في تاريخ البشرية، يعتبر وجود الحدائق العامة واحداً من مؤشرات الانتقال من البداوة إلى المدنية، حيث تمثل الحديقة جسراً يربط الطبيعة بالمجتمعات الحديثة، على حدود المكانين الذين أسّسا لحضارة الإنسان: الزراعة والتصنيع، الطبيعة وأساليب الرفاهية، حيث يكشف وجود الحدائق العامة وسط المدن أو على أطرافها، عن ديناميكية المدن وتحولاتها عبر الزمن، وتقاس رفاهية المدن الغربية بالمساحات الخضراء الموجودة فيها والتي تسمى "رئات المدن"، إذ خلّف بناء المدن الحديثة، ناطحات السحاب والكتل الاسمنتية الضخمة، نوعاً من الشعور بالذنب لدى الإنسان الحديث لاستهلاكه البشع للغابات الطبيعية، فحاول أن يعيد هندسة الفراغات الطبيعية بما يتناسب مع أسلوب حياته الجديد.
وللحدائق في العالم العربي قصّة أخرى، تقارب المقدّس، قبل أن تختفي تحت تأثير الهوس المتنامي بالتحديث الذي عُرف منه "السلالم المتحركة"، الأدراج التي لا تنتهي وكتل الاسمنت الشوهاء.
كيف ظهرت الحديقة في المخيلة العربية الأدبية والدينية، ومن أين استمدت صفاتها كما نعرفها اليوم؟
بدا شكل "المصنع" أكثر إغراء من البستان، وشكل الآلات ببكراتها العملاقة ومعدنها اللمّاع أكثر إثارة للإنسان العصري، فنشأ مفهوم "المتنزهات الترفيهية" التي هي نموذج متطور لكن مدفوع عن الحدائق العامة، بزحليقات ودمى ضخمة وأكشاك لبيع "الهوت دوغ" و"الفلافل العصرية"
دمشق، بغداد: جنّة الإسلام الأول
جاء في كتاب "نزهة الأنام في محاسن الشام" لأبي البقاء عبد الله بن محمد البدري، ما نقله عن ابن جبير من وصف دمشق: "وقد سئمت أرضها من كثرة الماء، وامتدت بشرقها غوطتها الخضراء امتداد البصر، وقد صدق القائلون: إن كانت الجنة في الأرض فدمشق لا شك فيها، وإن كانت في السماء فهي بحيث تسامتها وتساميها"، وقال الميدومي في كتابه "لطايف الأعاجيب"، حسب ما يورد البدري: "كان بغوطة دمشق أشجار تحمل الواحدة منها أربع فواكه: كالمشمش، الخوخ، التفاح والكمثرى، وبها ما يحمل ثلاث، وأقلها اللونان من الفاكهة، وإني رأيت الكرمة الواحدة تطرح العنب الأسود والأبيض والأحمر معاً، ورأيت بوادي النيربين شجرة توت تطرح التوت الأبيض والأسود".
يقول غايل جيلو، جغرافي ومحاضر في جامعة السوربون، في مقالته "من الجنة إلى دريم بارك"، إن التغيرات التي خضعت لها المدن العربية بتأثير الاستعمار الغربي عكست الانتقال من "مدينة عربية" إلى مدينة حديثة بالمفهوم الغربي، فـ"أصبحت الحدائق العربية مستوحاة من ديزني لاند أكثر من قصر الحمراء"، ويمكن قراءة التحول الذي خضعت له بنية المجتمع العربي ومدنه الحديثة من خلال النظر إلى الحدائق التي أنشأها وطرق تمثيلها في الحياة العامة.
"وفي الليلة 471 قالت:.. حتى وصل إلى جزيرة كأنها الجنة، ترابها زعفران وحصاؤها من الياقوت والمعادن الفاخرة وسياجها الياسمين وفيها عيون جارية وحطبها من العود القماري والعود القاقلي وبوصها قصب السكر وحولها الورد والنرجس والعبهر والقرنفل والأقحوان والبنفسج، أشجارها باسقة وأطيارها ناطقة وأنهارها دافقة.."، من كتاب ألف ليلة وليلة، لما يبدو أنه وصف لبغداد.
البلدان الصحراوية التي ظهر فيها الإسلام وتمدّد، كانت طبيعتها معادية للإنسان بشكل واضح
يقول غايل إن البلدان الصحراوية التي ظهر فيها الإسلام وتمدّد، كانت طبيعتها معادية للإنسان بشكل واضح، فالماء أثمن سلعة فيها، والتحكم بمخزونه هو شرط البقاء، ومن يسيطر على الماء فيه يسيطر على جوانب الحياة الأخرى، وكانت الواحات، بما تمثله من نقيض للصحاري الممتدة، خصبة وظليلة، وبالتالي ليس مستغرباً أن تمثل الواحات، أو حتى المدن الغنية بالمياه، المرجع الأساسي لفكرة الحديقة الشرقية أو الجنة الإسلامية:
"فيهن خيرات حسان ۞ فبأي آلاء ربكما تكذبان ۞ حور مقصورات في الخيام ۞ فبأي آلاء ربكما تكذبان"، (سورة الرحمن)، وأيضاً: "إن المتقين في جنات ونعيم ۞ فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم عذاب الجحيم ۞ كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون ۞ متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين"، (سورة الطور). ليس صعباً أن نجد التشابه الهندسي والنباتي القائم ما بين الوصفين المستخدمين في نصوص متباعدة، منثورة هنا وهناك، تجمع الجنة الموعودة مع الشكل الأمثل للحديقة الخاصة، من توزع الأشجار والأسوار، الماء الجاري والأضواء الخفية.
يتابع غايل: "فإن كانت الواحة هي المرجع العام للجنة التي يصفها القرآن، فيبدو أن دمشق كانت نموذجاً مفضلاً لوصفها"، خصوصاً لناحية توزيع أقنية الري من نهر بردى على سبيل المثال، إلى الدور والبساتين، وهذا ما رآه التجار المكّيون والعابرون، ومن بينهم النبي محمد، الذين كانوا يزورون دمشق ويرون حدائقها وبساتينها، وينسجون صوراً متخيلة للجنة كما ينبغي أن تكون، كما صنعت هذه الصورة المنسوجة من البيوت الدمشقية بالتباين مع الحياة الصحراوية القاسية، إضافة للمفاهيم الإسلامية حول "الحلال" و"الحرام، ما يعرف بنموذج البيت العربي الإسلامي، من حيث التشابه في العزل الجندري وشروط الابتعاد عن الآخرين، أيضاً لأكثر من رمز موصوف يجسّد التصوّر الفريد للجنة في القرآن.
الاستعمار وفرض الجمالية الغربية
دخلت الطبيعة في أساس التصميم الحديث للمدن في القرنين التاسع عشر والعشرين في أوروبا، لجعلها مساحة للتنفس في إطار أخلاقي يقود جميع الأشكال الحضارية، وكذلك، استمرّ الأمر في البلدان التي وقعت تحت سيطرة القوى الاستعمارية الغربية، سواء في المغرب، مصر أو سوريا، حيث تولى الفرنسيون بناء مدن أخرى حديثة بجانب المدن القديمة، كنوع من التأكيد على السيطرة الأجنبية وإضفاء النماذج الحضرية التي وضعتها الإدارة الفرنسية، على سبيل المثال في الرباط/ المغرب، القاهرة/ مصر ودمشق/ سوريا، وصاحب هذا التخطيط العمراني، تصميم "أنظمة حديقة" تسمح بترشيد إنشاء مدن حديثة وخضراء حسب الشريعة الفرنسية التي استقرت عليها المدنية الفرنسية آنذاك.
هذا التحديث الجبري أدى إلى التخلي عن المراجع العربية في العمارة والهندسة، لأن من يبني لا ينتمي أصلاً لهذا البنية الاجتماعية وربما يكون معادياً لها حتى، ويرغب بالتخلص منها لاعتبارات عديدة، يختلط فيها السياسي بالاجتماعي بالديني، فشهدت هذه المدن "تمزقاً وحشياً في مفهوم المدينة" وكذلك في مفهوم الطبيعة في المدينة، فحديقة الأزبكية التي أنشأها محمد علي في القاهرة، أصبحت منذ الثلاثينيات مركزاً للقاهرة ونقطة التقاء مع المناطق التقليدية المحيطة، وتحت حكم الخديوي إسماعيل، تم تخفيض مساحتها إلى الربع وأخذت مظهر حديقة باريسية، حيث لم يتبق أي إشارات إلى فن الحدائق العربية، لا فسيفساء ولا نوافير ولا شيء من التخطيط الهندسي المربع الذي عرفته حدائق الشرق، كذلك الأمر في الرباط، حيث أقيمت حديقة "tringle de vue" بنفس اسم الحديقة الباريسية ونفس تصميمها، أما في دمشق فلم تفرض الحاجة إلى وجود حدائق، حيث كانت الغوطة ماتزال خضراء وخصبة، وكانت الحدائق التي أنشأها العثمانيون لا تزال مقامة، ورغم ذلك فقد وضعت الخطط لإنشاء بعض المساحات الخضراء، كحديقة المنشية، وكان التصميم الفرنسي واضحاً كل الوضوح في المسطحات الخضراء التي أُنشئت.
الطفرة النفطية التي دعمت صعود دول الخليج العمراني جعلهم يتجهون إلى تبني العمارة الإسلامية لكن بطريقة بعيدة عن روح هذه العمارة، واستجابة المعماريين كانت غالباً انتهازية، بحيث استخدمت العمارة الإسلامية برشّها على السطح كزخرفة لا بالاستيحاء من روحها السحيقة
الحدائق الحديثة في البلاد العربية
ليس الأمر مرهوناً بالمنطقة العربية فحسب، بل يبدو أن الأمر أصبح عالمياً، إذ بدا شكل "المصنع" أكثر إغراء من البستان، وشكل الآلات ببكراتها العملاقة ومعدنها اللمّاع أكثر إثارة للإنسان العصري، فنشأ مفهوم "المتنزهات الترفيهية" التي هي نموذج متطور لكن مدفوع عن الحدائق العامة، نوع من "حدائق بابل المعلقة" لكن بزحليقات ودمى ضخمة وأكشاك لبيع "الهوت دوغ" و"الفلافل العصرية". هذه الحدائق العامة، التي أصبح اسمها "بارك"، ليس فضاءات واقعية من الطبيعة، بل هي تنوس بين الملاهي الليلية والغابات الاصطناعية، بين البراكين المتفجرة من الأضواء الملونة والموسيقى الأميركية الصاخبة والحشود والاحتفالات، أصبحت شكلاً ساخراً يمزج بين حدائق غرناطة وسجن الباستيل ومنتجعات لاس فيغاس، على حد تعبير غايل جيلو. نوع من الجزر المنفصلة التي تمثل عوالم خيالية، وبالتالي لا مقاربة فيها لفكرة الجنة، إضافة للمزيد والمزيد من مظاهر الحماية بإحاطتها بأسيجة كهربائية وكاميرات مراقبة وحرس بثياب سوداء لإبعاد "الفقراء" عنها، ما يفقدها أي صلة بالحديقة/ الجنة التي أنشأتها الثقافة العربية الإسلامية.
وحتى أن تعزيز التراث الشرقي القديم، من خلال إحيائه عبر بناء ملاه شرقية حديثة، تحاول "مسرحة" الحكاية الشرقية نفسها، لإعادة تقديمها بقالب عصري حديث، مصمم خصيصاً للأجانب الذين يبحثون عن "سندباد" و"علي بابا" و"الأميرة ياسمين"، أو عن مغامرة شرقية مليئة بالحسّ الغامض والسحري، أصبح إنتاجاً كاريكاتورياً لأنه يعكس أيضاً التغير في روح المدينة الذي تكلمنا عنه في البداية، فبدلاً من أن تتطور المدن إلى نسخ عصرية بروح شرقية أصبحت تنسخ روحها التي ضيعتها في زحمة الهويات نفسها، فأصبحت تنسخ ما تظن أنه روحها، أو ما صوّره المستشرقون على أنه روحها، لاجتذاب المزيد من السياح الأجانب والعملات الصعبة..
كما أن الطفرة النفطية التي دعمت صعود دول الخليج العمراني جعلهم يتجهون إلى تبني العمارة الإسلامية لكن بطريقة بعيدة عن روح هذه العمارة، كما يقول ناصر رباط، أستاذ العمارة الإسلامية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، فنظرتهم الدينية المحافظة بعمق وسعيهم المحموم لهوية سياسية وثقافية متمايزة دفعتهم لتبني العمارة الإسلامية، لكن استجابة المعماريين كانت غالباً انتهازية، بحيث استخدمت العمارة الإسلامية برشّها على السطح كزخرفة لا بالاستيحاء من روحها السحيقة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...