ما أريد قوله إنه، وبعد النكسة، توارثت عائلتي بطاقة شخصية تحمل كسراً بين رقمين، وهو إحدى الإنجازات القومية في بلادنا. على هذا يدرك السوري الخارج من الجولان بكامل قواه القومية أنه "نازح"، وهي ليست نقيصة شخصية على أي حال كما أرادت منها فئات سياسية أن تكون.
فعند نقطة التفتيش لطالما كان يستوقفني ذاك الجندي ليتساءل عن ذاك الكسر، على الأخص بعد الأحداث الكبرى في الجنوب عام 2011، فأعاود له شرح تاريخ النكسة، تماماً كما لو كنت أشرح لطلابي حصة القومية لكن مع قليل من الحذر، وكيف شكّل النازحون من شتاتهم مستوطنات في أحياء فقيرة، جنوب العاصمة وعلى طول المنطقة منزوعة السلاح جنوب البلاد، حينها فقط يدرك أنني من هناك، من ذاك الجيل المنكسر، فيتلطف وجهه ويقسو مذهولاً، كما لو كنت سبباً لكل تلك الهزائم العربية: "نازح؟"
فأجيبه بلهجة من اعتاد: "أي نعم، مطرود". ثم ينهي مازحاً: "ومبسوط؟"، ويربت بعدها على كتفي ضاحكاً، فألقي على الزفت أمامه أي ابتسامة وأمضي.
الملفت أنه حين طردت الحرب "الوطنية" الأخيرة كل السوريين من منازلهم، لم تعد كلمة نازح تجد معناها المعتاد، فأصبحت وصفاً يتساوى به الجميع كأسنان المشط، فكل أسبوع كان منزلي، كما الجميع في الجولان، يستقبل النازحين من كل المحافظات السورية، فتساوت حينها النكسة القومية مع خيباتنا الوطنية، أو هذا ما اعتقدته على أي حال.
لكن في كامب للاجئين في قرية منعزلة جنوب ألمانيا، الكل لم ينس أن يناديني باسمي المؤدلج لا باسمي العائلي. فإن أرادوا عملاً جماعياً قالوا: "اجلبوا لنا النازح"، وإن رغبوا في إجراء عمل تطوعي صاحوا ملء الحلق: "اعطوا النازح مكنسة"، وإن سعوا لترجمة بعض الأمور قالوا: "لربما يساعدنا النازح"، بل أكثر من ذلك، أصبحت غرفتي علامة فارقة، فقد سمعت أحدهم ذات مرة يسأل آخر عن مكان الحلّاق، فقيل له عن طيب خاطر: "تجده بعد المرحاض، قرب غرفة النازح".
في كامب للاجئين في قرية منعزلة جنوب ألمانيا، الكل لم ينس أن يناديني باسمي المؤدلج لا باسمي العائلي. فإن أرادوا عملاً جماعياً قالوا: "اجلبوا لنا النازح"، وإن رغبوا في إجراء عمل تطوعي صاحوا ملء الحلق: "اعطوا النازح مكنسة"، وإن سعوا لترجمة بعض الأمور قالوا: "لربما يساعدنا النازح"
على هذا المنوال لازال يوصف الرجل، في تلك الأحياء العشوائية جنوب دمشق وعلى أطرافها، وقرب شريط حدودي جنوب غرب البلاد، بقسوة بأنه غليظ القلب، لا يعرف القرآن وتضيع عيناه المرتجفتان في محجرهما كلما دخل غريب حيه. يتكلم لهجتين ويعمل في مهنتين، وبعد الحرب الأخيرة صار اسمه نازح مرتين، وعلى هذا اعتاد الموت أكثر من مرة، في ربوع هذا الوطن الجميل.
مطرود مرتين
البارحة، في حي ألماني منعزل، التقيت واحداً من سكان أحياء الشتات جنوب دمشق، من مشيته المرتجفة وكتفيه المتوترتين عرفت أنه من جيلنا المنهزم. غريب مثلي، منكسر ومتألم، وبفعل الترحال كان يهتز على الدوام، لكنه اليوم بات هرباناً من تلك العزب المنبوذة، وقد بدأ يبني حياة جديدة هنا، فقد عانى، على ما يبدو، أياماً قاسية في الوحدة، فانطبق عليه قول الجدات في أهازيجهن أيام النكسة: "بلا دف كان يرقص".
واكتملت تلك المخيلة لدي حين أخذ يحنُّ لكل ذاك الخراب الذي تركه خلفه في حيه، وهو يصخب في الحديث عن ماضيه العزيز داخل العشيرة هناك، وأخذ يتساءل: كيف لنا أن نلتقي هناك مرة أخرى؟
كان كلما تحدث معي، أقفل جملته بعبارة لطيفة ولها مدلولها: "فاهم يا خال؟". كلمة واحدة أحياناً تمنحنا هوية من نريد دون عناء، فكلمة من مثل "يا خال" والتي يستعملها نازحو ومهجرو جنوب دمشق، في أحياء سبينة ومخيم اليرموك والتضامن والحجر الأسود، وغيرها من تلك العشوائيات، تخبرنا كمّ المشاعر المستذلة التي نمتلكها. فعلاقة المرء في بلادنا تتقوى بخاله فقط حينما يخسر والده، لهذا جاءت العلاقة بالخال، لدى الجيل الثالث من هذه الأحياء، مقدّسة ولها رابطة حميمية تنمّ عن يـتم وتشرّد، وتبحث عن لمّ شمل ما. على هذا هم يرددون على الدوام مقولتهم الجميلة: "ما بيعبي التم إلا قولة يا خال".
وقبل أن يغادرني هذا الغريب القريب، أثقل يديه في يدي، ثم زرع عينيه في وجهي، فأرجعتني كدمات وجهه لأيام خوال، إلى البيئة التي نمى بها ذاك الفطر.
حي واحد يشبه كل الأحياء
العمارة القديمة التي سكنت بها في ذاك الحي كانت مملوكة لسيدة أربعينية نزقة، تمتلك على الدوام وجهاً قاسياً يشبه وجه نيكولاس كيج المضطرب، في فيلم "وزن الموهبة الذي لا يطاق"، وحين أقارنها اليوم بمالك المنزل اللطيف الذي أسكنه الآن في هذا الحي جنوب ألمانيا، أجد نفسي كمن يقارن بين وجهي نيكولاس كيج في فيلمه الشهير "الوجه المخلوع". أما زوجها فرجل طيب، ينطبق عليه ما يقوله سكان الحي عنه "الحبّاب". وكلما رأيت هذا الحبّاب، كنت أغصّ في صدري بسؤال أرغب في البوح به أمامه: "لماذا وجهك مثل كيس ملاكمة على الدوام، غارق بالندوب والشدوخ؟"، حتى جاءني الجواب منه بأن: "النساء يحببن ذلك يا أخي، فلا كرامة إن لم ندافع عن حقنا"، لكني لم أستطع سؤاله إن كان وجه زوجته النزقة يحتاج كل هذا العناء.
بالعموم كانت هذه قاعدة الحي الأساسية المعمول بها ولا زالت، فالرجال هناك، في المستوطنات السورية والفلسطينية المهملة، على أطراف العاصمة، كما كل مكان ،مثل ضباع العصور البليستوسينية المرقطة، تفني بعضها لتحظى بكرامتها.
في جنوب دمشق نمت العديد من الأحياء العشوائية المثيرة للدهشة، ومن بين تلك الأحياء هذا الحي. حي قديم واحد، ممزق ومسروق حرفياً من "فرناندو ميريليس" في فيلمه الروائي الشهير "مدينة الله". يطلق على هذا الحي إداريّاً اسم "سبينة"، أو كما يحبذ أبناؤه تسميته بهزل "إسبانيا المبتدئة".
شُكّل الحي منتصف القرن الماضي، بخرسانة اسمنتية غير مسؤولة، ومعها نَهبت المصانع حواف الحي على حساب المزارع، كما زحفت المنازل حول بعضها بعشوائية بطريقة تشبه لعبة "X.O"، ومن أعلى فهي تشبه إلى حد ما خبز التشوروز الإسباني المشبك.
خَلقت تلك الفوضى وتلك المصانع مكب نفايات عظيم يطلق عليه السكان اسم "الرابِش"، ولا أدري ما تعنيه تلك التسمية، غير أنه يعني "أشياء يستغنى عنها"، فهنا كل شيء يمكن الاستغناء عنه، حتى حين اشتعلت الحرب الأخيرة، تم الاستغناء عن كثير من البشر الذين وقعوا تحت حصار طويل مع الأحياء القريبة الشهيرة، مثل "مخيم اليرموك" وحي "الحجر الأسود" و"التضامن"، ففي هذه الأحياء حالة "تسموية" غير مألوفة، تشبه عبط ابن خلدون في ظواهر النكات.
تحول "الرابش" بمرور الوقت، وبفساد إداري لا يخفى على أحد، الى مكان يكسب منه صغار البروليتاريا لقمة عيشهم، من جمع الخردة والكرتون وتربية الماعز، والأهم أنه ملتقى المحبين ومن يجدّون في الاختباء من السلطات.
كان الحي ملاذ النازحين لسنوات، أولئك الهاربين من الجولان ومن فلسطين في السنون المرّة والأشهر بتاريخ الأمة (1948 و 1967)، وخلال تلك العقود، اختلط الجيلان معاً، فشكلا كانتوناً ذاتياً وغير منظم قرب العاصمة، يشبه تلك الكانتونات التي وقعت بعد الثورة الهلفيكتية السويسرية نهاية القرن الثامن عشر، مع بعض الاختلافات.
وبما أن كل مركب اجتماعي فاسد، وهي صيغة ثابتة في العلاقات الاجتماعية، ولوضع حد لاقتتالهم المستمر وتنظيم أعمالهم وأشغالهم، انقسم الحي إلى قسمين، "المخيم" الذي يضم مكونات الشعب الفلسطيني، و"سبينة الكبرى" التي تضم عائلات من عشائر الجولان، والعشيرة في هذه الأحياء المدنية تأخذ هياكل شبيهة بالمافيا، وليس في الوصف ضغينة، فكما في قبائل الأيبري وفانكوفر الذئبية، باتت كل عشيرة مع مرور الوقت تلتزم بمناطق نفوذها وبحدودها، فشكلت مجتمعاً موازياً يفضّل حل خصوماته في ظل نظام عدالة محلي يديره قبضايات الحي، الذين تحولوا بمرور الأيام إلى حالة طوطمية مقدسة تستوجب الاحترام والقبول.
فعند دخول الحي لأول مرة، ينبغي للمرء أن يحتمي بعشيرة أو بأحد قبضاياتها. كما في كل حارة، هناك شابان يحرسان مداخلها بشكل طوعي، لهذا قلّما تجد شخصاً (رجلاً وحتى امرأة) لا يحمل في جيبه سكين من نوع كرونداري. وهي حالة جاءت من البداهات اليومية، فكل فرد هنا يجد نفسه حارس جماعته، لأن جماعة المرء هنا شرفه، ومن النادر أن تدخل إحدى الحارات مرتين دون أن يتم سؤالك، وغالباً أذيتك، فمن غير المحبب أن تسلك الطريق مرتين، وهي قاعدة بدوية قديمة توارثتها أجيال الحي جيلاً إثر جيل.
كما أن اللجوء إلى الشرطة لحل الخصومات يعتبر وسيلة المستضعفين بالنسبة لسكان الحي، وهو أمر تماشت معه السلطة المركزية في دمشق على أن لا يثير لها القلق ولا المتاعب، وأي شرطي يود مزاولة مهنته في الحي عليه أن يحتمل عواقب أن يكون "سوبرماني" في حي "كيدارباتي" الشائع في المخيال الهندي.
الشرق الأوسط هو الوحيد في العالم الذي لازال يخوض حرباً مستمرة منذ الحرب العالمية الثانية، ومع بداية الألفية الجديدة، تعاظمت تلك الأحياء بشكل ملفت، وكأنها جولة جديدة من الحرب باتت تتسع لتأكل مدن كبرى
يتشابه شبان الحي من حيث الظواهر الكارزماتية بالشعر الكيرلي المعقوف والأنوف المدببة الموحدة والسمرة المستعارة من حوض المتوسط، والتي تتلاقي على أغلب الظن مع مجمعات البولستاي العرقية العائدة لأواخر الألفية الثانية ق.م في حوض البحر الشرقي. كما ويرتدون بناطيل ذات جيوب كثيرة، ويلفّون كوفية حول العنق، وهو نمط من أنماط الثقافة المحلية التي لم تتغير بمرور الوقت.
يمتلك السكان هناك لهجتين بلكنتين، الآباء من الجيل الأول والثاني الذين يتحدثون اللهجة الفلاحية والبدوية، والأبناء من الجيل الثالث ممن مزجوا لهجة الآباء بلهجات دمشق المتوسطة، وحتى بلهجة مهجّري فلسطين في الحي، فكوّن هؤلاء لهجة خاصة تفضل نطق الحروف اللثوية كما الدمشقية بالزاي، في حين بعضهم، وهم قلة قليلة، يلفظون الجيم غير معطشة، لتكون جيم حنكية قصيّة، مع استمرارهم بلفظ حرف القاف المعقودة، أي التغيير كان في الأحرف المجهورة فقط، مع مط في أغلب قوافل الحروف.
حي كبير يبتلع أمة
بالعموم، الشرق الأوسط هو الوحيد في العالم الذي لازال يخوض حرباً مستمرة منذ الحرب العالمية الثانية، ومع بداية الألفية الجديدة، تعاظمت تلك الأحياء بشكل ملفت، وكأنها جولة جديدة من الحرب باتت تتسع لتأكل مدن كبرى، حتى تحول الشرق الأوسط اليوم، في توسعه الأفقي الممتد من "أفغانستان 2001" إلى "لبنان وسوريا 2011"، لحي عشوائي عملاق يصدّر الفوضى والمطرودين إلى كل العالم، وتديره قبضايات وعشائر ترتدي الكوفيات، وتختال بندوبها أمام نسوة الأحياء المجاورة. ولكرمى ذلك، كان كل حي في هذه السلسلة يسعى لإنهاء الآخر كما لو كانت حرباً مكتملة، كما لو أنها "حرب ستنهي كل الحروب"، فتسايلت لأجل ذلك دماء زكية من مفارض السكاكين والمناجل والسلاسل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه