه؟

أشباح وجن؟

يقال إن الأشباح ظهرت لأول مرة في القصر فور انتهاء أعمال بنائه، خلال إحدى الليالي الهادئة، فعبثت بأثاث البلاط وحركته عن موضعه، وأحايين أخرى كانت تلقي به خارجاً نقلاً عن الخدم، وبعدما بلغ الخبر الملك، حضر ومعه عدد من الفقهاء والعلماء وطلبة العلم، آملاً إخلاء القصر من الجن برقية شرعية وتلاوة القرآن. 

قصص مختلفة راجت عن مشاهد فيلم رعب وأمور غريبة كانت تحدث خلال تلك الجلسات القرآنية، وقد أمعن فيها الملك البصر والحاضرون من شدة الدهشة. قيل إن الزرابي كانت تتطاير من حولهم، والثريات تتأرجح وصينيات الشاي وكؤوس البلار تقفز من مكانها كأنما الأرض قد زلزلت داخل قاعة العرش، وصالونات الاستقبال وباقي جنبات القصر بأكمله. مع توضيح بأن من استوطنوا القصر تشبثوا بالمبنى الفاخر وأبوا مغادرته. 

قيل أيضاً إنه في إحدى الجلسات، كلف الملك حاجبه وبعضاً من الفقهاء بالتنسيق في ما بينهم على شكل مجموعات والذهاب يومياً إلى القصر "المسكون"، والبدء بتلاوة القرآن ورش "ماء الرقية" في جميع زواياه. ومما شاع أن كائنات من الجن الأزرق أو جن الشواطئ تراءت لهم وبدأت في رشقهم بقطع الأثاث والأحذية، كما خيّل إلى مسامعهم أصوات تشبه عويل النساء وصراخ الرجال وبكاء الأطفال وقد تزداد حدتها كأن تتخذ صوت جموع من القردة الغاضبة.

بالرغم من ذلك، استمرت الجلسات لأشهر من الزمن دون فائدة، وفق الرواية. 

وكما تتعدد الروايات حول ما يحدث في قصر أكادير، تكثر التفسيرات والمزاعم حول سبب "سكنه بالجن والأشباح". روي مثلاً أنه بُني فوق مقبرة مهجورة، وقيل كذلك إنه مقام على ضريح "ولية صالحة"، كانت تدعى لالا ميمونة الكناوية. آخرون يؤمنون بحكاية سيدة عجوز كانت تعيش وحيدة مع أغنامها لسنين على تلك الأرض، وبعدما سمعت بخبر بناء القصر، أبت الرحيل خالية الوفاض، فهرعت إلى تلاوة تعاويذ من السحر الأسود، رمت القصر بثالثة الأثافي، وسرعان ما حوّلت جنة الملك إلى جحيم.

وهناك من يعتقد أن الأرض قد انتزعت غصباً من ملاكها وهم ثلاثة رجال إخوة، يعملون في العطارة، لجؤوا إلى السحر الأسود من أجل الانتقام.

ما مدى صحة هذه الروايات؟

إلى ذلك، تختلف معتقدات الناس في المغرب حول صحة حكاية القصر "المسكون" بأكادير، بين من يراها مجرد خرافة سائدة، ومن يؤمن بصحتها، لاعتبارات متباينة. 

نورة (42 عاماً)، من أكادير، تقول لرصيف22: "منذ نعومة أظافرنا ونحن نسمع أن القصر مسكون... يقال إن كل من يمر بجانبه يسمع أصواتاً مريبة. أما عن الطريق التي تمر به، فتشهد حوادثاً غريبة".

تضيف لها خديجة (35 عاماً) من نفس المنطقة: "سمعت بقصة هذا القصر من الجيران. قالوا إن الأبواب كانت تفتح من تلقاء نفسها ليلاً. كما كانت تصدر من خلفها أصوات أشبه بحوافر الخيل وهي تجري، كأنه موسم فروسية".

لكن يونس (31 عاماً) يرد على ذلك: "أنا ابن المنطقة وقد سمعت بهذا الكلام العجيب منذ أن كنت صغيراً، لا أظن أن في القصر جن أو عفريت، مجرد حكاية كانوا يخيفوننا بها".

ويقول محمد (28 عاماً): "الحكاية أن الملك الراحل لم يكن كثير الحضور لقصره في أكادير... في نظري إنها مجرد حيلة لإبعاد اللصوص والمتطفلين من الحوم حول القصر".

 "الإيمان بالأساطير والقصص الخرافية في المجتمع المغربي ما هو سوى نتاج معتقد إنساني يؤمن بالخرافات وبالجن، وهذا الأمر متوقف بالأساس على طبيعة التنشئة الاجتماعية التي تلقاها الفرد"

أسطورة القصر "المسكون" في ميزان العلم

كل هذه الأقاويل والأحاديث أتت لنشر خرافة القصر المسكون على نفس النهج الذي مضت وفقه كل الحكايات الشعبية والأسطورية التي يؤمن بها المغاربة، وكأنها تنقل من مصدر وحيد، ويؤكد ذلك انطواء رواية القصر على كثير من صور المبالغة والغرابة والسذاجة أحياناً.

الحديث هنا عن الأسباب والمحددات التي بنيت عليها أسطورة القصر وكيف سلّم العقل البشري لتلك الأساطير والخرافات بهذه البساطة؟

أستاذ علم الاجتماع، بكلية الآداب سايس بفاس، سعد الدين إكمان، يقول رصيف22 رداً على هذا الاستفسار إن "الإيمان بالأساطير والقصص الخرافية في المجتمع المغربي ما هو إلا نتاج معتقد إنساني يؤمن بالخرافات وبالجن، وهذا الأمر متوقف بالأساس على طبيعة التنشئة الاجتماعية التي تلقاها الفرد في الأسرة والمدرسة والمسجد والشارع والإعلام وغيرها من مؤسسات". ويضيف أن هذه التنشئة "تحكم طبيعة المعرفة التي لديه وبالتالي تؤثر في موقفه".

وبالعودة إلى حكاية القصر المسكون، فالملاحظ أن مسألة الترويج لها بين سكان المدينة كانت كفيلة لجعل الكثير منهم يتجنبون المرور بجانبه وبالأحرى اقتحامه أو سرقته، ويمكن اعتبار هذا الأمر خدعة أو تكتيكاً محكماً بهدف حماية القصر... خصوصاً وإنه "داخل المجتمع السوسي يتغلغل الاعتقاد بالخرافات والشعوذة منذ قديم الزمان وذلك نتيجة إيمان الكثيرين رجالاً ونساء بنجاعة هذا الصنف من الخدمات في نمط العيش المشترك إلى جانب قلة من لا يعيرون أي اهتمام لتلك الترهات"، حسب ما جاء في كتاب "السحر والشعوذة بسوس" للباحث في التراث السوسي، جامع بنيدير. 

ويشرح الباحث ذلك: "منطقة سوس تنتشر فيها ثقافة السحر والشعوذة على نطاق غير محدود، وذلك بفعل ما تحتضنه من مكونات ثقافية، دينية وصوفية طرقية تأتى لها أن تلتئم لتشكل ثوابت مميزة للتاريخ الاجتماعي والثقافي لسوس وساكنيها".

صار الإيمان بالأساطير والماورائيات يجسم مشكلة حقيقية أمام العقل الحديث، نتيجة التصادم بين معطيات الإيمان بالدين والأعراف والتقاليد من جهة، ورأي العلوم والطب من جهة ثانية، ومن العادي أن تروى الكثير من الوقائع والأحداث يومياً ولا حرج علينا في البحث عن صحتها فهي ليست قطعية، ما دمنا نقدم رؤية عقلية تحترم المنطق وطبيعة سير الأمور.

واستكمالاً لرحلة البحث عن حقيقة القصر "المسكون بالأشباح"، يربط عادل جباري، وهو طبيب نفسي، مسألة الإيمان الأعمى بالخرافة والأساطير في المغرب بطبيعة التربية والتنشئة للفرد، إذ يرى أنه "في المجتمع المغربي هناك تقاطع كبير بين ما هو علمي وما هو ديني، فعلمياً على مستوى الدراسات في الصحة النفسية، نشخص كمختصين مسببات أمراض نفسية كداء الصرع وحالات الاكتئاب ونوبات الهلع بوجود خلل في نظام عمل عقل الإنسان وقد يرتبط ذلك بموت خلايا دماغية أو بصدمات إنسانية إلخ... وفي جانب معاكس تماماً تنتشر تفسيرات وحلول تُبنى بشكل كبير على كثير من الرؤى بما في ذلك الدين، الميتافيزيقا والخرافة والموروث الشعبي... ولو كان سبب المشكل عضوياً بالأساس، وهذا أمر يشترك فيه المجتمع المغربي مع باقي المجتمعات العربية والإسلامية".

"منطقة سوس تنتشر فيها ثقافة السحر والشعوذة على نطاق غير محدود، وذلك بفعل ما تحتضنه من مكونات ثقافية، دينية وصوفية طرقية تأتى لها أن تلتئم لتشكل ثوابت مميزة للتاريخ الاجتماعي والثقافي لسوس وساكنيها"

ويستطرد: "المجتمعات تطورت بتطور العلم والبحث عن الأسباب المادية ونمى الإقبال على المصحات العقلية والأطباء النفسيين أكثر من أي وقت مضى. لذلك يجب ألا نغفل أهمية التثقيف والتوعية في هذا المجال وأخص بالذكر هنا، المدارس من خلال تبسيط مناهج العلوم والتشجيع على القراءة، والإعلام، من خلال إثارة الصحافيين/ات لمثل هذه المواضيع، إلى جانب أدوار المجتمع المدني تفادياً لحدوث أية تجاوزات في هذا الصدد".

هناك ألف حكاية وحكاية عجيبة أخرى، يؤمن بها المغاربة في جميع أرجاء الوطن، على نحو ما تؤمن باقي الشعوب في أقاصي الشرق والغرب بالمرويات الشعبية والأساطير وحكايات الساعة. وقد ربط عالم الاجتماع ومؤسس السوسيولوجيا المغربية، بول باسكون، معالجته للمعتقد المغربي بنمط عيش المغاربة وذكر أن المغاربة يعيشون، مثلهم في ذلك مثل السواد الأعظم من الشعوب، في ظل العديد من أنساق الاعتقاد، فهناك مجموعة متنافرة من الممارسات الطقوسية السابقة على التوحيد، ودين منزل _هو الإسلام هنا _ واحترام للعلم الحديث.

على هذا النحو، تجمع الحكايات والأساطير والخرافات الشعبية تحت سقف واحد، هو سقف الثقافة والموروث الشعبي، وتظل مجرد حكايات تتنقل بحرية من لسان إلى لسان، وتطرأ عليها تعديلات هنا وهنالك، لتناسب ثقافة هذا الشعب أو ظروف تلك الجماعة، لذا قد ينتج عن ترديدها زعزعة لليقين بالأنفس، وقد يكون جوهرها قائماً بالأساس على غبار الافتراءات والأكاذيب التي من شأنها إلهاء المرء عما يحدث في الواقع ودفعه أحياناً للهروب منه عوض مقاومته ومحاولة تغييره.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ألم يحن الوقت لتأديب الخدائع الكبرى؟

لا مكان للكلل أو الملل في رصيف22، إذ لا نتوانى البتّة في إسقاط القناع عن الأقاويل التّي يروّج لها أهل السّلطة وأنصارهم. معاً، يمكننا دحض الأكاذيب من دون خشية وخلق مجتمعٍ يتطلّع إلى الشفافيّة والوضوح كركيزةٍ لمبادئه وأفكاره. 

Website by WhiteBeard
Popup Image