على امتداد تاريخ المغرب المعاصر، مرّت أحداث وشخوص خلّدها التاريخ وأثثت المشهد السياسي المغربي لتبقى على لسان كل من فتح حديثاً عن التاريخ السياسي أو الحركات الثورية أو زعماء أحزاب، إذ ساهموا في محطات حاسمة من تاريخ المغرب الحديث. المناضل الثوري محمد البصري، الشهير بالفقيه البصري، واحد ممن رسموا تاريخ النضال السياسي ونشدوا الثورة على نظام الملك الراحل الحسن الثاني.
الطالب الذي واجه الباشا الظالم
من مدينة دَمْنَات في جبال الأطلس الكبير الواقعة في جهة بني ملال خنيفرة المغربية، وُلد محمد البصري سنة 1925، من أب من منطقة الأطلس وأم منحدرة من منطقة سوس جنوب المغرب.
نشأ "الفقيه" في أسرة محافظة حيث تلقى تعاليم الدين وحفظ القرآن وتعلم اللغة العربية وعلومها. خطواته الأولى في طلب العلم كانت في قريته وسط أهله وعشيرته، قبل أن يلتحق بمعهد ابن يوسف في مراكش سنة 1944، حيث التقى بالحاج المتوكل عمر الساحلي وعبد الله إبراهيم والمختار السوسي، الذين أصبحوا أعلاماً للفكر والسياسة، كما اطّلع على مؤلفات المفكرين الإسلاميين من الجزائر وبقية البلدان العربية.
عُرف البصري بنضاله ووعيه المبكر، وذلك بعد لقائه واحتكاكه بالمجاهد حمان الفطواكي إبان الانتفاضة ضد الباشا التهامي الكلاوي الذي كان حاكم مدينة مراكش وعُرف ببطشه وتسلطه.
ساهم البصري في المظاهرات الحاشدة الرافضة لما سُمّي آنداك بالظهير البربري (الذي أراد الفصل بين أمازيغ المغرب وعربه).
وواجه الباشا الكلاوي في تجمع خطابي، حين منع هذا الأخير تعليم البنات تحت مبّرر أن التعليم يقودهن نحو الدعارة. وهو ما أثار حفيظة البصري ليثور في وجه الكلاوي متهماً إياه بأنه الراعي الأول للدعارة في مراكش، ليصوب الكلاوي بندقيته في وجه البصري، ولولا تدخل موظفين استعماريين خشوا أن يؤدي إطلاق النار إلى مواجهات، لأطلق النار عليه.
حمل السلاح ورفض الاستقلال "الصوري"
آمن الفقيه البصري بضرورة حمل السلاح لمواجهة الاستعمار، وبأن الممانعة والمقاومة المسلحة هما الحل. وما كان له إلا أن يسهم بشكل فعّال في تأسيس جيش التحرير سنة 1953، في مدينة الدار البيضاء إلى جانب مجموعة من المناضلين والزعماء لتنطلق العمليات الفدائية التي ألحقت أضراراً كثيرةً بقوات الاستعمار الفرنسي، مما سيجعله محط أنظار سلطات الاستعمار لتتم ملاحقته، ومن ثم اعتقاله ليحاكم بالإعدام، وبعدها تمكّن من الهرب من سجن القنيطرة المركزي بعد أن أصبحت تفصل بينه وبين مشنقة الاستعمار خطوات قليلة. وعند استقلال المغرب عدّ الراحل البصري هذا الاستقلال شكلياً ولم ينضبط للقرارات التي أصبح جيش التحرير بموجبها ملزماً بالتخلي عن حمل السلاح.
عُرف محمد الفقيه البصري بنضاله ووعيه المبكر، قبل أن يلتحق بالمقاومة ضد الاستعمار ومن بعدها بالمعارضة المسلحة لنظام الحسن الثاني
شارك الفقيه البصري في مؤتمر مدريد لسنة 1956 الذي نظمته حركة المقاومة وجيش التحرير بقصد تحديد موقفها من تطورات الأوضاع، إذ تبنى المؤتمر مواقف الفقيه البصري، التي ترفض الاستقلال الشكلي للمغرب فضلاً عن المطالبة بتحرير سبتة ومليلية والجزر وإجلاء القواعد العسكرية وبعض المستوطنات، كما دعم الفقيه البصري الثورة الجزائرية وسعى إلى وحدة "المغرب العربي" آنداك.
على الرغم من ثورية الفقيه البصري، إلا أن علاقته بملك المغرب الراحل الحسن الثاني كانت "جيّدةً"، إذ كان الحسن الثاني يحترم الفقيه علناً على الأقل.
كان الفقيه أحد أبرز وجوه ما سيُعرف لاحقاً بالمعارضة، وألقى خطاباً باسم الشعب، إلى جانب محمد الخامس الذي ألقى خطاباً باسم العائلة الملكية في ذكرى ثورة الملك والشعب، بحسب الكاتب المغربي محمد عابد الجابري، الذي كان مقرباً منه، في مجلة مواقف (العدد6).
أدى ظهور التيار الثوري داخل حزب الاستقلال إلى انشقاق الفقيه البصري برفقة آخرين ليستمروا في نضالهم عبر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ولعلّ ملامح القطيعة العلنيّة التي طبعت مساره الثوري تجاه الملكية، ستظهر إلى العلن انطلاقاً من سنة 1962 التي سيقاطع فيها البصري ورفاقه الدستور واصفين إياه بالممنوح، مما زاد من حدة التوتر بينه وبين النظام ليُعتقل سنة 1963 في ما عُرف حينها بمؤامرة تموز/ يوليو، والتي تُوبع فيها ما يناهز خمسة آلاف من منتسبي الحزب الذين وُجّهت إليهم تهم التخطيط للإطاحة بالنظام واغتيال الملك الحسن الثاني في غرفة نومه في القصر الملكي، وألقي اللوم على جناح البصري بتنظيم المحاولة، بل كانت هناك مزاعم بأنه حضّر لمحاولة اغتيال الحسن الثاني وهو وليّ للعهد عام 1960.
"الإعدام الثاني" للفقيه البصري
بعد هذه التهم الثقيلة، سيواجَه الفقيه البصري بالإعدام مرةً أخرى، لكن ليس في زنزانة الاستعمار، إلاّ أن الحظ سيحالفه بعد تنازل الملك الراحل الحسن الثاني عن إعدامه وإفلاته من قبضة الإعدام للمرة الثانية، وكأن القدر يأبى أن يُسفَك دمه. إلاّ أن لعنة هذه الأخيرة ظلت تلاحقه وحُكم عليه غيابياً مرتين على التوالي في أيلول/ سبتمبر 1971، وكانون الثاني/ يناير 1974، وهو في المنفى.
لكنها الأحكام التي لم تثنِه عن الاستمرار في مساره الثوري. يحكي أمحمد التوزاني صاحب كتاب "ثورة لم تكتمل"، أنه التقى الفقيه البصري في دمشق، بمناسبة الذكرى الثالثة من "ثورة 8 آذار/ مارس" لحزب البعث، بعد مشاركة وفد من حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية حيث أخبره عن استعداده للانخراط في التوجهات الجديدة للحزب، ويحكي التوزاني عن إلمام الفقيه البصري بأحداث المشرق والمغرب وأوروبا وكذا كل المستجدات السياسة في البلدان الغربية.
حكم عليه بالإعدام أكثر من مرة، وتعرّض للتعذيب واختار المنفى، لكنه دافع دوما عن مغرب ديمقراطي تسود فيه العدالة والمساواة. محمد البصري اشتهر بالفقيه وأسهم في كتابة تاريخ النضال في المغرب الحديث
يقول التوزاني أن البصري وجه إليه دعوةً للحضور إلى الجزائر في 13 حزيران/ يونيو سنة 1973، لتشكيل الخلية الأولى للعمل المسلح برفقة عدد من منتسبي الحزب من المغرب، وبدء التدريب في الجزائر من أجل الثورة. لكنها التجارب التي فشلت وأبعد الجناح الموصوف بـ"البْلَانْكِي"، تدريجياً من قيادات الحزب الاشتراكي. فالسياق، وكان سياق توتر بين المغرب والجزائر واغتيال للقيادات التاريخية للاتحاد وسجنها، ارتأى أن يحول من دفّته السياسية تدريجياً إلى العمل الديمقراطي من داخل المؤسسات.
عودة ورحيل...
قضى الفقيه البصري سنوات طوالاً في المنفى متنقلاً بين باريس وبيروت والجزائر والقاهرة، مما زاد اهتمامه بقضايا الشعوب العربية، وكان محسوباً على التيار "القومي العربي". اهتم بالقضية الفلسطينية وكان رفيقاً لقياداتها، وبعدها بقضية العراق عقب العدوان الأمريكي، كما ظل ينادي بوحدة الشعوب العربية.
في عام 1995، بدأت ملامح المصالحة، بين حزب الاتحاد الاشتراكي وبين نظام الحسن الثاني، وإرهاصات ما سيسمى بحكومة التناوب. تميزت الفترة بعفو ملكي عن العديد من رموز المعارضة التي تخلّت عن السلاح قبل أكثر من عقدين، وعاد الفقيه البصري إلى أرض الوطن.
عودة دعا بعدها إلى "وحدة وطنية" وجمع شتات كل القوى وتأسيس ما سُمّي بـ"الكتلة التاريخية" التي تهدف إلى جمع التيارات التي لها امتداد جماهيري شعبي والتفافها حول قضايا الوطن والدفاع عن قضية الصحراء وإرساء الديمقراطية والمواطنة الحقة، ليبدأ صفحةً جديدةً مع رفاقه الاتحاديين الذين كانوا على وعي بضرورة عودته واستكمال مسار الحزب وفتح صفحة جديدة والسير إلى الأمام.
لكنها الدعوات التي لم يعِش طويلاً لسماع صداها، ولعلّ أبرزها وصول الحزب إلى رئاسة الحكومة بعد عقود من المعارضة بكل أشكالها. فقد أصيب البصري بجلطة دموية، وفقد ذاكرته ليرقد في مستشفى فرنسي ويعود بعدها إلى مدينة طنجة، حيث عاش أياماً قليلةً، قبل عودته إلى مدينة شفشاون المغربية التي ستنطفئ فيها روحه عام 2003، ليدفن في الدار البيضاء بإصرار من رفاقه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع